الوجـه غير المشرق للاقتصاد السويسري
هناك قطاع اقتصادي في سويسرا يوظف نصف مليون شخص، ويبلغ رقم معاملاته 40 مليار فرنك في السنة، لكنه يوجد خارج الشرعية تماما.
العمل الأسود أو السري، يعتبر كارثة بالنسبة للبعض ورحمة لكثيرين، لكنه يظل ظاهرة يعسُـر ضبطها ورسم حدودها.
منذ عشرات السنين، تدور مناقشات حامية الوطيس حول ظاهرة تطور العمل الأسود أو السري وانعكاساته على المجتمع. فمن وجهة نظر السلطات، يمثل التوظيف غير المشروع لعمال، مصدرا للعديد من المشاكل، مثل تهديد الحماية التي يتمتع بها العمال والإضرار بالمنافسة في عدد من القطاعات الاقتصادية وخسارة نسبة من المداخيل الضريبية…
أما بالنسبة لآخرين، يُـعتبر العمل الأسود أو السري طريقة للإفلات من الإلتزامات المبالغ فيها والمُـكلِـفة، المفروضة من طرف المؤسسات العمومية والبيروقراطية، إضافة إلى أنها وسيلة لتحسين مستوى العيش.
وعلى الرغم من السجالات العديدة، التي أدلى فيها كل طرف بحجَـجه المعارضة أو المؤيدة لهذا الشكل من الاقتصاد المخفي، إلا أن العمل الأسود أو السري يظل ظاهرة مجهولة إلى حدٍّ بعيد، مثلما تؤكّـد ذلك كتابة الدولة للشؤون الاقتصادية.
إضافة إلى ذلك، أدّى غياب المعطيات الرسمية والثغرات المسجّـلة فيما يتعلق بمواجهة الظاهرة بأسلوب منسّـق (مثلما هو الأمر على مستوى عمليات الرقابة) إلى صعوبة القيام بأي تحليل دقيق لها في سويسرا على الأقل.
لهذا السبب، وفي محاولة للحصول على إطار تقريبي للوضعية السائدة في الكنفدرالية، يتم الرجوع إلى الأعمال التي أنجزها فريدريخ شنايدر، البروفيسور في جامعة يوهانس كيبلير بمدينة لينتس النمساوية، الذي خصّـص مسيرته العلمية لدراسة تطور ظاهرة العمل الأسود أو السري في العالم.
نصف مليون من العمال غير الشرعيين
في آخر تقرير أعدّه، كتب شنايدر يقول “إن الاقتصاد المخفي يمثل ظاهرة تنامت باستمرار على مدى الثلاثين سنة الماضية في أوروبا… في المقابل، نلاحظ انعكاسا للتوجّـه ابتداءً من عام 2004”.
وطِـبقا للتقديرات المقدّمة من طرف شنايدر، التي لا تأخذ بعين الاعتبار الأنشطة غير المشروعة، مثل تهريب المخدرات والاتجار فيها، فإن حجم العمل الأسود أو السري في سويسرا، ارتفع من 3،2% من إجمالي الناتج الداخلي في عام 1975 إلى 9،5% في عام 2003، ثم تراجعت إلى 9% في عام 2005 وإلى 8،5% في عام 2006. أما بالنسبة للعام الحالي، فيتكهّـن البروفيسور النمساوي بأن لا تتجاوز النسبة 8،2%.
وفي حديث مع سويس انفو، يوضَــح فريدريخ شنايدر أن “التراجع المسجّـل في السنوات الأخيرة في سويسرا، يعود أساسا إلى اعتماد إجراءات وقوانين جديدة أدّت إلى تبسيط مكافحة العمل الأسود أو السري”.
ويُـعتقد أن عدد العاملين كامل الوقت في هذا “القطاع” ذي الطبيعة الخاصة من الاقتصاد، يصل إلى حوالي 490 ألف شخص، أي ما يناهز 15% من إجمالي اليد العاملة النشيطة في الكنفدرالية.
وعلى عكس الرأي السائد، فإن جزءً محدودا جدا (لا يزيد عن السُّـبع)، يعمل في إطار اقتصاد البيوت في أعمال التنظيف والطبخ وحضانة الأطفال. ويكشف شنايدر أن أكثر من نصف العمال غير الشرعيين، يتواجدون في قطاع البناء والحِـرف.
من جهتها، تضيف دوريس بيانكي، المسؤولة عن الأمانة المركزية في اتحاد النقابات السويسرية، أنه “لا يجب أن ننسى قطاعي المطاعم والزراعة، التي تقل فيها إجراءات المراقبة مقارنة بالنسق القائم في وِرش البناء”.
