المعايير المزدوجة تعكّـر المشترك الإنساني
شهد الأسبوع الثاني من العام الجديد التئام ثلاثة مؤتمرات في منطقة الخليج، تمحورت حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والحوار مع الغرب.
وعلى عكس الدوحة وأبو ظبي، تميّـز مؤتمر صنعاء، بمشاركة أوروبية واسعة، وتمثيل محدود للمجتمع المدني، وغياب أمريكي شبه كامل.
أنهى مؤتمر صنعاء الإقليمي حول “الديمقراطية وحقوق الإنسان، ودور المحكمة الجنائية الدولية” أشغاله في العاصمة اليمنية بالتأكيد على كونية القضايا المطروحة في جدول أعمال المؤتمر، والتشديد على خصوصية المنطقة العربية والثقافة الإسلامية.
وخرج المتابعون لما دار فيه بانطباع أن المنطقة مازالت تعيش تحت طائلة المخاوف من الرجّـات التي عرفتها خلال السنوات الأخيرة، وما نتَـج عنها من معايير مُـزدوجة حيال القضايا التي ناقشها المؤتمرون، وبدا ذلك جليّـا في مؤشرات كثيرة.
وكشفت طبيعة القضايا التي تداولها المؤتمرون، والمضامين التي اكتستها، أن المنطقة لا زالت واقعة في أسر ومنطق التفاعلات التي تعيش على إيقاعها منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 وما ترتّـب عليها من إعلان مكافحة الإرهاب، إضافة إلى تداعيات غزو العراق.
وتبدّت تلك الهموم حاضرة في أكثر من مؤشر من خلال وجهة القضايا المطروحة، وإعلان صنعاء والبيان الختامي، ومن خلال المؤتمرات الصحفية ومضمون التصريحات الإعلامية للمشاركين فيه.
وعلى الرغم من أن المواقف التي اتُّـخذت من القضايا المطروحة على المؤتمرين مثّـلت تحوّلا ملموسا من قبل بلدان ظلت على الدوام تُـوصم بالدكتاتورية والاستبداد، ولفظ التوجهات الديموقراطية، إلا أنها ظلت أسيرة لتصورات خاصة عكست في مدلولاتها ومعانيها ثقل الإشكاليات التي تعيش في ظلّـها المنطقة العربية والإسلامية منذ أكثر من ثلاث سنوات، ودور العامل الخارجي في صياغة النموذج المأمول للديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة.
عناوين مُـشتركة بمضامين متباينة
من جهة أخرى، كشفت المداخلات والمواقف المعلنة لمعظم الأطراف المشاركة، أن المضامين التي يعتمدونها للقضايا المطروحة مختلفة تماما عن تلك التي صيغت في الخارج، وخاصة ما يرتبط بالمفاهيم الأمريكية التي تسعى واشنطن إلى تكريسها والترويج لها تحت ما يسمى بـ “مكافحة الإرهاب” تارة، وباسم الديموقراطية تارة أخرى، ومن ثم استبدال النظم الديكتاتورية القائمة في المنطقة.
وفي السياق ذاته، برز التشديد على أن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة تقررها شعوب المنطقة دون تدخل أو وصاية من أحد، كما جاء في إعلان صنعاء والبيان الختامي للمؤتمر، يُـضاف إلى ذلك الدعوة لعقد مؤتمر دولي لتدارس الإرهاب والخروج بتصور مشترك له، وتحديد مفهومه، والتفريق بينه وبين حق تقرير المصير والدفاع عن النفس ورد العدوان، وفقا للقوانين والمواثيق الدولية، ومن ثم مكافحته.
ومع أن الخطابات المطروحة، والنقاشات المثارة، واللغة التي كُـتِـب بها إعلان صنعاء، أبرزت أن المشترك الإنساني الذي ينشده المؤتمرون في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الدولية لا زالت أسيرة الإشكاليات المفروضة على المنطقة، إلا أن المؤتمر كشف عن وجود قناعة راسخة لدى مختلف الأوساط الرسمية والشعبية بأن التعاطي مع هذه القضايا الإنسانية يتّـسم اليوم بمعايير مزدوجة وانتقائية.
