بداية عسيرة لمجلس الحكم في العراق
المهام المُـعقّـدة التي تنتظر مجلس الحكم الانتقالي في العراق تبدو عسيرة الإنجاز في الظروف السائدة حاليا.
ويزيد الأمور تعقيدا الاعتراضات متعدّدة الأطراف التي واجهها هذا المجلس قبل وبعد تشكيله.
لا شيء يُـمكن اعتباره باعثا على التفاؤل في العراق الجديد. هكذا بدأ مواطن عراقي حديثه مُـعلّـقا على إعلان تشكيلة مجلس الحكم الانتقالي في هذا البلد الذي مزّقته ثلاثة عقود ونصف من الحروب والأزمات الداخلية والخارجية، حتى جاءه مجلس الحكم ليُـضيف قدرا من التّـعقيد على الواقع المليء بالتناقضات والتعقيدات أصلا.
ولا يخفى أن هذا المجلس، حتى وإن كان خُـطوة أولى على الطريق، حاز من الاعتراضات من مجموعات الداخل والخارج مما جعل تلك الاعتراضات تسرق الأضواء منه بشكل يدعو للرثاء والخيبة معا.
فقد حاز مجلس الحكم العراقي اعتراضات السنة والشيعة، كما حاز على غضب مجموعات الداخل وأحزاب وجماعات الخارج المعارضة لنظام الحكم السابق في البلاد. وربما وحدهم أكراد العراق الذين لم يُـبدُو حتى الآن اعتراضات جوهرية عليه، لسبب واحد بسيط وهو أنه، وبصرف النظر عن نسبتهم المرتفعة بأكثر من استحقاقهم في تشكيلته، يخدم مشروعهم في إنشاء نظام حُـكم فدرالي ضمن عراق متعدد الطوائف والعقائد.
ولئن كان اعتراض أبناء السنة العراقيين مفهوما لأنه همَّشهم وبعث لهم برسائل لا تخطئها العين تهدد وجودهم وكيانهم ومستقبلهم، لا يبدو مفهوما اعتراض الشيعة العراقيين على هذه التركيبة، بعد أن نالوا لأول مرة منذ التأسيس الحديث للدولة العراقية في أغسطس 1923 هذه النسبة العالية من التمثيل في الكيان الإداري الجديد، الذي يُـنتظـَر له أن يرسم مستقبل العراق ويحدد شكله وطريقة الحكم فيه.
المهمّـة المستحيلة؟
فمسألة التمثيل الطائفي والعرقي لم تكن مطروحة بهذه الدرجة من القوة والوضوح طيلة العقود الماضية من عمر الدولة العراقية الحديثة، ليس من باب عدم الاعتراف بحقوق الطوائف والأعراق الأخرى من غير العرب والمسلمين السنة، بل لأن هذه القضية لم تكن واردة في ذهن السياسي العراقي الحديث وهو يختار من بين صفوف العراقيين قادة ووزراء وموظفين ذوي رتب عالية.
ويُـمكن أن نتذكر رؤساء وزارات ووزراء وقادة عسكريين ونوابا أكرادا أو شيعة ومسيحيين أيضا كانوا يتراصفون جنبا إلى جنب مع زملائهم من العرب السنة، وهو ما استمر عليه الحال حتى في ظل نظام الرئيس المخلوع صدام حسين والعقود الثلاثة من حكم حزب البعث العربي الاشتراكي.
وإذا كانت قضية كتابة دستور جديد للعراق من بين أول مهمات هذا المجلس وأكثرها إلحاحا، فإن ثمة سؤالا يبرز هنا عن الكيفية التي سيُـعالج بها الدستور المُـرتقب للبلاد نظام الحِـصص الطائفية والعرقية بعد أن باتت هذه التركيبة القسرية سابقة خطيرة لا يمكن الفكاك منها في أي ترتيبات مستقبلية ذات صفة تتسم بقدر من الاستقرار والثبات.
فمن المؤكّـد أن أيا من التنظيمات السياسية أو الطائفية والعرقية التي يزخر بها المجتمع العراقي سوف لن يتنازل عن نسبته التي حازها في هذا المجلس، والتي يرى أنها (حق مقدس له انتزعه نضالا) عندما يتم التقدم لانتخابات عامة تُـسفر عن تشكيل حكومة وطنية.
والملاحظ، أن مراكز القوة الحقيقية في الشارع الشيعي العراقي هي التي أخذت على عاتقها مهمة التصدي لهذا المجلس، مُـعلنة رفضها للأسس التي قام عليها وللشخصيات الممثلة فيه.
