العراق المحتل .. الرياح المعاكسة تزداد قوة
"لا تأتي الرياح دائما كما تشتهى السفن"، لعله الوصف الأكثر صدقا لما يجرى في العراق بعد عام من احتلاله.
فكل شيء تقريبا يبدو وقد انقلب على رأسه، وفي المقدمة رهانات أمريكية ضاعت في مهب الريح، وادّعاءات كثيرة ثبت زيفها.
“لا تأتي الرياح دائما كما تشتهى السفن”. لعله الوصف الأكثر صدقا لما يجرى في العراق بعد عام من احتلاله.
فكل شيء تقريبا يبدو وقد انقلب على رأسه، وفي المقدمة رهانات أمريكية ضاعت في مهب الريح، وادّعاءات ثبت زيفها، وخطط سياسية وقانونية مُعرضة للتغيير بين لحظة وأخرى، ووضع العراق يزداد سوءا يوما بعد يوم، ومقاومة تنتشر من الوسط إلى الجنوب، وعلامات استفهام تزداد كثرة، أما الإجابات فغير موجودة، والموجود منها غير مضمون بعد.
سقوط الذرائع
تبدو النتيجة الأكثر بروزا بعد عام من الاحتلال أن كل ذرائع الحرب التي طرحتها واشنطن ولندن قد سقطت بالضربة القاضية. فبالرغم من كل أنواع البحث الدقيق، واللجان الفنية عالية التجهيزات، لم يتم العثور بعد على أية برامج أو أسلحة للدمار الشامل، ومن ثم فلم يكن هناك تهديد مباشر للأمن القومي الأمريكي، ولم يكن هناك داع أصلا للقيام بحرب وقائية أو استباقية لردع تهديد مفترض، ثبت أنه لا وجود له، إلا في أذهان القائمين بالعدوان فقط.
ذريعة أخرى جاءت على عكس مراميها قامت على زعم وجود علاقة بين النظام البعثي المُـنهار وتنظيم القاعدة ومنظمات إرهابية أخرى، ولم يثبت ما يدل على ذلك، رغم إدعاء امتلاك الوثائق والمعلومات الدقيقة، بل المفارقة الأكبر أن العراق الذي كان عدوا للقاعدة قبل الاحتلال، بات مرتعا خصبا لعناصر مرتبطة بصورة أو بأخرى بهذا التنظيم، أو لجماعات محلية تحمل الفكر ذاته. وبدلا من أن تزداد رقعة الأمن الدولي، حسب الأهداف الأمريكية والبريطانية، تقلصت مساحتها.
وفى السياق ذاته، تبدو وعود الاحتلال بالأمن والديمقراطية والتنمية الاقتصادية والسلامة للعراق وشعبه قد تبخرت، أو على الأقل ما زالت بعيدة المنال. فالذين طمحوا أو توقّـعوا تحسنا ملموسا في حياتهم وأوضاعهم اليومية بعد انهيار النظام السابق، يسودهم عدم الرضا، رغم شعور الكثيرين منهم بالحرية النسبية، فيما البعض يقترب من حافة الإحباط من الاحتلال وسياساته غير السوية.
وتأتي عمليات جنود الاحتلال من مداهمات واعتقالات عشوائية، والمصادمات مع العراقيين على اختلاف انتماءاتهم لتدفع بالكثيرين إلى نوع من الانتقام العفوي الذي يتطور رُويدا رويدا إلى حركة شعبية لرفض الاحتلال.
نحو انتفاضة شعبية
ومع اقتراب الموعد المُـعلن لنقل السلطة دون السيادة، تبدو مؤشرات حدوث انتفاضة شعبية ضد الاحتلال أكثر قوة من قبل، وأحد أهم المؤشرات البارزة، انتفاضة أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في أكثر من مدينة عراقية في الوسط والجنوب. ورغم كونها لا تمثل كل الشيعة العراقيين، إلا أنها تفتح باب انتشار المواجهات الشعبية للاحتلال في محيط أوسع، مما يُـعرف بالمثلث السُنّـي في وسط العراق، الذي أخذ على عاتقه منذ اليوم الأول للاحتلال مهاجمة القوات الغازية بأكثر من شكل وطريقة.
تُـمثل انتفاضة أنصار الصدر، انتفاضة المهمّـشين الشيعة الذين رأوا في ممارسات الاحتلال استمرارا لنفس ممارسات النظام السابق في إهمال مطالبهم المشروعة وتوقّـعاتهم، فضلا عن استبعادهم من المشاركة في العملية السياسية التي تهدف إلى نقل السلطة.
