الطبقة الوسطى السعودية.. تحدى التنوع والاختلاف
تشير العديد من المؤشرات إلى أن ما يُصطلح عليه بـ "الطبقة الوسطى" في المملكة العربية السعودية تعاني من البيئة الساكنة والجامدة المحكومة بعباءة التقاليد البالية للمجتمع.
في المقابل، لا بد من الإقرار بأن هذه الطبقة ليست آحادية التوجه والرؤى، وإنما يكمن في داخلها تنوع ثقافي وفكري ومذهبي .. أيضا.
في إحدى جلسات الحوار الوطني الثالث المخصص للمرأة السعودية، الذى انعقد في المدينة المنورة من 12 إلى 14 يونيو الجارى، حملت مداخلة أحد المشاركين، وهو أستاذ جامعي، مُطالبة بالقصاص من السيدات اللاتي شاركن في مظاهرة المطالبة بحق قيادة السيارات عام 1991، مشككا في أهلية هؤلاء السيدات في تعليم البنات في الجامعات اللاتي يعملن بها بعد فترة إبعاد قسرية تلت قيامهن بتلك المظاهرة.
وكانت المصادفة أن إحداهن، وتعمل فى هيئة دولية تابعة للأمم المتحدة، تحدثت مباشرة بعد هذه المداخلة، مستغربة هذه النظرة الإقصائية للمرأة السعودية والمُشككة في قدراتها ودينها، في حين أن الشرع لا يحتوى على حكم قطعي يحول دون المرأة وقيادة السيارة. ولم تخل المداخلة من دموع وشجن، فوجم جميع الحاضرين فى اللقاء.
مع ملاحظة أن الحوار بين المشاركين والمشاركات لم يكن مباشرا، فكل طرف كان في قاعة خاصة به، جريا على عادة الفصل بين الجنسين الشائعة في المملكة، وفقا لقاعدة سد الذرائع المعمول بها، والتي تقوم على الأخذ بما يسمى الأحوط منعا للفتنة، وهو ما يمكن تفهمه مثلا في الفصل بين صغار السن ومن هم في سن المراهقة في فصول الدراسة.
أما بين كبار العلماء والمثقفين وأساتذة الجامعات وذوى الرأي، وهم الأكثر نضجا إنسانيا واجتماعيا وحياتيا، فتلك تثير التساؤلات أكثر مما توفر إجابات. لكنها إجمالا، تعكس المناخ الفكري السائد، ليس بشأن المرأة وحسب، ولكن أيضا بشأن الاقتناع السائد لدى البعض بضعف الرجل وسهولة الإيقاع به، ولو من كلمة عابرة، وكأن الأصل في علاقة البشر من الجنسين، هو الإغواء المتبادل، وليس الاحترام والمودة والرحمة والتقوى في النفس وفي الآخر.
ولعل الطريف، وهو أيضا مفارقة كبرى بكل المعاني، أن المتحاوريْـن المختلفيْـن في توجهاتهما تبادلا الحوار عبر الرسائل القصيرة بواسطة الهواتف المحمولة، بما فيها من محاولة توضيح للموقف، واعتذار وردّ وإثبات عدم الشك في نوايا الآخر.
بيئة ساكنة اجتماعيا وفكريا
الحوار الوطني ككل، والجولة الثالثة بشأن وضع المرأة وحقوقها خاصة، وما انتهت إليه من توصيات، لم تُـرض ممثلي تيار التحديث والراغبين في تعميق حقوق المرأة في الحياة العامة، في حين عبرت عن وجهة نظر التيار السلفي السائد في الحياة السعودية ككل.
كما كشفت مجريات الجولة الثالثة عن بعض جوانب البيئة الفكرية والدينية والثقافية العامة السائدة في المملكة، وأيضا الطريقة التي تتم بها معالجة قضايا التطور الاجتماعي والسياسي من حيث سطوة العادات والتقاليد، حتى بما هو معروف عنها أنها مخالفة للشرع نفسه، والخوف من مواجهة حقائق العصر بمزيد من التكيف والاجتهاد النابع من أساسيات الشرع وأصوله، والارتكان دائما لما يسمى بالأحوط المعروف والمكرر سلفا الذي ينكر التطور ويرفض الاعتراف بأن سنة الحياة هي التبدل والتغيير، وأن الإنسان الُمسلم ليس عليه سوى التفكير والتأمل فيما يفيده ويطور حياته ويحسن مستواه، دون أن يفقد قيمة الإيمان بدينه وعقيدته.