التّـوازن بين السنّـة والشيعة
فقد كانت الحوزة العلمية في النجف، وهي بالقطع مركز القوة الأكبر لدى شيعة العراق، واضحة في رفضها المجلس وانتقاده علنا ودون مواربة. وكانت فتوى المرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله علي السيستاني في هذا الصدد واضحة وقوية ولا تسمح لأي كان بالنظر إليها من زاوية أخرى، تماما كما كان مقتدى الصدر، النجم الشيعي الآخذ بالبروز، واضحا ليس من خلال إعلانه رفض المجلس جُـملة وتفصيلا فحسب، بل ومن خلال إعلانه تشكيل جيش المهدي الذي لن يكون إلا خنجرا قويا في الخاصرة الأمريكية، وهو في كل الأحوال عصا في دولاب مجلس الحكم العراقي الجديد.
ويتلخّـص موقف مقتدى الصدر في ضرورة قيام دولة دينية راديكالية في العراق على غرار النموذج الإيراني، وهو ما لا يُـمكن لواشنطن أن تقبله في عراق ما بعد صدام حسين.
أما هيئة علماء المسلمين، وهي المرجع الأعلى لأبناء السنة في العراق، فقد رفضت هي الأخرى المجلس وقالت إنه قسَّم العراق تقسيما طائفيا مرفوضا.
وكان واضحا من خلال اللافتات المرفوعة في التظاهرة الحاشدة التي شهدتها أروقة وساحات وحدائق جامع أم القرى في بغداد وجوامع أخرى في أنحاء من العراق، ومن خلال بيان الهيئة الرسمي أن السُـنَّـة يرون أنهم أغلبية عددية في العراق مطالبين بإحصاء سكاني عادل وحقيقي وغير مُـسيَّس، لأنهم يعتقدون أن جعل الغلبة العددية للشيعة إنما يهدف إلى غرض سياسي “مريض”.
وأشارت الهيئة في بيانها الذي أصدرته، أنه وبصرف النظر عن صلاحيات المجلس الانتقالي والجهة التي عيـَّنت أعضاءه، وهي إدارة الاحتلال الأمريكية، فإن المجلس يُـذكّـي صراعات طائفية بغيضة يجب تلافيها حرصا على وحدة الشعب الوطنية.
كما كان من بين اعتراضات هيئة علماء المسلمين على المجلس اعتباره يوم التاسع من أبريل عيدا وطنيا للعراق، مؤكدة أنه يوم حزن وذل وأسى، وأن الشعب سوف لن يُـسامح أو يرحم من اقترحه ومن وافق عليه.
ويقول بعض المسلمين السنة، إن خفض نسبة تمثيلهم في هذا المجلس جاءت عقابا على مواقف أبناء السنة المقاومين للاحتلال الأمريكي. وبالتأكيد، فإن الغالبية العظمى من الضربات الموجعة للولايات المتحدة في العراق كانت في المثلث السُـنّـي الذي تتوزع أقطابه الثلاث بين الموصل والرمادي وتكريت، حيث انحصرت عمليات المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي في تلك المناطق على نحو يلفت الأنظار.
كما اعترض على قيام هذا المجلس زعماء عشائريون من مختلف مناطق العراق، وسياسيون من مختلف القوى والتيارات، سواء منها التي كانت من بين تنظيمات العمل السياسي في الخارج أو أولئك الذين فضـَّلوا البقاء في العراق طيلة حكم الرئيس السابق.
بين الإدارة المحلية وإدارة الاحتلال
ويرى كثيرون أن هذا المجلس في حقيقة الأمر مجلس صوري منزوع الصلاحيات باهت المسؤوليات. ويُـمكن التّـنويه إلى أن بعضا من أعضائه صرَّحوا في جلسات خاصة بعيدة عن أضواء الإعلام ودون خشية من رقابة السيد بول بريمر، بأنهم لا يعرفون حدود صلاحياتهم وماهيتها بالضبط حتى الآن في أقل تقدير.
وهناك أيضا مشكلة فيتو السفير بريمر الذي يتوقع أن يكون الفيصل في أي خلاف مفترض – جدلا – بين أعضاء المجلس وإدارة الاحتلال الأمريكية.
وكان آخرون أكثر وضوحا في التعبير، حينما أكّـدوا أن بعض أعضاء مجلس الحُـكم لا يحملون الجنسية العراقية أصلا، وهي مشكلة أخلاقية أكثر منها دستورية، وذلك لعدم وجود دستور للبلاد في هذه المرحلة.
ومع أن كل دساتير العراق الحديث تمنع ازدواج الجنسية لمن يكون في موقع قيادي بارز، فضلا عن أنها تشدد على ضرورة أن يكون القادة العراقيون من حَـملة الجنسية العراقية حصرا ومن أبوين عراقيين بالولادة لا بالتجنس، وهو ما تفتقده بعض العناصر في تركيبة المجلس الجديد. وربما كان موقف الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين الأكثر اعتدالا في هذا الصدد، وهو أمر يُـلفت الأنظار.
