الهجرة السرية: بين الواقع الميداني والمعالجة المستحيلة!
الحوار الذي شهدته العاصمة التونسية يومي 16 و17 أكتوبر الجاري بين خبراء ووزراء ما يعرف بمجموعة "5+5" لم يكن سهلا بالمرة.
اللقاء درس صيغ “التعاون بشأن الهجرة في غرب البحر الأبيض المتوسط”، لكن صدور إعلان مشترك لخص “نوايا” الجانبين لم يـحُـل دون دفاع كل طرف عن وجهة نظره.
فمن جهة، حاولت الأطراف الأوروبية التي تشمل فرنسا وإيطاليا ومالطا والبرتغال وإسبانيا تمرير التوصية بوجوب ترحيل المهاجرين الذين تمكنوا من التسلل إلى دول غرب المتوسط بطرق غير شرعية، بينما تمسكت الدول المغاربية الخمس (وهي تونس والجزائر والمغرب وليبيا وموريتانيا) بضرورة تسوية أوضاعهم وإدماجهم مع بقية العمال في الدورة الاقتصادية.
وإذ أصر الأوائل على حصر القضية في الإطار الأمني وفق تداعيات 11 سبتمبر وحسب منطق العرض والطلب، حاول الآخرون توسيع دائرة المعالجة، ودفع النقاش في اتجاه وضع تصور بعيد المدى يستند على الشراكة الفعلية، ويهدف إلى معالجة الأسباب العميقة الكامنة وراء تفاقم ظاهرة الهجرة السرية.
ورغم أن الروح الوفاقية قد سادت في الأخير، وصدر عن الاجتماع لأول مرة نص سمي بإعلان تونس، جاءت بعض توصياته قريبة من وجهة نظر دول جنوب المتوسط، إلا أن الملف لا يزال مفتوحا ويتطلب مزيدا من النقاش والمتابعة الجدية.
مخاوف أوروبا أمنية!
ما يشغل الأوروبيين بدرجة أساسية هو البحث عن الطريقة الأفضل للتحكم في الهجرة وتنظيمها، والتصدي بقوة للهجرة السرية التي وضعوها على رأس أولوياتهم خلال قمتهم الأخيرة التي انعقدت في مدينة إشبيلية.
فهم الآن يفضلون إعطاء الأولوية لليد العاملة ذات الخبرة والكفاءة، خاصة في مجالات السياحة والفلاحة والإعلامية والخدمات. لهذا، اختارت عديد الدول مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال صيغة الحصص، مع اعتماد معايير اقتصادية مثل التمتع بموطن شغل، واعتبارها شروطا مسبقة لتسوية جماعية لأوضاع المهاجرين غير القانونيين. أما الهجرة السرية فيتعاملون معها باعتبارها ظاهرة أمنية بدرجة أساسية، خاصة بعد تصاعد الموجة ضد الارهاب.
من هذه الزاوية، جاء الإلحاح خلال الاجتماع الأخير على “تفعيل التعاون من أجل محاربة الهجرة السرية في البلاد الأصلية، وذلك من خلال وضع آليات لمقاومة الشبكات التي تقف وراء تهريب الأشخاص، وتطوير التعاون الفني، خاصة في مجال تكوين وتدعيم قدرات مراقبة حدود دول جنوب المتوسط”، مقابل “تقديم مساعدات لضحايا هذه العمليات” والوعد بـ “دراسة وسائل التدخل الممكنة في المناطق الفقيرة، وتعزيز الظروف المناسبة لتمكين المهاجرين المقيمين بصفة قانونية و”التسليم بضرورة اتخاذ الإجراءات التي من شأنها أن تبسّـط تسليم التأشيرة”.
ورغم إقرار شخصية هامة مثل السيد فيليب فاراغ، مدير البحوث بالمعهد الوطني للدراسات السكانية بباريس، بأن التبادل الحر الذي سيدخل حيز التنفيذ سنة 2010، لن يخفض سريعا من حركة الهجرة، بل سيزيدها قوة في انتظار حصول التغيرات الاقتصادية التي ستحد منها، فإن الحكومات الأوروبية لم تفعل شيئا كثيرا في مجال دعم تنمية الدول الأصلية وحماية اقتصادياتها حتى تتمكن من تشغيل أبنائها واستقبال العائدين منهم.