مثل هذه البيئة الساكنة الداعية للسلبية، والتي لا تتوافق مع ما يجري في المجتمع السعودي ككل من حيث نشوء وتشكل جماعات وفئات تحمل بذور الفكر الحديث، تتضح أكثر في ضوء التزامن اللامقصود، سوى من صدف الأقدار وما حملته من تطورات خاصة على صعيد العمليات الإرهابية منذ نهاية أبريل الماضي وحتى الأسبوع الأول من يونيو الجاري، وهي العمليات التي باتت تركز على هدف إخراج الأجانب غير المسلمين من جزيرة العرب، والتأثير على الاقتصاد السعودي، لاسيما قطاع النفط، وتوجيه الضربات إلى الأسرة الحاكمة، والمجتمع بأسره.
هذه العمليات، وإن أنكرها كبار العلماء السعوديين ورفضوا ما فيها من تدمير وتخريب وإساءة للشرع والدين، إلا أنها هي نفسها تحمل فكرا سلفيا جامدا يغوص في الماضي، ولا يعترف بأي تطور يحدث في حياة المجتمعات المسلمة بأي صورة كانت.
فأصحاب هذه العمليات وأنصارها هم بصورة أو بأخرى نتاج بيئة فكرية وثقافية سائدة ومهيمنة على كافة جوانب الحراك الاجتماعي والسياسي في المملكة، الأمر الذي يضعهم في مواجهة مباشرة مع أي فئة اجتماعية تحمل فكرا حديثا ومعاصرا، ويجعل مبدأ المواجهة ومنتهاها كامنا في تطوير المجتمع وثقافته، ولكن ليس بالطريقة التي تمت بها إدارة جولة الحوار الوطني الثالثة بشأن وضع المرأة، ولا بالتوصيات التي خرجت عنه رغم جدية بعضها المحدود، والتي تكرس ما هو سائد من أعراف وتقاليد، معروف أنها ضد الشرع والمنطق والحق والتطور.
معاناة الطبقة الوسطى
هذه البيئة الفكرية تتصادم مباشرة مع ما تحمله فئات المجتمع الراغبة في تطوير المجتمع وإفساح المجال أمامه للمشاركة والحريات والخروج من عباءة التقاليد البالية الساكنة، وهذه الفئات التي تحمل علما حديثا وخبرات اجتماعية ناضجة وتثق في قدراتها الذاتية، وتحمل هموم مجتمعها عن حق ورغبة في خدمته.
وبنظرة مسحية عابرة وسريعة على المجتمع السعودي، يُـدرك المرء أن الطبقة الوسطى تعاني إجمالا من مثل هذه البيئة الساكنة، مع الوضع في الاعتبار أن هذه الطبقة ليست أحادية التوجه، وإنما يكمن في داخلها تنوع ثقافي وفكري ومذهبي أيضا، وهو تنوع لا يمكن أن تحميه إلا منظومة تقوم على الحريات ومراعاة التنوع نفسه. وفي حال فقدان هذه المنظومة، تصبح هذه الطبقة فاقدة لأحد أهم عوامل فعاليتها وعطائها لمجتمعها.
معروف أن تحليلات التشكيلات الاجتماعية والحراك الطبقي تُـعطي الطبقة الوسطى قيمة أكبر في حفظ التوازن العام في المجتمع. فهي الصلة الطبيعية بين الحاكم في قمة الهرم، وبين المحكوم في أدنى الهرم المجتمعي، ومنها يخرج المبدعون في كل المجالات، ومنهم قادة الرأي والفكر والإنتاج والرياضة والفن.. وهكذا، وهى حاملة النشاط الاقتصادي والمحافظة على منظومة القيم العامة في المجتمع، وهي التي تحمي المجتمع من السقوط أو التطرف أو الغلو.
إنها باختصار الطبقة التي تحمل قيم الاعتدال والتطور الطبيعي، والقدرة على التواصل مع المجتمعات الأخرى، وهي التي تحمل عبء الانفتاح على الآخر، ودونها يفقد المجتمع، أي مجتمع، توازنه الطبيعي، ومن ثم يتعرض إلى ما لا يُـحمد عُـقباه. وما يجري فى السعودية من حوادث إرهابية خير دليل.
الطبقة الوسطى السعودية لا تخرج عن هذا الإطار العام الذي يحكم كافة الطبقات والشرائح الاجتماعية في العالم كله، وهي التي تشكلت بفضل سياسات التعليم الحديث التي عرفتها المملكة طوال العقود الستة الماضية للرجال، والأربعة الماضية للنساء، ومنها وفيها علماء الدين وأساتذة الجامعات والمربون والمفكرون والباحثون ورجال الأعمال والمصرفيون والمهندسون والإداريون ورجال الأمن والدفاع، وكل أصناف العمل بالساعد والفكر.