وقد عبّـر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح عن هذه القناعة لدى إشارته إلى ما يجري من انتهاكات، وقتل، وتدمير في الأراضي الفلسطينية من قِـبل إسرائيل، ومباركة تلك الأعمال من جانب الإدارة الأمريكية، وإلى ما يجري من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان في العراق.
هذه الإشكاليات ألقت بظلالها على فعاليات المؤتمر، ودفعت الكثيرين إلى التحذير من الانعكاسات السلبية جدا لهذا التناقض بين النموذج النظري والممارسة الفعلية لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، الأمر الذي سيُـضعف من حضورها، وتمثيل قيمها وسط شعوب المنطقة، وبالتالي، يُـصبح الحماس لها خافتا لا يرقى إلى مستوى التشبث بها والدفاع عنها، على عكس ما هو قائم في بلدان عديدة أخرى لا تقع تحت طائلة هذه الصورة المتناقضة بين الشعور بالظلم، وازدواجية المعايير، وبين المناداة بإرساء قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة.
لذلك، يمكن القول أن مفردات الواقع الذي تعيشه يوميا المنطقة العربية انعكست بشكل جلي وصارخ على المداولات والنقاشات والتوصيات المطروحة، وأدّت في المحصّـلة إلى بروز توافق بين المشاركين حيال الخصوصيات الثقافية والدينية المختلفة من حضارة إلى أخرى، حيث شدّدوا على أن الإرث الحضاري والثقافي للمجتمعات العربية والإسلامية ينبغي أن يُـؤخذ في الاعتبار ويُـحترم.
وماذا عن المحكمة الجنائية الدولية؟
وفيما يتعلّـق بمواقف البلدان المشاركة في المؤتمر من التوقيع والمصادقة على الانضمام إلى اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية، لم يتبنّ المؤتمر موقفا مُـلزما وصريحا، يدعو الدول المشاركة فيه إلى التوقيع على معاهدة إنشاء المحكمة بالنسبة للدول التي لم تنضم إليها أو المصادقة على العضوية بالنسبة للدول التي كانت طرفا في المعاهدة منذ وقت سابق.
وبالتالي، لم يطرأ أي تغيير في موقف البلدان المشاركة من التوقيع أو المصادقة على معاهدة إنشاء المحكمة باستثناء الموقف اليمني الذي جاء على لسان وزير الخارجية أبو بكر القربي عندما قال “إن اليمن في طور استكمال الإجراءات للمصادقة على المعاهدة”، وفي حالة تحقق ذلك قريبا ستكون اليمن الدولة العربية الثالثة التي صادقت على الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، إلى جانب كل من الأردن وجيبوتي الدولتان العربيتان الوحيدتان اللتان صادقتا على الاتفاقية حتى الآن من إجمالي ثلاثة عشر دولة عربية عضوة في الاتفاقية.
وحسب المتابعين، فإن عدم اتخاذ موقف صارم من مطالبة الدول المشاركة، الانضمام إلى هذه المعاهدة الدولية، يعود إلى ضعف التمثيل لهيئات المجتمع المدني في المؤتمر الذي كان لها الدور الأبرز في خروج المحكمة الدولية إلى العلن، فضلا عن أن الفتور الرسمي حيال هذه المسألة مرده إلى المخاوف السائدة في الأوساط الرسمية المشاركة من تعرض مسؤولي بلدانها إلى المسألة والمحاكمة مستقبلا أمام هذه الهيئة القضائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
كما وجد بعض المشاركين في الموقف الأمريكي والإسرائيلي من إنشاء المحكمة والعضوية فيها، والذي اتسم حتى الآن بسلبية كبيرة تجاهها ذريعة كافية للتنصّـل من الانضمام إلى عضويته، وبرّروا ذلك بأن الولايات المتحدة وإسرائيل تتهربان من التزامات العقاب من تبعات ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، في الوقت الذي تتجه أصابع الاتهام إلى عدد من مسؤولي البلدين بالضلوع في تجاوزات خطيرة في فلسطين والعراق .
وفي المحصّـلة، يُمكن القول أن اليمن خرج من المؤتمر متوّجا بتقدير تجربته الديمقراطية الناشئة، ومع أن إعلان صنعاء وما تضمّـنه من توصيات ليست له قوة قانونية إلزامية، إلا أن أهميته تكمُـن في أبعاده السياسية والأخلاقية.
عبد الكريم سلام – صنعاء
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.