“ابحثوا عن الأسباب”..
في مقابل ذلك، يعتقد المغاربة حكومات ومجتمعات مدنية أن السلوك الأوروبي تجاه المهاجرين متناقض كليا مع الفلسفة الليبرالية التي أصبحت في الغرب مرجعا مقدسا، وهو ما جعل الخبير المغربي محمد الخشاني يقول، إن ليبرالية الأوروبيين تقف عند حدود مصالحهم، مشيرا إلى التأثير الحيوي للمهاجرين في قطاعات عديدة ستصبح مهددة بالإفلاس في صورة انسحابهم وعودتهم إلى بلدانهم.
كما يطالب المغاربة بتسوية أوضاع المهاجرين وتمتيعهم بحقوقهم الأساسية وفق المواثيق الدولية، بما في ذلك احترام خصوصياتهم الثقافية، ويدعون إلى وضع نظرة شاملة لتفحص الأسباب العميقة التي تقف وراء الهجرة، ويعتبرون أن القرار الذي اتخذته أوروبا في مطلع التسعينات بإحكام غلق الأبواب في وجه المهاجرين الجدد هو المسؤول عن تنشيط حركة الهجرة السرية بكل أبعادها وجوانبها الدرامية.
لهذا، أكد وزير الشؤون الاجتماعية التونسي السيد الشاذلي النفاتي على أن الهجرة أصبحت قضية حضارية “لم تعد تقبل آحادية الطرح”، مضيفا أن حرية التبادل التجاري وتنقل رؤوس الأموال لا يمكن أن تحصل ثمارها المرجوة ما لم تكن مدعومة بحرية تنقل اليد العاملة، وأن الهجرة المنظمة هي “السبيل الوحيد للحد من تنامي ظاهرة الهجرة السرية وشبكات التهريب والاتجار بالأشخاص”.
فحكومات المغرب العربي تربط بين دعمها لتحقيق التنمية المندمجة، وبين مقاومة الهجرة السرية، وهو ما جعل الاجتماع الأخير يتناول ثلاث محاور، من بينها الهجرة والتنمية، والتطرق إلى حلم أهل الجنوب منذ الستينات بمساعدتهم على نقل التكنولوجيا.
تعاون من أجل الحل
وفي انتظار أن تكتسب التوصيات، التي توصل إليها ممثلو الضفتين، صبغتها الإلزامية تواصل أسبوعيا قوارب الموت محاولاتها لتهريب الحالمين بالوصول إلى الفردوس الأوروبي، وذلك رغم استمرار سقوط الضحايا، كان آخرهم الثمانية الذين ماتوا غرقا قبل أيام في عرض بحر مدينة الشابة الساحلية، ورغم إنقاذ وإيقاف المئات من “الحارقين” وإصدار أحكام غليظة على بعض الوسطاء والمهربين، بلغت حدود الثماني سنوات.
لهذا، اعتبرت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان في بلاغ أخير أن “اعتقال الحارقين وسجنهم لا يشكل علاجا حقيقيا لأوضاعهم، وإنما المطلوب محاورتهم والتعرف على ظروفهم ومساعدتهم على توفير الشغل اللائق بهم الذي باعتباره حق من حقوقهم الأساسية”.
كما تعتزم الرابطة – في إطار سعيها للتحسيس بهذه الظاهرة التي وصفتها بالمخيفة – الاشتراك مع الجامعة الدولية لحقوق الإنسان (مقرها باريس) في تنظيم ندوة دولية في مدينة المهدية الساحلية باعتبارها من بين المواقع التونسية الرئيسية التي تتسرب منها قوارب الموت باتجاه الشواطئ الأوروبية.
وقد تكون هذه الندوة مسبوقة بتوجيه بعثة إلى إيطاليا لمزيد معرفة الظروف الحقيقية التي أدت إلى موت 14 شابا تونسيا غرقا يوم 22 سبتمبر الماضي.
صلاح الدين الجورشي – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.