والحديث هنا يشمل الرجال والنساء معا، وفيهم ومنهم التيارات السائدة في المجتمع من سلفية متشددة موغلة في الماضوية ومنهم السلفيون المعتدلون الداعون إلى الاجتهاد دون التفريط في الثوابت، ومنهم الليبراليون النازعون إلى حداثة مفرطة وهم قلة محدودة، ومنهم المقتنعون بليبرالية معتدلة لا تتصادم مع الدين وتنادى بالمشاركة والحريات وتحديث قيم المجتمع وأعرافه والانفتاح المنضبط على العالم. ومنهم من يحمل مذهبا دينيا ليس سلفيا وفيه قدر من المالكية أو التشيع أو الحنفية. إنها طبقة متعددة الشرائح الاجتماعية والفكرية والثقافية، حاملة للتنوع والتعدد والانتشار الاجتماعي والاقتصادي.
تنوع في الحكم وإشكالية في المجتمع
وتبقى الإشارة هنا إلى أنه في داخل الأسرة السعودية تنوع يكاد يتطابق مع التوجهات الكلية التي تسود بين شرائح الطبقة الوسطى، مما يجعل احتمال تشكل تحالفات طبيعية بين أمراء من الأسرة الحاكمة وحاملي التوجهات المماثلة من الطبقة الوسطى أمرا جائزا نظريا، بل يمكن رؤية بعض ملامحه فيما جرى في المملكة خلال العامين الماضيين.
فكما هناك من ينحو من الأمراء ورموز الحكم تجاه التجديد وإفساح المجال للحريات الاجتماعية، وتقليل سطوة الأعراف البالية، ويدعو إلى الاجتهاد الديني الُمراعي لتطورات الحياة وحقائقها، وهناك أيضا من يصر على إبقاء الأوضاع كما كانت في السابق ويرفض المغامرة بالتجديد والانفتاح.
لكن الإشكالية الأكبر في كل ذلك، أن هذا التنوع الخلاق لا يعرف طريقة للاعتراف به. فالكل مطلوب منه، من قبل المسيطرين التقليديين على الحياة المؤسسية الدينية والمدنية، أن يكون على الوتيرة ذاتها من التفكير والنظر إلى الأمور الجارية، والقياس بنفس المقاييس الدينية والفكرية والثقافية، وكأن لا اجتهاد ولا عقل ولا قدرة على التأمل، وإنما فقط نظرة من ثقب واحد فقط، هي سلفية، وإن بدرجات محدودة من الاختلاف الشكلي.
بعض جوانب هذه الإشكالية بات مكشوفا وفارضا نفسه، ليس من حيث الوجود العضوي نفسه، وإنما من حيث ضرورة البحث عن آليات تفسح المجال الآمن والصحي للتفاعل مع الاختلافات والتنوعات كحق مشروع لكل الفئات والشرائح.
وإذا كان “الحوار الوطني” يمثل فكرة حاولت إبداع وسيلة للتواصل مع الآخر، إلا أن هذه الوسيلة تبدو – بعد جولات ثلاث – محدودة التأثير، ولا قدرة لها على تغيير المجتمع أو إيصال رسالة التنوع والتعدد إليه. وهنا تبدو المسألة والتحدي في: “كيف يمكن الخروج من قوقعة الحديث في الغرف المغلقة إلى التحاور الطبيعي في الفضاء الاجتماعي الأوسع”؟
وإذا كان البعض يتصور أن سلوكيات وأساليب الضبط الفكري والاجتماعي التي سادت في العقود الستة الماضية كفيلة بأن تحاصر التنوع وتقضي على فطرة التواصل والتنوع، فالوهم فيما يفكر ويتصور أكبر كثيرا من أسانيد الحق والقوة، وضغوط الحياة وحقائقها الساطعة في الداخل والخارج لن تخذل التنوع والاختلاف والحريات مهما كانت جهود كبته، أو بعبارة أخرى، ستفرض الفطرة الكونية نفسها رغم كل المعوقات والصعوبات في السعودية كما في غيرها.
د. حسن أبو طالب – القاهرة
عقدت الدورة الأولى من “الحوار الوطني” في الرياض في يونيو 2003. ودعت إلى القيام بإصلاحات عميقة، وإلى مشاركة سياسية أوسع، ومزيد من الاستقلالية للقضاء، وتوزيع عادل للثروة.
عقدت الدورة الثانية من “الحوار الوطني” في مكة المكرمة في ديسمبر 2003. ودعت إلى تسريع عملية الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة الشعبية، وتشجيع تأسيس مؤسسات المجتمع المدني
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.