العولمة والديمقراطية و”المضاعفات غير المحسوبة”
هل الديمقراطية في الشرق الإسلامي في أوائل القرن 21 محكوم عليها بالاعدام سلفاً، كما كان الأمر مع التجربة الليبرالية - الديمقراطية الأوروبية في أوائل القرن العشرين؟
تاريخ العقد الأخير من القرن 20 قد يساعد على الإجابة، حيث أن الشعوب العربية دخلت الحقبة التاريخية الجديدة من العولمة، وهي في وضع أسوأ من الذي كانت عليه شعوب أوروبا الشرقية.
في الأول من شهر مارس الجاري، كتبت “واشنطن تايمز” الناطقة بإسم المحافظين الجدد الأمريكيين: “… ولكن نحن نُـدرك أيضاً أنه إذا ما برزت حكومات تمثيلية حقيقية في مصر والسعودية وباكستان وأماكن أخرى في هذه الأراضي المضطربة، فليس محتماً أنها ستتصرف بشكل متطابق مع مصالح أمننا القومي. لذا، يجب على الإدارة أن تبذُل على الأقل الجهود نفسها لتشكيل سياسات هذه الديمقراطيات المستقبلية، كما تبذل الآن الجهود لإخراجها إلى الوجود. الرهان على الديمقراطية هو أفضل رهان متوافر، لكنه ليس رهاناً مضمونا”.
نص مفاجئ، أليس كذلك؟ بالتأكيد، فهو يؤكّـد بشطحة قلم واحدة كل من اتهموا أمريكا بأنها لا تسعى في الواقع إلى نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط كما تدّعي، بل إلى تغليف مصالحها الإمبريالية بورق “سيلوفان” ديمقراطي، وإلا ما معنى هذه الدعوة الفجة لإخضاع الديمقراطية في الشرق الأوسط إلى مصالح الأمن القومي الأمريكي؟
هل يعني ذلك أن الديمقراطية في الشرق الإسلامي في أوائل القرن الحادي والعشرين محكوم عليها بالاعدام سلفاً، كما كان الأمر مع التجربة الليبرالية – الديمقراطية العربية في أوائل القرن العشرين؟
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. لكن قبل ذلك، لا بد من وضع الأمور في نصابها قليلاً حيال هذه المسألة، إذ أن تبَـنّي الولايات المتحدة لعملية نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الموّسع، ليس هدفاً مثالياً نظرياً بقدر ما هو خطة عملية تصب مباشرة في حُـضن مشروع أضخم بكثير، هو ثورة “إمبراطورية العولمة”.
كيف؟ هنا يطل الباحث توماس بارنيت، أبرز محلل إستراتيجي في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، برأسه ليرسم الصورة الحقيقية لما يجري الآن في الشرق الأوسط الكبير وبقية أنحاء العالم.
يقول بوضوح، في كتابه الأخير “خريطة البنتاغون الجديدة: الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين”، إن دور الإمبراطورية الأمريكية الأول والأخير ليس المباديء الديمقراطية ولا قيم حقوق الإنسان، بل نشر العولمة الرأسمالية وفرضها بقوة السلاح في كل أنحاء العالم إذا إقتضى الأمر.
ويضيف: “ثورة المعلومات والاتصالات غيّـرت معالم الصورة الدولية، لكن الولايات المتحدة كأمة لم تفهم بعد مضاعفات هذا التطور الكبير، فقواتها العسكرية لا تزال تعمل على أساس ردود الفعل على الأزمات. صحيح أنها تدخلت عسكرياً في حقبة التسعينات بأكثر مما فعلت طيلة الحرب الباردة، إلا أن البنتاغون صنّـف هذه التحركات تحت خانة “العمليات العسكرية” وليس تحت خانة “الحرب”، وكأنه يريد أن يقول إنه لا معنى إستراتيجي لها، وهذا ليس صحيحا”، برأي الكاتب.
