العائدون من العراق؟
ربما يبدو أن الوقت مبكر للحديث عن مشكلة "العائدين من العراق"، فلايزال "الذاهبون إلى العراق" هم سادة الموقف، فيما يتعلق بالعنف العابر للحدود في الإقليم.
لكن هناك عدة مؤشرات تؤكد أن المشكلة قد بدأت بالفعل. وقد لا يمضي وقت طويل حتى تبدأ مسيرة الخروج واسع النطاق من العراق.
المؤشرات عديدة، وتؤكد أن مشكلة “العائدين من العراق” قد بدأت بالفعل، رغم أن “الذاهبين إلى العراق” يسيطرون حالياً على المشهد الإعلامي، فيما يخص العنف العابر للحدود في إقليم الشرق الأوسط.
لكن، متى ما بدأت مسيرة الخروج واسع النطاق من العراق، ستجد 6 دول على الأقل، لا تفصلها عن العراق سوى حدود ملاصقة غير محمية جيدا، ستجد نفسها في مهب موجة عنف عاتية أخرى يشنها أشخاص يمثلون، تبعا لتقديرات مختلفة، الخطر القادم في الشرق الأوسط.
العنف العابر للحدود
بدأت مشكلة العنف العابر للحدود بشكلها الحالي، عندما انتهت الحرب الأفغانية بانسحاب القوات السوفيتية عام 1989، فقد كان مالا يقل عن 16 ألف من العناصر العربية قد تطوعوا للقيام بمهام مختلفة في إطار “الجهاد ضد الروس”، بينهم 6 آلاف مقاتل شكلوا فيما بعد ما عرف باسم ” الأفغان العرب”، الذين تفرقت بهم السبل بعد نهاية المهمة، في ظل وجود طاقة دينية وخبرة قتالية وفتاوى متضاربة ومطاردات أمنية.
لقد استمر بعضهم في القتال ضمن الفصائل الأفغانية حتى سقوط كابول عام 1992، واستقر عدد كبير منهم في معسكرات الحدود الباكستانية – الأفغانية، ليشكلوا بدايات تنظيم “القاعدة”، وانتقل آخرون لمواصلة ” الجهاد” في ساحات حرب “إسلامية” أخرى كالبوسنة وكشمير والشيشان والصومال وطاجيكستان، واتجهت مجموعات منهم نحو بلدان في أوروبا الغربية ليحصلوا على اللجوء السياسي، لكن الأهم أن جماعات مختلفة قد بدأت في العودة إلى بلدانها الأصلية، لقتال الحكومات، لتبدأ في ذلك الوقت ( 1992 تحديدا) أعتى موجة إرهاب تشهدها بلدان المنطقة، خاصة مصر والجزائر، في القرن العشرين.
انتشرت ظاهرة العنف المتنقل العابر للحدود على نطاق واسع بعد ذلك، تحت مسميات مختلفة، مثل “مجاهدون بلا حدود” أو “مقاتلون عبر الدول” أو “إرهابيون متعددو الجنسيات”، في ظل ظهور موجات متعددة من الجيوش الأممية كالعائدين من البوسنة و العائدين من ألبانيا في منتصف التسعينات، وانتهاء بالموجات الجديدة التي برزت مع بداية القرن 21، كـالعائدين من الشيشان و” الأفغان الجدد” العائدين من باكستان وأفغانستان، وصولا إلى “حالة القاعدة” التي تضرب في كل اتجاه، داخل المنطقة العربية أو خارجها.
الطريق إلى العراق
في هذا الإطار، توجد مؤشرات محددة على أن هذه الظاهرة قد بدأت في إفراز موجة جديدة من المتطرفين، الذين أصطلح على تسميتهم” العائدون من العراق”، فحتى وقت قريب اقتصرت علاقة الحالة العراقية بالإرهاب على اتهامات لم تثبت عامي 2002-2003، بوجود علاقة بين نظام صدام حسن وتنظيم القاعدة، وجدالات لم تنته حول ما إذا كان احتلال العراق يمثل سببا رئيسيا لانتشار أو تصاعد الإرهاب دوليا، واستهداف خلاياه لدول مثل إسبانيا وبريطانيا، ثم اتخذت تلك العلاقة طابعا جادا بعد ذلك بتحول ” بلاد الرافدين” – وفقا لقواميس تلك الجماعات – إلى بؤرة استقطاب أو ساحة جديدة لعمل عناصر تنتمي للقاعدة تنظيميا أو فكريا، أهمها جماعة الزرقاوى، ضد القوات الأمريكية وما تسميهم “المرتدين” و”حلفاء اليهود والصليبيين” في العراق أو حوله.
لقد توافد إلى العراق خلال فترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين، واتساع نطاق الفوضى في أراضيه، عدة ألاف من المتطوعين العرب، مثلما حدث من قبل في أفغانستان والبوسنة والشيشان، لكن في ظل أوضاع جديدة تشير معظم التقديرات الأمنية معها إلى أنها سوف تفرز مستوى حاد من التهديد، فقد حذر وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز من أن مخاطر “العائدين من العراق”، ستكون شديدة الوطأة على الدول، قائلا “نتوقع كل نتائج سيئة ممن ذهبوا إلى العراق من المسلحين السعوديين، وبلا شك أنهم إن لم يكونوا كالعائدين من أفغانستان سيكونون أسوأ”.
