المجتمع المدني المغربي يُـعـزّز حضوره
عقد المجتمع المدني المغربي مؤخرا منتداه الاجتماعي الثاني تحت شعار "مغرب آخر احتمال ممكن"، وذلك بمشاركة 400 جمعية، وحضور ما لا يقل عن 1300 مشارك.
ورغم بعض السلبيات التنظيمية، لا يمكن التقليل من أهمية الحدث الذي جعل من المغرب أول بلد عربي توفرت فيه الشروط الأساسية لإنجاز هذه الخطوة التي عجزت بقية الساحات العربية عن القيام بمثلها.
لقد ولدت صيغة “المنتدى الاجتماعي” في البرازيل، وتحديدا في مدينة “بورتو آليغري” التي أصبحت قبلة لمناهضي العولمة والغطرسة النيو ليبرالية يقصدونها مرة كل سنتين من جميع القارات.
وبعد تجربتين ناجحتين على الصعيد العالمي، أخذت التجارب الإقليمية والمحلية في أوروبا وآسيا وأمريكا تتكرر وتتوسع بهدف تجنيد أكبر عدد ممكن من المتضررين من سياسات البنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة، وكان آخر التجارب انعقاد المنتدى الاجتماعي الأوروبي بفرنسا.
وإذ انتقلت العدوى إلى الدائرة العربية، إلا أنها لا تزال تواجه صعوبات شتى، وفي مقدمتها العوائق السياسية في ظل أنظمة تخشى من كل تحرك احتجاجي مهما كانت درجته، حتى لو كان ذلك يهدف إلى دعمها في مفاوضاتها مع مؤسسات التمويل الدولية.
لكن أحد المغاربة الذين شاركوا في المنتدى الاجتماعي العالمي الثاني في ” بورتو اليغري” ويدعى كمال لحبيب، وهو سجين سياسي سابق ووجه يساري معروف وينشط في أكثر من جمعية، بعد اطلاعه على فلسفة التجربة وآليتها التنظيمية والمالية، أجرى مشاورات مع بعض الفعاليات داخل المغرب.
وعلى إثر جولة ميدانية بين المدن المغربية، تفاعلت مع دعوته عشرات الجمعيات العاملة في الحقل الاجتماعي والثقافي والمدني والحقوقي. وهكذا توفر العمود الفقري للمنتدى، وتشكلت لجنة تحضيرية، ولم يعترض صاحب القرار السياسي، وأنجز خلال السنة الماضية المنتدى الأول، وتكررت هذه المرة التجربة بعد تطويرها وتوسيعها.
90 ورشة وجلسة عامة
لم تبد السلطات المغربية تخوفها من أن يتحول “المنتدى الاجتماعي” إلى تقليد من تقاليد المجتمع المدني المحلي. ورغم أنها رفضت السماح بتنظيم المسيرة التي طالب بها المنظمون بحكم أن هذه الصيغة الاحتجاجية تعتبر من بين الفعاليات التي ارتبطت بفكرة المنتدى الاجتماعي حتى يتمكن المحتجون من تبليغ أصواتهم وتعبئة الرأي العام، إلا أن السلطات وضعت على ذمة المشرفين على المبادرة “الحي الجامعي السويسي الأول” بمدينة “العرفان” (الرباط). وهو المكان الذي احتضنت قاعاته وساحاته ومطاعمه الجلسات العامة والورشات والمعارض والمسيرات الداخلية.
وما من شك في أن مساحة الحرية التي توفرت في المغرب خلال السنوات الأخيرة هي التي أعطت للنشطاء فرصة عقد المنتدى الاجتماعي، ما بين 27 و 29 يوليو الماضي دون صراع أو إزعاج أو ابتزاز. لهذا لم تجد الجمعيات والأحزاب والنقابات وحتى التنظيمات غير المعترف بها صعوبات أو عوائق أمنية من شأنها أن تحول دون تحركها وتبليغ مواقفها وتوزيع نصوصها وبياناتها، بما في ذلك البيانات ذات الطابع النقدي والحاد.
