الشراكة بين الرومانسية العربية والبراغماتية الأوروبية
تنعقد الدورة نصف السنوية لاجتماع وزراء خارجية بلدان الشراكة الأوروبية - المتوسطية يومي 30 و31 مايو في لوكسمبورغ.
وفيما ينتظر أن تتركز المباحثات على مراجعة مسيرة الشراكة الاقتصادية والسياسية والانجازات التي تحققت منذ انطلاقها قبل عشرة أعوام، تبدو الحصيلة أقل من المؤمل بكثير.
تقبل البلدان العربية على استحقاق الذكرى العاشرة لندوة برشلونة، وقد تدفقت مياه كثيرة في البحر المتوسط، مما باعد أكثر بين أهل الضفة الشمالية وسكان الضفة الجنوبية. واستطرادا، فإن ملامح المشهد الذي كان سائدا في نوفمبر 1995 تغيَـرت بالكامل تقريبا.
فقد دخل الحلف الأطلسي ثم مجموعة الدول الثماني الأكثر تصنيعا على خط الشراكة وانضم أعضاء جُـدد إلى الإتحاد الأوروبي وارتفعت أسوار أعلى عند بوابات القلعة الأوروبية لصدّ المهاجرين غير الشرعيين، ومراقبة خطر “الإرهاب” الذي غدا زجاجا يرقب من ورائه الأوروبيون حركة جيرانهم الجنوبيين.
تلك المتغيرات التي استجدَت في السنوات العشر الماضية، تطرح سؤالا جوهريا حول ندوة “برشلونة + 10” التي لا شاغل للحكومة الإسبانية سواها منذ أشهر: هل نحن بإزاء نسخة معدلة من برشلونة السابقة، مما سيقود سفينة الشراكة الأورو متوسطية حتما إلى المضيق الذي ساقتها إليه التجربة الأولى، أم نحن بإزاء تأسيس لمرحلة جديدة من العلاقات بين أوروبا والبلدان العربية؟ وما مُـرتكزات هذا التعاطي الجديد إن وجد؟
“استراتيجية أوروبا الأمنية”
بداية، لا يجوز الحديث عن أوروبا متجانسة. فإذا كان الملف المتوسطي مصدر تباعد بين ألمانيا وبريطانيا من جهة، وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا من جهة أخرى عام 1995 بسبب التبايُـن في تقدير الأولويات، فهو مثار خلافات أكبر حاليا بعد انضمام بلدان ليست لديها علاقات تقليدية مع المنطقة، بدءا من المجر (هنغاريا) وصولا إلى بلدان البلطيق التي تنظر بعين الريبة للبلدان العربية والإسلامية، ولا ترى فيها سوى “خزَان للإرهابيين”.
وهكذا، فإن أوروبا 1995 انتهت ولن تعود، وستكون الصيغة التي سيعرضها الأوروبيون على العرب في الخريف المقبل محصَـلة لتوافق بين أعضاء الإتحاد الخمسة والعشرين. لكن هذه الصيغة لن تبقى سرَا حتى يرفع عنها الستار في آخر لحظة مثلما يفعل المخرجون في السينما خلال ما يُـعرف بـ “العرض الأول” أو “العرض الخاص”.
هناك فصول ومشاهد كثيرة من فيلم برشلونة معروفة منذ الآن، ومن أبرزها وثيقة “إستراتيجية أوروبا الأمنية” التي اعتمدت في 12 ديسمبر 2003 والتي جاءت تكملتها في وثيقة “الشراكة الإستراتيجية مع المتوسط والشرق الأوسط” التي تم اعتمادها في 23 يونيو من العام الماضي، والتي حدَدت مفهوم سياسة الجوار.
من أهم ما جاءت به الوثيقة الأولى، فكرتان ستشكلان بعض أوتاد الخيمة التي سترتفع في سماء برشلونة في الخريف، وهما الترابط بين البعد السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي والبيئي في تكريس مفهوم الأمن الإقليمي، وكذلك علاج المشاكل من دون اللجوء إلى المجابهات مع اعتبار التنمية المستدامة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان أهدافا أساسية للشراكة المنويَ إقامتها.
وثمة ركن آخر مهم في الرؤية الأوروبية ينبثق من تلك المنطلقات، وهو التزامن بين التصحيح الاقتصادي والإصلاح السياسي، وهم يتخذون من نجاح معادلة الإصلاح في أوروبا الوسطى والشرقية مصداقا لصحة طرحهم وحجة للتمسك به لدى الحوار مع الشركاء المتوسطيين. ومبعث هذا التركيز، شعورهم بأن بلدان الضفة الجنوبية تتهيّـب من الإقدام على الإصلاحات السياسية، وتتلكأ في تحقيق النقلة الديمقراطية التي اجترعها الأوروبيون الشرقيون انطلاقا من إيمانهم بأنها صكَ الدخول إلى النادي الاتحادي.