البحر المتوسط يتّـشح بالسواد
مقارنة بالوضع السائد على المستوى الأوروبي، يتّـضح أن الظاهرة لا زالت تحت السيطرة إجمالا في سويسرا، التي لا يُـمكن مقارنتها بالتقديرات المتوفرة لحجم وقيمة سوق العمل الأسود أو السري في البلدان الأوروبية المتوسطية. فعلى رأس القائمة، توجد اليونان، التي يُـتوقع أن يصل حجم العمل الأسود فيها، مقارنة بإجمالي الناتج الداخلي في العام الجاري إلى 25،1% متبوعة بإيطاليا (22،3%) وإسبانيا (19،3%).
الملفت أن البلدان الاسكندينافية، التي عادة ما تُـعتبر الأفضل في مجال العمل والحقوق الاجتماعية، ليست أحسن حالا، إذ أن النسبة تناهز 15% لكل من النرويج وفنلندا والدنمرك.
ويلاحظ شنايدر أنه “بشكل عام، يـمكن القول بأن حجم سوق العمل الأسود أو السري، يكبَـر إطّـرادا مع ارتفاع حجم الضغط الضريبي والعقوبات المالية”، كما يشير إلى أن من بين الأسباب الأخرى لتفاقم الظاهرة، المبالغة في تقنين سوق العمل وتدنّـي جودة الخدمات العامة.
على المستوى العالمي، لا يحتل العمل الأسود أو السري أهمية أقل مما هي عليه في سويسرا، إلا في الولايات المتحدة (7،2%)، أما في الجهة المقابلة من الترتيب، فيمكن العثور على بلدان من بوليفيا وجورجيا أو الزيمبابوي، التي يخرج فيها ثلُـثا إجمالي الناتج الداخلي عن سيطرة الدولة.
40 مليار من الضرائب المفقودة
إذا كانت انشغالات النقابات وأرباب العمل تتمحور بالخصوص حول التأثيرات المحتملة للعمل الأسود أو السري على الأمن الاجتماعي للعمال وديمومة المؤسسات الاقتصادية، فإن الدولة منزعجة من الحجم الذي بلغه رقم معاملات، ما أصبح يُـعرف بالاقتصاد المخفي، والذي تشير التقديرات إلى أنه يناهز 40 مليار فرنك (أي حوالي ضِـعف المداخيل المتأتية من القطاع السياحي) تُـفلت في كل عام من أية رقابة ضريبية.
ويرى فريدريخ شنايدر أن بإمكان السلطات أن تتمكّـن من كبح جماح الظاهرة عبر القيام بإصلاحات ترمي إلى الحث على نقل العمل من السوق الأسود إلى السوق الرسمي، ويقول الخبير النمساوي “بدلا من اعتماد سياسات عقابية، هناك حاجة لإصلاح النظام الضريبي والتأمينات الاجتماعية، بما يُـوفر دفعا للاقتصاد الرسمي”.
سويس انفو – لويجي جوريو
(ترجمه من الإيطالية وعالجه كمال الضيف)
يوم 1 يناير 2008، يبدأ العمل بالقانون الفدرالي حول العمل الأسود أو السري، الذي صادق عليه البرلمان في يوليو 2005.
ينص القانون على تشديد العقوبات لأرباب العمل، الذين يستفيدون من خدمات عمال غير شرعيين.
يواجه المخالفون في قطاعي البناء والزراعة (المشمولان بشكل خاص بهذه الظاهرة) عقوبات مشددة، تشمل الاستبعاد من المشاركة في المناقصات العمومية وتخفيض المعونات العمومية. إضافة إلى ذلك، ينص القانون على فرض غرامات مرتفعة جدا (تصل في بعض الأحيان إلى مليون فرنك) وعقوبات بالسجن (تصل إلى 5 أعوام).
في المقابل، ينص القانون الجديد على تسهيلات إدارية في مجال التأمينات الاجتماعية والضرائب المستقطعة مباشرة من المرتبات عن طريق اعتماد طريقة احتساب مبسّـطة للأنشطة المربحة المحدودة (مثل أعمال التنظيف والاعتناء بالحدائق وما شابه ذلك)
يوازي حجم الثروة الناجمة عن الاقتصاد المخفي في سويسرا حوالي 8،2% من إجمالي الناتج الداخلي (حسب معطيات الباحث النمساوي فريدريخ شنايدر، توقعات عام 2007).
اليونان: 25،1%
إيطاليا: 22،3%
ألمانيا: 14،6%
فرنسا: 11،8%
بريطانيا: 10،6%
النمسا: 9،4%
الولايات المتحدة: 7،2%
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.