وإذا كانت الغالبية من الشيعة ما زالت تعتقد في صحة توجيهات أية الله العظمى علي السيستاني بالمقاومة السلمية والتعامل مع الاحتلال بالمفاوضات، وصولا إلى التغلغل في هيئات السلطة التي يجرى تشكيلها، فليست هناك ضمانات مؤكّـدة بأن تستمر هذه الغالبية على الموقف ذاته، لاسيما مع تعرض إخوة لهم من أبناء الطائفة إلى القتل والاعتقال والمداهمات العشوائية والقصف العشوائي لأحياء تقطنها غالبية شيعية يمتزج فيها أنصار الصدر وأنصار السيستاني معا، فضلا عن غموض الخطط الخاصة بالانتخابات، وبروز شعور بأن الأمر ليس سوى خديعة كبرى.
وإذا ما انتقلت عدوى المقاومة والانتفاضة إلى قطاعات إضافية أخرى من الشيعة والسنّـة، فالمرجح أن يُـشكل ذلك ضربة قاصمة لكل خطط الاحتلال الأمريكي في البقاء على الأرض العراقية، وعندها، سيدخل العراق فصلا جديدا من المقاومة ذات شقّـين، أحدهما العمليات العسكرية المنظمة، وثانيهما أعمال من المقاومة المدنية الآخذة في الاتساع.
نقل السلطة .. غير شرعي
يأتي انتشار المواجهات بين عناصر من منظمات وجماعات للمقاومة، لم تعلن عن نفسها حتى الآن، ومناصري مقتدى الصدر على خلفية أمرين. أولهما، عملية نقل السلطة بطريقة تبدو غير مُـقنعة لكثير من العراقيين، وهي على الأقل فاقدة للشرعية الشعبية، وتعبّـر عن تحكم الاحتلال بمفاصل البلد ومستقبله معا. فضلا عن كونها، أي عملية نقل السلطة، قد أعطت نفوذا وسلطة لعناصر عديدة، يعتبرها غالبية العراقيين غير مؤهلة للحكم، بحكم وجودها في الخارج لفترات طويلة، وتعاونها مع الاحتلال من جانب، ووجود شكوك حول وطنيتها وعراقيتها من جانب آخر. وثانيها، التجاوزات غير المحدودة لقوات الاحتلال تجاه المواطنين العراقيين.
وفى إطار عملية نقل السلطة التي تبدو مهدّدة كلما اقترب الموعد المُعلن لنقلها، كان ثمة نجاح تم تحقيقه، تمثل في التوصل إلى قانون إدارة العراق في المرحلة الانتقالية، والذي قرر اختيار بناء عراق ديمقراطي فدرالي على أسس جغرافية، وأنهى بذلك الجدل حول وجود حكومة مركزية قوية.
وقد أثار القانون ردود فعل متباينة في الداخل والخارج. فالذين رحّـبوا به وجدوا فيه مؤشرا جديا ومُـهما على تحول العراق إلى بلد ديمقراطي فدرالي موحد، صاغته أيادي عراقية من أجل مستقبل افضل.
أما الذين انتقدوا القانون، وجدوا فيه آلية استعمارية تُـكرّس تقسيم العراق، وتشحذ الطائفية والعرقية، وتضع البلد تحت سيطرة اتباع الاحتلال الأمريكي لفترة طويلة جدا.
إن القانون المؤقت في كل الأحوال، يمثل نكسة سياسية كبرى للعراق العربي الموحد، خاصة وأنه يعترف بحقوق الأكراد القومية وبلغتهم، ويُـقر بأن العراق بلد متعدد الأعراق والقوميات، ويقصر العروبة فقط على جزء من الشعب، وهم العرب فقط.
الأكراد من جانبهم، ووفقا لتصريحات كبار رموزهم السياسية، فإنهم يدركون أن حلمهم التاريخي بإقامة دولة مستقلة يبدو مستحيلا، وأن الأفضل بالنسبة لهم أن يحافظوا على المكاسب التي حقّـقوها طوال العقد الماضي، والتي نجحوا في وضعها في صلب القانون العراقي المؤقت، وهم يدركون أن خيار الفدرالية في ظل دولة العراق الموحد، هو أفضل ما يُـمكن تحقيقه في ظل الظروف الراهنة.
لكن هل تكفى مثل هذه التطمينات لباقي العراقيين أو للجوار الإقليمي الذين يتوجسون شرا مما يُـحققه أكراد العراق من مكاسب سياسية؟ سؤال مفتوح بلا إجابة مريحة.
إن مثل هذا التباين في تقييم القانون المؤقت من شأنه أن يُـلقى الضوء على جانب من الصعوبات والمشكلات السياسية الكبرى التي تواجه إعادة بناء العراق كبلد مستقر لا يُـهدد أحدا من جيرانه، ويُـوفر الحقوق السياسية والقانونية والاقتصادية لكل مواطنيه، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو القومية.
والقضية الأهم هنا هي كيف يستعيد العراق سيادته واستقلاله الكامل، ومتى ينتهي الاحتلال الأمريكي، ومتى ستخرج القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها من الأراضي العراقية؟ أسئلة كثيرة بلا إجابات.
