“الوسيط” التركي .. بين المؤمّـل والمـحـذور
تطرح هوية تركيا المترددة، حتى لا نقول الملتبسة، بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والعلمانية، إمكانية أن تقوم بلعب أدوار وسيطة بين العوالم التي تتوزع بينها.
هذا المنطق فرض نفسه أكثر مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة خريف عام 2002، وتعزز في الأشهر الأخيرة من خلال محاولات وساطة مثيرة للجدل والإهتمام في آن واحد.
هوية تركيا المترددة، حتى لا نقول الملتبسة، بين الشرق والغرب، بين الإسلام والعلمانية، طرحت تلقائياً إمكانية أن تقوم بأدوار وسيطة بين العوالم التي تتوزع بينها.
وفرض هذا المنطق نفسه أكثر مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة خريف العام 2002، ولا سيما مع محاولة منظّري السياسة الخارجية التركية الجديدة استبدال مصطلح “الجسر” بين الشرق والغرب، إلى مصطلح “الجسر المتفاعل” توصيفاً للدور التركي.
وافق إسلاميو حزب العدالة والتنمية على علمانية النظام التركي، وانفتحوا على العالمين العربي والإسلامي من دون القطع مع الدولة العبرية. وبذلك توفرت، على ما ظُنّ، الشروط اللازمة، عند الضرورة، للقيام بمسعى هنا أو هناك.
أربع محاولات للوساطة، خلال الأشهر القليلة الماضية، ثلاث منها تخص اسرائيل ورابعة الدانمرك وأوروبا عموماً.
وساطة بين حماس وإسرائيل
أولى الوساطات، كانت في مطلع شهر سبتمبر 2005، وفي أنقرة تحديداً، مع اللقاء الذي جمع وزيري خارجية باكستان وإسرائيل.
ثانية الوساطات، أو محاولات التقريب، كانت في “المشروع الصناعي من أجل السلام” الذي خططت له تركيا واتحاد الغرف التركية، لإقامته في منطقة ايريز بين غزة وإسرائيل، ويهدف إلى تفعيل “الشراكة” الفلسطينية ـ الإسرائيلية بدعم دولي بعيداً عن العنف.
الآن، في الأيام القليلة الماضية، برز دور “الوسيط”، بقوة في قضية حساسة جداً، هي وصول منظمة “حماس” إلى السلطة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. من دافوس تحديداً، أطلق رجب طيب أردوغان مبادرته، عارضاً وساطة تركيا بين حماس والحكومة الإسرائيلية، على أساس اعتراف اسرائيل بحماس واعتراف حماس بإسرائيل.
من الواضح أن إسرائيل لن تمانع الاعتراف إذا تركت حماس السلاح واعترفت بإسرائيل. لكن المبادرة التركية لم تذهب أبعد ذلك ولم تجب على سؤال: وماذا بعد الاعتراف المتبادل؟ إن عدم الإجابة تطرح علامات استفهام على مبادرة حزب العدالة التنمية، لأن الذي لم تعطه إسرائيل لمحمود عباس، عرّاب أوسلو، لن تمنحه لحماس. وإسرائيل في الأساس لم تعط شيئاً للفلسطينيين: جدار عازل، مستوطنات، اغتيال قادة، مجازر، جرف أراضي، معارضة مبدأ حق العودة للاجئين. في هذه الحال يتساءل المراقبون: لماذا يدفع أردوغان في اتجاه تغيير حماس لموقفها، هي التي اختارها الشعب لبرنامجها، في وقت لا يطالب فيه إسرائيل بمنح الفلسطينيين حقوقهم؟
تتراكم علامات الاستفهام، وتزداد التباساً من اعتبار اردوغان وساطته بين باكستان واسرائيل نموذجاً للتعميم، والذي لم يكن يعني سوى تذليل العقبات أمام التغلغل الإسرائيلي داخل العالم الإسلامي هذه المرة. ولعل الأخطر أن يدعو أردوغان وبرويز مشرف إلى إقحام منظمة المؤتمر الإسلامي في الوساطة بين حماس وإسرائيل (صحيفة ميللييت 2006/1/29). وهذا من دون شك تسخيرٌ لمنظمةٍ يفترض أن تكون درع حماية للوجود الإسلامي في العالم، والدفاع عن قضاياهم وفي مقدمها القضية الفلسطينية. ويتساءل كثيرون اليوم: هل أصبح دور منظمة المؤتمر الإسلامي تسهيل التصالح مع إسرائيل وإدخالها في الجسم الإسلامي؟
وساطة بين الدنمارك والعالم الإسلامي
محاولة الوساطة الرابعة، جاءت هذه المرة من الآخر وعُرضت على حزب العدالة والتنمية والحكومة التركية. وتتعلق بدور تركي بخصوص تخفيض التوتر الذي ساد بين أوروبا والعالم الإسلامي بعد نشر رسوم كاريكاتورية للنبي محمد (ص) في صحيفة دنماركية وصحف أوروبية أخرى.