حصل ذلك رغم الظرف الاجتماعي الصعب الذي تمر به المغرب، من حيث ارتفاع الأسعار، وتضخم نسبة البطالة خاصة في صفوف خريجي الجامعات الذين نظموا عدة تحركات احتجاجية رفعوا خلالها شعارات تؤكد على أن العمل حق أساسي من حقوق الإنسان.
وإذ غابت فئة سكان الأحياء القصديرية التي لا تزال تطل بعلامات بؤسها على كل زائر، والتي كثر الحديث عنها في المغرب منذ عمليات 16 مايو 2003 الانتحارية التي وضعت المملكة على قائمة البلدان الرئيسية المنتجة للإرهاب، إلا أن مختلف القضايا التي أفرزتها المرحلة أو فرضها ذلك “الزلزال” الذي أدخل المغاربة في كابوس جديد، كانت محل نقاش داخل التسعين ورشة وجلسة عامة التي تضمنها برنامج المنتدى.
نقاشات ثرية ومتنوعة
وقد تنوعت القضايا التي طرحت داخل الورشات لتلامس مختلف التحديات، مثل “العولمة والحركات الاجتماعية”، “الليبرالية الجديدة والتنمية الانسانية”، “المراهنات الجغرا-سياسية بالمتوسط”، ملف الهجرة، “الحروب والعسكرة في جنوب المتوسط”، تحديدا فلسطين والعراق ومشروع الشرق الأوسط الكبير، “العلمانية والثقافة” وغيرها.
كما توقف البعض عند الحركات الاجتماعية في العالم العربي، حيث تم استعراض واقع المجتمع المدني والأحزاب السياسية، والتقاطعات الحاصلة بين الأجندات الدولية والإقليمية والتحديات التي تواجها المنظمات غير الحكومية في المنطقة، بما في ذلك المسائل المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الصحافة والتعبير.
وإذ بدا واضحا الحضور المكثف لليسار المغربي بمختلف اتجاهاته، سواء على صعيد التنظيم، ووضع الأولويات وإدارة الورشات واختيار القضايا، وهو أمر طبيعي بحكم الأسبقية في التشكل التاريخي والاهتمام الأيديولوجي بالقضايا الاجتماعية والنشاط الجمعوي، لكن ذلك لم يمنع وجود إسلاميين، حضروا وناقشوا، وبلغ بعضهم مواقفهم ووجهات نظرهم.
من ذلك أن ورشة “التطرف الديني” التي دامت يوما كاملا، شهدت نقاشات ثرية ومتنوعة إلى حد ما، وكشفت بوضوح أن المسألة الدينية لا تزال مستعصية في المغرب رغم الطابع الديني للسلطة، وأن بعض فصائل اليسار المغربي بدأت، تحت وطأة المتغيرات وسلسلة الأزمات الداخلية، تحاول إعادة تناول هذا “الموضوع-اللغم” بأقل توتر ومن زاوية تتجنب الصدام المباشر مع الإسلام كدين وعقيدة، وأن ما يطلق عليهم بـ “السلفية الجهادية” أصبحوا يشكلون تهديدا ليس فقط على النظام السياسي واستقرار المملكة وتجربة الحريات، بل يهددون حتى الحركات الإسلامية المعتدلة التي حققت خلال المرحلة الأخيرة ما عجزت عن تحقيقه معظم الحركات الإسلامية العربية.