ويعود ذلك حسب تحليلات مختلفة إلى ما يلي:
أولا، أن العراق سيفرز – حسب أحد المحللين العرب – “مجموعات مدربة على القتل الجماعي، تُخرج للدول العربية (الكافرة) عناصر تنتشر في بلاد العرب بسقف تكفير أعلى من ذي قبل، وتصميم على نشر الفكر التكفيري الذي سيطال الجميع، فكل الدول لها علاقات تحالف وولاء وعقود تسليحية وقواعد وخدمات أمنية تمنح أكثر من سبب لأن يتم تفجيرها وقتل أعضاء هذه الحكومات ألف مرة حسب نظرة هذه المجموعات العائدة من العراق”.
ثانيا، أن ساحة العراق تفرز ، حسب تقديرات استخباراتية أمريكية، مسلحين أفضل تدريبا ممن أخرجتهم أفغانستان، خاصة فيما يتعلق بقتال المدن والشوارع وتفجير السيارات المفخخة وتنفيذ العمليات الانتحارية وأعمال الاغتيال والاختطاف، وغيرها من صور العنف المسلح، فلم تكن ساحة الحرب الأفغانية تتيح ما يتجاوز كثيرا حروب العصابات الصحراوية، وبالتالي ثمة جيل جديد من الإرهابيين المتمرسين قد يعودون إلى بلادهم بمهارات قتالية أكثر فعالية.
ثالثا، أن الظروف الحالية في المنطقة، سواء فيما يتعلق، بوضع العراق المعقد، أو سياسة الولايات المتحدة في الإقليم، أو مشكلة الفلسطينيين التي قد تتفاقم، أو الاحتقانات السياسية الداخلية في الدول، وممالأة بعض وسائل الإعلام العربية و النظم السياسية العربية وغير العربية المجاورة للعراق ذاتها لهم، تخلق بيئة مناسبة لانتشار أفكار الإرهابيين وتجنيد أعداد إضافية من الشباب، مما يجعل احتواء الظاهرة صعبا، بل أنه يرجح احتمالات ظهور حالة من ” الجنوح” العنيفة في المنطقة.
هل بدأ الخروج ؟
المسألة المثيرة للانتباه هنا هي أن هناك تقارير مختلفة تشير إلى أن مسيرة الخروج من العراق إلى الساحات الإقليمية أو الدولية قد بدأت بالفعل، ولو بشكل محدود، حتى دون انتظار نهاية المشكلة العراقية بعكس ما حدث في كل حالات “العودة” السابقة تقريبا، والتي اضطرت خلالها تلك العناصر إلى الخروج تحت ضغط الأوضاع المستجدة أو بفعل انتهاء المهمة، وهو تطور جديد في ظاهرة العنف المتنقل العابر للحدود، ربما بفعل طبيعة الأفكار الحالية وكثرة التنظيمات وتعدد الساحات، على نحو خلق موجة إرهاب عامة.
لقد تمت الإشارة إلى ارتباط بعض الهجمات الأخيرة التي شنت في السعودية بعناصر عائدة من العراق، كما يشير بعض المسئولين في لبنان إلى وجود علاقة عراقية خلف تفجيرات بيروت التي أعقبت خروج القوات السورية، ولو من باب “توظيف الأصوليين”، كما نشرت بعض المجلات تقارير تفيد بأن بعض العمليات الإرهابية التي تم إحباطها في ألمانيا وفرنسا وهولندا كانت تحمل ملامح تشير إلى شبكة أوروبية من “عائدين من العراق”، لكن معظم ما نشر لا يشير بجدية إلى أن الهجوم الكبير لتلك العناصر قد بدأ بعد.
إن ما هو قائم في حقيقة الأمر، هو تقديرات تصدر عن مؤسسات الأمن وأجهزة الاستخبارات جادة بشأن مخاطر تتصل بطبيعة الموجة القادمة من الإرهاب في الشرق الأوسط وأوروبا الغربية، وإمكانية أن تحمل معها هزات أمنية كبرى، وبعض التحركات الأولية ذات العلاقة بالعناصر العنيفة العاملة في العراق تتعلق بأفراد أو مجموعات صغيرة، وقوائم تصدر حول الدول أو البؤر التي قد تتحرك إليها تلك العناصر بعد نهاية المسألة العراقية، وسيناريوهات تم الاستناد عليها في إنشاء أجهزة وإجراء مناورات لمراقبة وتحليل والتعامل مع كل تحركات الإرهابيين العابرة للحدود، فالتحركات المضادة أوسع من التهديدات الواقعية.
وهنا نقطة أخيرة، وهى أن ثمة اتجاها يرى أن هناك مبالغة نسبيا في الحديث عن المخاطر المحتملة للعائدين من العراق، بفعل التقديرات المتباينة لأعداد وجنسيات تلك العناصر في العراق، وحجم الضربات الأمنية التي توجه إليهم، والوعي الكامل هذه المرة بوجود الخطر المحتمل، مع وجود استعدادات طوارئ مكثفة من جانب أطراف مختلفة، تمتد من وسط أسيا إلى الجزيرة العربية، مرورا بشرق إفريقيا، وصولا للصحراء الكبرى في شمال إفريقيا، وأوروبا الغربية، للتعامل مع العائدين من العراق عندما تبدأ موجة الخروج الكبير، لكن لم يعد من الممكن الوثوق بشيء، فيما يتعلق بالإرهاب، فحجم المشكلة لن يتضح إلا عندما تبدأ تفاعلاتها على الأرض.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.