“خطة العمل”
لكن لن تأتي الندوة المرتقبة بالجديد على هذا الصعيد مثلما يرى أحمد ونيس، السفير التونسي السابق وخبير العلاقات الدولية في تصريح لسويس أنفو لأنها، كما قال، لن تخرج عن الخيارات التي حددها الإتحاد وحسمها فيما بات يُـعرف بـ “خطط العمل” الخاصة بكل بلد، فقط ستُـعيد الندوة التأكيد على المبادئ العامة التي قادت واضعي تلك الوثائق، والتي نجدها مُـبلورة في الخطط الصادرة حتى الآن، والخاصة بسبع دول بينها أربع دول عربية، هي المغرب وتونس والأردن والسلطة الفلسطينية، بالإضافة لمولدافيا وأوكرانيا وإسرائيل.
فعند قراءة النقاط الخمس والثمانين التي تؤلف “خطة العمل” الخاصة بالمغرب، تبرز أربعة محاور مفصلية، يضيف ونيّـس، هي “دعم الأجهزة الإدارية المكلفة بالسهر على تعزيز الممارسة الديمقراطية وترسيخ دولة القانون، وتيسير اللجوء للقضاء والتعاون في مكافحة الفساد، وضمان حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية طبقا للمعايير الدولية”، وهي أولويات تكاد تكون متطابقة مع الأولويات الأربع التي تبرز من خلال مراجعة النقاط الأربع والسبعين التي تتألف منها “خطة العمل” الخاصة بتونس، إذ نلحظ أنها تتمثل أيضا في “تعزيز المؤسسات التي تضمن تكريس الديمقراطية ودولة القانون، وتعزيز استقلال القضاء، وتحسين الأوضاع في السجون واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وضمان حق الاجتماع والتعبير والإعلام التعددي”.
مشروع برشلونة الجديد
على هذا الأساس، تبدو قسمات مشروع برشلونة الجديد أقرب من المشروع الأول إلى طرح قضايا الحكم الصالح والشفافية وتعزيز دور المجتمع المدني، مما يشكل حقلا للخلافات مع غالبية حكومات الضفة الجنوبية التي تسعى لحصر الشراكة في المسائل الاقتصادية أملا في استقطاب الاستثمارات وتنشيط المبادلات التجارية مع أوروبا.
غير أن الإتحاد الأوروبي سيتعاطى مع العرب في برشلونة + 10 وفي ذهنه دروس النقلة الديمقراطية في أوروبا الوسطى والشرقية التي كانت أساسا لتحقيق التكامل الإقليمي، فيما عطَّـلت الخلافات المغاربية مسار التكامل في جنوب المتوسط، وحملت الأوروبيين على التعاطي مع كل بلد على حدة، وأدى هذا الواقع المتشظي إلى تأجيل تنفيذ مشروع منطقة التبادل الحر الأورو متوسطية الذي صيغ في برشلونة.
ولهذا السبب، يبدو الأوروبيون اليوم عاقدين العزم على الدفع باتجاه إيجاد تسوية لنزاع الصحراء بين الجزائر والمغرب، وإحياء الإتحاد المغاربي، وهم يعتقدون أن ما ستتمخّـض عنه ندوة برشلونة المقبلة يتوقف إلى حد كبير على مدى حصول تغييرات في العلاقات بين بلدان شمال أفريقيا.
متغيرات ندوة برسلونة + 10
وفي هذا السياق، يمكن رصد أربعة متغيرات ستكرسها ندوة برشلونة + 10 قياسا على الندوة الأولى وهي الآتية:
• تفاوت السرعات التي سيتم اعتمادها بالنسبة لكل بلد من الشركاء المتوسطيين، وهو ما جسّـدته “خطط العمل” الفردية التي حدَدت وصفات خصوصية، هدفها ضمان الالتحاق يوما ما بالركب الأوروبي.
• التسهيلات المشروطة بمعنى أن حجم المساعدات والاستثمارات الأوروبية سيتوقف على مدى تقدّم البلد الشريك على طريق الإصلاحات السياسية.
• الإشراك الواسع للمجتمع المدني في المسار، إذ تقرر إخراج “خطط العمل” إلى العلن قبل أن تعتمدها الهيئات القيادية التابعة للجانبين مع تشكيل لجان فرعية لحقوق الإنسان والديمقراطية مفتوحة لمساهمات ممثلي الجمعيات الأهلية.