وخلافا لتجارب أخرى، ورغم الدعوة الاستئصالية التي تحمس لها البعض، فقد كشفت بعض فعاليات المنتدى عن وعي عميق لدى الكثير من المثقفين المغاربة بضرورة عدم السكوت عن استفحال ظاهرة التعذيب، حتى لو اقتصر ذلك الأسلوب على العدو المشترك (والمقصود هنا: أنصار التيارات الإسلامية المتشددة). من هذه الزاوية كان ملف المعتقلين ضمن حملة ما يسمى بمواجهة الإرهاب، مطروحا بقوة، بعد أن بلغ عددهم ألفي معتقل، وبعد أن اشتكى الكثير منهم من سوء المعاملة داخل محلات الإيقاف والسجون.
الأصوات الأمازيغية كانت أيضا حاضرة بقوة في المنتدى الاجتماعي المغربي، لتذكر الجميع ببعد آخر من أبعاد الوجود السياسي والثقافي لهذا البلد الذي يمر بتحولات عميقة غير معروفة النتائج.
ففي جلسة الافتتاح، وبينما كان الناشط الفلسطيني المعروف الدكتور مصطفى البرغوثي يؤكد من على المنصة بأن فلسطين عربية وستبقى عربية، وأنها تدافع من خلال صمودها عن كامل الأمة العربية، فإذا بأصوات ترتفع هنا وهناك، لتسكته وتصف خطابه بأنه خطاب عنصري، وتهتف في المقابل بأن فلسطين “قضية إنسانية وليست عربية”.
هذه الحادثة التي تمكن المنظمون من تجاوزها بسرعة، أفسحت المجال – في المقابل – للحديث في الكواليس عن أهمية التشكل الثقافي والسياسي للوجود الأمازيغي داخل التركيبة المغربية. وهو وجود مختلف في تعبيراته عن الحالة الجزائرية، لكن أصحابه أو ممثلوه يتفاوتون في أطروحاتهم، وخلفياتهم وأهدافهم.
طموح مغربي
لقد كان المنتدى فسحة عبر من خلالها مئات المغاربة عن تطلعاتهم، وأكدوا بأن نحت مغرب جديد قائم على العدل والمساواة والتعددية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ليس أمرا مستحيلا، وإنما هو هدف ممكن تحقيقه.
كما كان ملفتا نجاح المنتدى في تجنب نزوع الأحزاب نحو السيطرة واحتكار مثل هذا المنبر الهام، حيث اكتفت التنظيمات السياسية بالمشاركة غير المباشرة، مما ميز بين الفضاء الجمعوي والفضاء الحزبي.
من جهة أخرى، التزم المنتدى المغربي بميثاق المنتدى العالمي، والذي من بين بنودها عدم إصدار بيان ختامي، حفاظا على الفلسفة التنظيمية للمنتدى باعتباره “إطارا مفتوحا للجميع، لا يقصي أحدا ولا يفرض على أحد تغيير مواقفه من القضايا، إلا ما تعلق منها بحقوق الإنسان”.
والتزاما منها بالشفافية، وزعت اللجنة المنظمة للمنتدى عند الاختتام تقريرها المالي المؤقت، حيث قدرت النفقات ب530.200.000 درهم. كما استعرض التقرير قائمة المنظمات التي ساهمت في التمويل، بما في ذلك “شبكة المنظمات العربية للتنمية” و “جامعة محمد الخامس”.
نظرا لنجاح التجربة الثانية، فقد اتسع طموح المنظمين، وأصبحوا يعتقدون بأن استضافة المغرب لاحتضان المنتدى الاجتماعي العالمي لسنة 2005 أصبح بدوره هدفا ممكن التحقيق، وقد انطلقت المفاوضات فعلا مع السلطات لإنجاز هذا التحدي النوعي والضخم.
وإذا ما تحقق ذلك فسيكون المغرب الأقصى أول بلد بعد الهند ينجح في تجنيد ما لا يقل عن مائة ألف مناهض للعولمة من شتى أنحاء المعمورة، مما سيمكن المملكة من تسويق صورة مختلفة عن تلك التي جعلت منها في الفترة الماضية مصدرا للإرهاب والتطرف.
صلاح الدين الجورشي – الرباط
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.