هرعت كريستيان هوب سفيرة الدنمارك في أنقرة إلى مقر وزاة الخارجية التركية طالبة من الحكومة التركية النجدة عبر إصدار تصريح يسكّن الاحتقان والتوتر في العالم الإسلامي.
لا شك أن تركيا في الحالة الدنماركية، محرجة جداً. فتركيا تسير على طريق العضوية الأوروبية، وهي في الوقت نفسه عضو في العالم الإسلامي. لا يستطيع أردوغان إلا أن يدين تحقير الصحيفة الدنماركية ويطلب بوضع حدود للحرية، لكنه في المقابل انتقد ردود الفعل المتطرفة في العالم الإسلامي. وذهبت منظمة المؤتمر الإسلامي، بوحي تركي، في توجيه الانتقاد نفسه.
إن ما يميز حملة العالم الإسلامي ضد الإساءة للرسول الكريم، أنها شعبية وترتبط بالمزاج الشعبي، ومن الصعوبة لحكومة في بلد، ومنها تركيا، أن تتجاوز هذه الإساءات خصوصاً أن أوروبا مجتمعة، والدنمارك خصوصاً، لم تقبل الاعتذار رسمياً، ووضعت نشر الرسوم في خانة حرية التعبير، وهو ما دعا أحد الكتّاب الأتراك، محمد أوجاقتان، إلى وصف ذلك تهكماً بـ “معايير كوبنهاغن للسُبَاب”.
لقد عكس “الإسلام المعتدل” لحزب العدالة والتنمية، حتى اليوم، استعداده للتنازل المغلف بـ “المرونة” في قضايا أساسية عقيدية مثل الحجاب والزنا والإعدام، واضطر للتراجع عن سياسات انفتاحية واسعة كان سلكها تحت ضغط اسرائيل والولايات المتحدة.
آمال بالنجاح هنا وفشل مرتقب هناك
في واقع الأمر، تملك تركيا أدوات كثيرة للقيام بدور وسيط، فهي عضو في حلف شمال الأطلسي ومرشح للعضوية في الاتحاد الأوروبي وذات علاقات جيدة مع إسرائيل، ومن جهة ثانية هي عضوٌ مؤثر في منظمة المؤتمر الإسلامي (من خلال أمينها العام التركي)، ولحكومتها القائمة طابعٌ إسلامي، قادت سياسة انفتاح ناجحة على العرب والمسلمين.
إن أية محاولة تركية للوساطة في قضايا حساسة: إسرائيل ـ فلسطين، الغرب ـ الإسلام، تفترض لنجاحها عدم الوقوع في الخطأ. فتركيا طائرٌ بجناحين، إن مال إلى أحدهما انكسر الآخر.
مشروع الوساطة الحالية بين العالم الإسلامي والغرب لتبريد التوتر، يشكل امتحاناً مهماً وفرصة أولى للنموذج التركي بعد انطلاق مفاوضات العضوية مع الإتحاد الأوروبي. إن تركيا تستطيع أن تستثمر صداقاتها في العالم الإسلامي ومؤسساته لوقف حملة الاستنكار ضد أوروبا ودعمها لـ “حرية الإساءة للرسول”. لذلك ستكون تركيا، إن نجحت، خير رسول مسلم داخل أوروبا. وهو ما سيعزز حظوظها في إنهاء مفاوضاتها مع الإتحاد الأوروبي بالعضوية الكاملة. ويبدو أن حظوظ النجاح ليست قليلة، خصوصاً أن لأوروبا مصالحها الاقتصادية وتبحث عن مخرج حقيقي لهذه الأزمة. يمكن لتركيا توفير هذا المخرج وإن ليس بالسرعة اللازمة مع الإشارة إلى أن منظمة المؤتمر الإسلامي تعتبر إحدى الأدوات الرئيسية لهذا المسعى.
لكن هذه المبادرة، لن تعرف قطعاً نجاحاً في ما يتعلق بالعلاقة بين “حماس” وإسرائيل. إذ أن عناصر المبادرة التركية هنا مختلّة. فالمبادرة تقع على مسافة واحدة من حماس وإسرائيل، فيما المطلوب الضغط على إسرائيل التي لا تقدم أي شيء يضمن حلاً عادلاً وشاملاً للمعضلة الفلسطينية.
خلاصة القول أن “الإسلام المعتدل”، يمكن أن ينجح في الساحة الأوروبية والرسمية الإسلامية، لكنه ملتبس وغير مفهوم في الشارع الإسلامي، التركي والإسلامي، وتحديداً في الساحة الفلسطينية.
د. محمد نور الدين – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.