أعمال المقاومة والعنف
على صعيد المبدأ العام، فإن من حق الشعوب أن تُـقاوم القوى الأجنبية التي سلبتها الحرية والاستقلال، وهو حق يعترف به القانون الدولي والأعراف والحالات التاريخية المختلفة.
وبغض النظر عن الادعاءات الأمريكية بشأن الحرب بأنها لمساعدة العراقيين للتخلّـص من الديكتاتورية واستعادة الحرية، فإن الوضعية القانونية لوجود القوات الأمريكية أنها قوات احتلال.
إن أحد الأسئلة المهمة التي تثور بعد العمليات الكبرى، التي يذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء العراقيين، يتعلق بمن هي الجهة التي قامت بالعملية؟ وما هي أهدافها الحقيقية؟ والمرجح، أن هناك أكثر من طرف وراء عمليات المقاومة والعنف المتصاعد في العراق.
فإلى جانب المجموعات المحسوبة على النظام البعثي المُـنهار، والتي قوامها العسكريون وأعضاء حزب البعث الذين يخضعون لما يُـعرف بعملية “اجتثاث البعث من الحياة السياسية العراقية”.
هناك ثانيا، جماعات محلية مُـرتبطة بجهات أو تنظيمات خارجية، والتي توفّـر الملاذ والمأوى، وتقدم المعونات العملية والفنية لعناصر تأتي من الخارج لكي توجّـه ضربات للاحتلال الأمريكي.
وثالثا، ثمة جماعات خارجة عن القانون، تستهدف من عملياتها العنيفة تعميق حالة الفوضى الأمنية في البلاد واستغلالها في تهريب الأفراد والسلع والمخدرات والأسلحة وغير ذلك من المواد الممنوعة. وربما يقوم بعض هؤلاء بعمليات تصفية حسابات لحساب الغير.
ويُـمكن أن نضيف رابعا، بعض مجموعات المعارضة العراقية التي تشكّـلت في الخارج، وعملت عن قرب مع الأمريكيين، واستفادت من وجود الاحتلال الأمريكي، وصارت عناصر مهمّـة في الحياة السياسية العراقية، رغم عدم وجود شعبية لها بين العراقيين، وتخاف من خروج القوات الأمريكية بسرعة، ولذلك، تنفـذ بعض العمليات الكبرى، لاسيما الموجهة ضد المراكز الشيعية والمؤسسات الدولية، مستهدفة تثبيت مقولة أن الأمن في العراق متدهور، وأن الوضع قد ينزلق إلى حرب أهلية، إذا ما انسحب الأمريكيون بسرعة.
مثل هذه الخريطة المعقّـدة والمتشابكة، تعني أن موضوع الأمن في العراق بات معقدا ومُـتشابكا، ويتطلّـب سياسات متعددة المستويات. ولكن يظل تحديد نهاية للاحتلال، وإنشاء مؤسسات عراقية قوية ذات شرعية مستمدة من العراقيين أنفسهم، هو العامل الحاسم في احتواء كل هذه التوترات.
فوضى أمنية في الأفق
تبعا للمُـعلن، أنه مع انتقال السيادة للسلطة المؤقتة في 30 يونيو 2004، سوف ينتهي الاحتلال الأمريكي، وتنتهي سلطات الحاكم المدني الأمريكي، وسوف تفتح أكبر سفارة أمريكية في العالم كله في بغداد.
ومع ذلك، فإن مستقبل الوجود العسكري الأمريكي وباقي قوات التحالف يظل غامضا، سواء من الناحية القانونية أو من ناحية الدور الأمني الذي يجب أن تضطلع به.
ومن الناحية القانونية والشكلية البحتة، فإن توقيع اتفاقات أمنية بين حكومة عراقية ذات سيادة حقيقية، وبين قوات الاحتلال الأمريكية أو البريطانية سوف يُـنهي صفة الاحتلال ويكرس بالتالي وجودا دائما على الأرض العراقية قد يشبه الحالات اليابانية والألمانية والكورية الجنوبية، ومن ثم سيتحول العراق إلى قاعدة أمريكية متقدمة، بما لذلك من انعكاسات سلبية على عروبة العراق ودوره في القضايا العربية، وأيضا على مجمل الأوضاع في المنطقة.
بيد أن ظاهر الأمور يبدو غير مؤهل لمثل هذا التحول، حسبما هو مخطط أمريكيا. فأي اتفاقات أمنية بين سلطة انتقالية مشكوك في شرعيتها مع سلطة التحالف المحتل، ستكون بدورها فاقدة الشرعية، وبدلا من أن تساعد على وقف الهجمات وأعمال العنف، فقد تؤدي إلى العكس، وتزيدها باعتبار أن الاحتلال ما زال قائما، وأن المتعاونين معه هدف مشروع لمثل هذه الضربات. ومن ثم، فمن المرجح أن تستمر حالة الفوضى الأمنية، ولن تتراجع إلى الوراء.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.