فقد قال صدام حسين، إن مجلس الحكم تم تعيينه من قبل القوة المحتلة، وأنه حتما لا يمثل الإرادة العراقية، إلا أنه طلب من العراقيين في رسالة صوتية، هي الثالثة منذ الإطاحة بنظام حكمه، أن يتناسوا انتقاداتهم للمجلس وأعضائه، وأن لا تفقد أعينهم مدى رؤيتها واتجاهها الذي قال إنه يجب أن يظل مصوَّبا إلى المحتلين الأمريكان فحسب.
بين المطرقة والسندان
وكان رد الشارع العراقي واضحا هو الآخر. فقد شعر المواطنون العراقيون عموما بامتعاض شديد، ووصف آخرون ما جرى بأنه مهزلة كبرى، فيما اعتبره مواطنون غاضبون آخرون إهانة كبرى للشعب العراقي، حينما اختارت قوة الاحتلال شخصيات بعينها وكثير منها مغمور أو مجهول لتبوء مراكز قيادية في العراق، وكأن هذا الشعب العريق الذي أقام أول دولة وأنشأ أول قانون وكتب أول حرف في تاريخ الإنسانية بات اليوم عقيما وعاجزا عن أن يفرز من بين أبنائه أشخاصا مؤهلين بحق للتصدي لهذه المهمة التاريخية الجسيمة في قيادة العراق.
وحتى الآن، لا يمكن القول ان الاعتراضات التي أبداها العراقيون على مجلس الحكم يمكن أن ترقى إلى تبلور تيارات معارضة فاعلة وحقيقية، إلا أن ما يُـمكن قوله بثقة ان استمرار الأزمات في العراق على المدى المنظور، وهو الأمر الأكثر ترجيحا حتى الآن، يُـمكن أن يُـعزّز مواقف التيارات التي بدأت تسعى إلى بلورة مواقفها المعارضة.
وقد تسمح عملية إعدام نجلي الرئيس العراقي السابق، عدي وقصي للمعارضة العراقية بأن تأخذ أبعادا أخرى، لأن تلك القوى المعارضة والمقاومة ستفصح عن نفسها بقوة هذه المرة لتؤكد على أنها غير مرتبطة برموز النظام السابق، وأنها، خلافا لما يشيع الأمريكيون، مقاومة وطنية موجهة إلى صميم الوجود الأمريكي الذي يُـمثّـل احتلالا للعراق واستلابا لقدراته وثرواته، وليس مجرد دفاع عن نظام هوى ورموز سقطت.
ويُـتوقّـع أن تُـثار في الشارع العراقي، وداخل المجلس نفسه، مشكلات حقيقية عندما يبدأ المجلس بممارسة صلاحياته المفترضة والمتمثلة في الإشراف على الجهاز التنفيذي واختيار مجلس دستوري تأسيسي.
ومن بين المشكلات المتوقعة التي يمكن أن تثار بسهولة، تلك المتعلقة بكيفية صدور القرارات. هل ستصدر بالأغلبية المطلقة أم بالتوافق؟ وحول تعيين واختيار أعضاء الجهاز التنفيذي.
وهناك أيضا مشاكل التقسيم المذهبي والعرقي والعشائري ونصيب كل طرف في الجهازين التنفيذي والدستوري للمجلس، ما دامت هذه الصيغة هي المعتمدة والمرسَّخة الآن.
وليس بعيدا أن تلجأ بعض الأطراف الممثلة في المجلس إلى أعمال عنف، إذا لم يكن صوتها مسموعا ونافذا داخل مجلس الحكم كما تأمل وتعمل، وذلك في إطار عملية لـيّ الأذرع بين القوى والتيارات غير المُـنسجمة في تركيبته، خاصة أن ثمّـة شخصيات من بين الممثلين في المجلس تستند إلى قوة عسكرية بأكثر من استنادها إلى قوة تمثيلية حقيقية في الشارع العراقي، وأن هذه التشكيلات المسلّـحة العائدة لها، سبق أن مارست بالفعل أعمال شغب وعنف في السنوات السابقة، بمعنى آخر أنها جاهزة للقيام بمثل هذه الأعمال.
وهناك أيضا خشية حقيقية من أن يؤدي أي فشل في تحقيق الأمن أو عجز عن تقديم الخدمات أو تأخر في تقديم رؤية سياسية معقولة ومنقذة، سيؤدي في النهاية إلى تبادل الاتهامات بين الأمريكيين والمجلس، الأمر الذي سيُـفجّـر الأوضاع في العراق مرة أخرى.
مصطفى كامل – بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.