“مركز العولمة الفاعل”
فالعمليات العسكرية وحالات الانتشار الحربي تركّـزت في تلك الأجزاء من العالم المستبعدة مما يسميه “مركز العولمة الفاعل”، وهو يُعرّف هذا المركز كالآتي:
1- أي دولة أو منطقة تكون فاعلة إذا ما كانت تتفاعل مع مضمون التدفقات التي تنتج عن إدماجها ما هو قومي بما هو إقتصاد عالمي (الأفكار، المال، الإعلام).
2- أي دولة أو منطقة تكون فاعلة حين تسعى إلى تنسيق “قواعد حكمها الداخلي” مع الحكم العالمي الصاعد للديمقراطية، وحكم القانون والأسواق الحرة (مثلا عبر الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية).
لكن من هي الدول أو المناطق المتواجدة الآن في مركز العولمة؟ إنها برأيه أمريكا الشمالية، وأوروبا، وروسيا، واليابان، والصين (عدا ريفها)، والهند، وأستراليا، ونيوزيلندا، وجنوب إفريقيا، والأرجنتين، والبرازيل وتشيلي، ومجموع سكان هؤلاء يبلغ 4 مليارات نسمة.
ومن خلال مسحه لـ 140 عملية عسكرية أمريكية في فترة التسعينات، يكتشف بارنيت أن القوات الأمريكية ذهبت بالتحديد إلى الدول الواقعة خارج مركز العولمة التي يسميها “الفجوة غير المندمجة”، وهي حوض الكاريبي، وإفريقيا، والبلقان، والقوقاز، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وجنوب غرب آسيا، والكثير من جنوب شرق آسيا. في كل هذه المناطق التشابك المتعولم ضعيف أو غائب.
تكون الدول “غير متصلة” حين تفشل في كسب ثقة الشركات متعددة الجنسيات بها، الأمر الذي يحد من الاستثمارات الخارجية، وهذا يمكن أن يحدث لأن الدولة تكون ثيوقراطية أو معزولة جغرافياً أو مرتبطة بالعالم عبر دولة فاسدة.
ويرى المؤلف أن 11 سبتمبر كانت “هبة من السماء برغم قسوتها”، إنها كانت دعوة من التاريخ للولايات المتحدة كي تفيق من حلم التسعينيات، وتبدأ في فرض قواعد جديدة للعالم.
العدو في العالم الجديد ليس الإسلام ولا المكان، بل عدم الارتباط بالعولمة الذي تعني العزلة والحرمان، والقمع، وعدم التعليم، وهذه كلها علامات خطر. وبالتالي، إذا فشلت دولة ما في الانضمام إلى العولمة أو رفضت الكثير من تدفقاتها الثقافية، فإنها ستجد في النهاية القوات الأمريكية على أراضيها.
وفي هذا الإطار، يرى بارنيت أن تدخلات التسعينيات لم تعكس، لا الفوضى ولا العشوائية، بل تحديدات جديدة لطبيعة الصراع في عصرنا، وهو صراع تاريخي يصرخ مطالباً برؤية أمريكية جديدة لعالم يستحق أن يُخلق.
ويشدد بارنيت على أن لدى الولايات المتحدة مسؤولية إستخدام قوتها الهائلة لجعل العولمة عالمية حقاً، وإلا فإن أجزاء من البشرية ستُـدان بصفتها خارج النظام وستعرف على أنها عدو.
وحالما تُـحدد الولايات المتحدة أعداءها، فإنها ستشُـن الحرب عليهم، مطلقة الدمار والقتل، وحين تتذكر أمريكا بأن اللاإرتباط بالعولمة هو العدو النهائي، فإنها بتمديدها العولمة، لا تهزم فقط الأعداء الذين تواجههم اليوم، بل تزيل أيضاً جيلاً كاملاً من التهديدات التي قد يواجهها الآحفاد.