• اعتبار التخلي على أي واحدة من الأولويات المضمَـنة في “خطة العمل” سببا كافيا للارتداد بعلاقات الشراكة إلى مستوى أدنى.
وإذا علمنا أن “خطط العمل” هذه تنطلق من تقويم قاتم في الغالب لحصاد العقد الذي مضى منذ ندوة برشلونة عام 1995، نُـدرك أن أوروبا لن تضع الاقتصاد على رأس الأولويات في الندوة المقبلة، وإنما ستُـساوي بين أعمدة “مسار برشلونة” الثلاثة، أي السياسي والاقتصادي والثقافي، وهي تفعل ذلك انطلاقا من زاوية اهتمامها التي تركّـز على درء مخاطر زعزعة الأمن الأوروبي الجماعي والقُـطري، سواء أتت من التنظيمات التي توصف بالإرهابية أم من الهجرة غير المشروعة أم من شبكات الجريمة المنظمة.
أكثر من ذلك، يعتقد الأوروبيون أن القمم العربية الأخيرة، على رغم تركيزها غير المسبوق على موضوع الإصلاح، لم تستطع بلورة لاعب إقليمي يكون شريكا يوازن الإتحاد الأوروبي، أقله على صعيد صوغ رؤى ومشاريع جماعية، حتى لو لم يملك وسائل تجسيد حلمه.
ومن هنا، فإن آلية الحوار والتفاوض التي أرستها برشلونة الأولى والمتمثلة في “مجلس الشراكة”، حيث يجلس وزير خارجية عربي واحد وجها لوجه مع خمسة وعشرين من نظرائه الأوروبيين لوضع جرد سنوي بالنجاحات والإخفاقات، ستستمر بعد ندوة الخريف المقبل، ولا يُـرجّـح أن تتغير.
مـا الـعـمـل؟
ويمكن التكهن منذ الآن بالتجاذب الذي سيُـسيطر على ندوة برشلونة بين أوروبا الراضية على أدائها، والعرب المنتقدين لحصاد عشر سنوات من “التملّـص من الوفاء بالوعود”.
ففيما يؤكد الأوروبيون أنهم منحوا الشركاء من خلال “سياسة الجوار” جميع الامتيازات عدا الانضمام للمؤسسات الاتحادية، مثلما قال جان لوي ريفارس، رئيس “معهد المتوسط” في مرسيليا لسويس أنفو، يردّد العرب منذ الآن أن تعهدات الإتحاد المالية ستتراجع إلى ما دون المستوى الذي كانت عليه في الماضي، على حد تعبير الوزير التونسي السابق صلاح الدين بن مبارك، الذي عمل سفيرا في كل من بروكسل وبون وروما.
وشرح بن مبارك أن الإتحاد خصّـص للشركاء المتوسطيين خلال الفترة من 2007 إلى 2013 في إطار خطة “ميدا 2” اعتمادات تعادل تلك التي خصصها لخطة “ميدا 1″، مع أن الأخيرة اقتصرت على خمس سنوات فقط، فيما ستمتد الخطة الجديدة على سبع سنوات.
أكثر من ذلك، يشير خبراء كُـثر إلى أن الفجوة التنموية زادت اتساعا بين البلدان المُـطلّـة على الضفة الجنوبية للمتوسط، وتلك المطلة على الضفة الشمالية خلال السنوات العشر الماضية، مما يجعل تجسيرها مستحيلا في الأمدين القصير والبعيد.
وعزا حسن أبو أيوب، السفير المغربي السابق لدى فرنسا تلك الفجوة إلى التفاوت الكبير بين الأهداف التي وضعتها ندوة برشلونة والآليات التي اعتمدت للوصول إليها.
وذهب الحاكم السابق للمصرف المركزي الجزائري عبد الرحمان حاج الناصر في تصريح لسويس أنفو إلى حد التحذير من أن حركة الاستثمارات انتقلت من الجنوب نحو الشمال، مقدَرا حجم الاستثمارات المغاربية التي اتّـجهت شمالا بـ 100 مليون يورو.
لكن ما العمل للخروج من هذا المأزق؟ الأرجح أن كل طرف سيتشبث في برشلونة بالمربع الذي يقف فوقه في مقابل الطرف الآخر، الأول سائلا المزيد من الدعم الاقتصادي، والثاني طالبا إصلاحات أعمق وضمانات أكبر، مما قد يقود إلى الاكتفاء ببيان “تاريخي” يقتصر على تكرار مبادئ فضفاضة يتّـفق عليها الجميع، لكنهم يختلفون على آليات تكريسها في الواقع.
رشيد خشانة – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.