الحقبة الجديدة
كتاب بارنيت، الذي حظي بتأييد معظم صانعي القرار الأمريكيين، وضع الأمور في نصابها فيما يتعلق بمسألة الديمقراطية. فهي ليست “بناء فوقياً” للعولمة، بل البناء التحتي لها، لأنها باتت المدخل الرئيسي لتحرير الاقتصاد والأسواق، وأيضاً لنشر القواعد الرأسمالية الكبرى الخاصة بحُـرية انتشار الفكر والإعلام والمال.
الديمقراطية وظيفة ودور، لا مثال عال ومبادئ، وهي في هذا الإطار يجب أن تصب في مصلحة الأمن القومي الأمريكي الذي يصب بدوره في مصلحة العولمة العالمية، أو في مصلحة ما يسميه سمير أمين “الإمبريالية الجماعية” التي تقود هذه العولمة، والتي تضم أمريكا وأوروبا واليابان بزعامة الأولى، وهذا ما يُـعيدنا إلى سؤالنا الأول: هل الديمقراطية في الشرق الأوسط محكوم عليها بالإعدام أو على الأقل بالاعتقال في سجن مصالح العولمة الأمريكية؟
تاريخ العقد الأخير من القرن العشرين قد يساعدنا على الإجابة على هذا السؤال، حيث يتبدى سريعاً أن الشعوب العربية دخلت الحقبة التاريخية الجديدة من العولمة، وهي في وضع أسوأ كثيراً من ذلك الذي كانت عليه شعوب أوروبا الشرقية.
صحيح أن السياسات الامبراطورية السوفييتية صحّـرت المجتمعات المدنية في محمياتها الأوروبية الشرقية، لكنها على الأقل تركت فيها أيضا العديد من البنى التحتية اللازمة لإعادة النهوض: الصناعة والزراعة والانتاج التكنولوجي (وإن بدائي)، إضافة إلى ترسيخ قواعد الحداثة في طبعتها الشيوعية.
لم يحدث شيء من هذا القبيل في الدول العربية، عدا ربما في مصر الناصرية خلال حقبة الخمسينيات والستينيات، حين شهدت أرض الكنانة ثورة اقتصادية – تكنولوجية شبيهة بتلك التي أدخلها الاتحاد السوفييتي في أجرامه الأوروبية، ولو قـدّر لهذه الثورة الناصرية أن تستمر، لكانت مصر الآن نمراً آسيوياً متقدماً.
لماذا تأخرت المجتمعات العربية على هذا النحو؟ لأسباب عدة:
– الإمبراطورية الأمريكية التي كانت تتبع لها العديد من الدول العربية طيلة النصف الأول من القرن العشرين لم تهتم البتة بتشجيع الحداثة في هذه الدول. فهي اكتفت بتحويلها إلى أسواق استهلاكية، وتركت أنظمتها السلطوية تتكفل بتحقيق “الاستقرار” السياسي بالقوة في مجتمعاتها.
– تجربة الإمبراطورية السوفييتية في تحديث بعض الدول العربية، لم تعش طويلاً، وانهارت تماماً بعد حرب 1967 وما تلاها من خروح مصر من فلكها. وحين سقط الاتحاد السوفييتي نفسه عام 1989، بدت هذه الدول (العراق، وسوريا، وليبيا، والجزائر، واليمن الجنوبي) أشبه بمدن دمّـرتها الحرب، تسيطر عليها عصابات مسلحة أو قراصنة مسلحين يحملون أعلاماً.
– طيلة الفترة بين 1967 و1989، كانت كل الشعوب العربية بلا إستثناء عالقة في آلة زمن متوقفة عن العمل: لا هي قادرة على التقدم قليلاً إلى الأمام، ولا في مستطاعها التراجع كثيراً إلى الوراء.
السيف ذو حدّين!
أطلق الكثيرون على هذه الحقبة إسم “فترة الانحطاط الثانية” بعد فترة الانحطاط الأولى التي تلت سقوط عقلانية ابن رشد وانتصار “وسطية” الغزالي ثم “نصوصية” ابن تيمية. بيد أن التسمية الأدق هي الجمود في الزمن، لأن ثورة المعلومات والاتصالات حجبت إمكانية “الانغلاق الانحطاطي” الكامل.
هكذا كان حال الشعوب العربية حين حدث الانقلاب العالمي الكبير في 1989، وهكذا بقي الحال بعد مرور عشر سنوات على التحولات السياسية والاقتصادية الكبرى في أوروبا الشرقية وروسيا والصين والهند وبقية آسيا، لان الإمبراطورية الأمريكية (كما أشرنا بالأمس) لم تر ضرورة مُـلحّـة آنذاك لتغيير الأمر الواقع الشرق أوسطي بشكل جذري. بيد أن أسامة بن لادن دخل على الخط عام 2001 ليقلب هذه الصورة الراكدة رأساً على عقب.
فقد انهار فجأة الزمن المتجمد في المنطقة العربية مع انهيار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وهبّت على البيت العربي ذي المنازل الكثيرة عواصف عاتية اقتلعت كل نوافذه وأبوابه، ووضعته في قلب تغييرات العصر.
ما هي هذه التغيرات؟ إنها ببساطة الثلاثي نفسه الذي غيّر دول أوروبا الشرقية غَـداة انهيار الاتحاد السوفييتي: الديمقراطية، وحكم القانون، والأسواق الحرة، وهذا جنباُ إلى جنب مع الثلاثي الآخر الضروري في سيرورة العولمة، والمستند إلى إدماج ما هو قومي بما هو عالمي: الأفكار، والمال، والإعلام.
هل نسف الزمن المتجمد إيجابي بالنسبة للشعوب العربية؟ في الأمر فرص ومخاطر. المخاطر كبيرة: تقسيم المنطقة مجدداً، ومصادرة القرار الوطني والقومي، وهيمنة الإمبراطورية الإسرائيلية، وتضعضع الهوية العربية، والحروب الأهلية.. الخ.
لكن الفرص كبيرة أيضاً: الخروج من حال الجمود القاتل، واستعادة الحريات وحقوق الإنسان، وإعادة الاعتبار لـ “سلطة الشعب”، ومشاركة المجتمع المدني في صياغة القرارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وأخيراً، ثورة فكرية جديدة تستخدم الديمقراطية والحريات الفردية جسراً للنهوض بالأمة، ومنع التقسيم، ومصادرة القرار، ومواجهة الهيمنة الإسرائيلية والخارجية.
من غير المعروف حتى الآن لمن ستكون الغلبة: للفرص أم للمخاطر؟ لكن ثمة شيء آخر معروف: عقارب الساعة في الشرق الأوسط العربي لن تعود إلى الوراء بعد الآن، ولن تراوح مكانها بعد الآن. الساعة عادت للتكتكة، وسيكون على الشعوب والنخب العربية التأقلم بسرعة مع هذه التكتكات، إذا ما أرادت نصرة الفرص وإلحاق الهزيمة بالمخاطر.
وفي حال نجحت الشعوب والنّـخب العربية في تغليب الفرص على المخاطر، فإنها حينها ستنعم بالديمقراطية بدون أن تخسر الاستقلال (ولو النسبي)، وستحقق ما يصفه علماء الاجتماع بـ “المضاعفات غير المحسوبة” والتي تُـسفر بموجبها سياسة ما عن عكس ما هو مستهدف منها.
هذه المضاعفات غير المحسوبة هي الآن ما تخشاه “واشنطن تايمز” والمحافظون الجدد. لكن هذا أيضاً ما يجب أن يشجع الشعوب العربية على تحويل هجوم العولمة عليها إلى هجوم لصالحها. فالديمقراطية سيف، ولكنه ذو حدّين.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.