مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

برلمان مصر وتوازن سياسى جديد

تتجه الأنظار الآن إلى الرئيس حسني مبارك وسط تساؤلات حول احتمالات تعزيز الإنفتاح السياسي في مصر بعد الإنتخابات الدامية (الصورة: جدارية دعائية في أحد شوارع القاهرة مساء 8 ديسمبر 2005) Keystone

انتهت واحدة من أعنف الإنتخابات البرلمانية التي شهدتها مصر الحديثة، ومن أكثرها إثارة فى نتائجها وتداعياتها المستقبلية.

واليوم تدخل البلاد مرحلة سياسية محملة بالأعباء والتحديات والتطلعات أيضا.

فالذين خسروا يدققون فى أسباب الخسارة، والذين حققوا اكثر مما توقعوه يرنون إلى ممارسة برلمانية تؤكد وجودهم السياسى وتجلب لهم شرعية قانونية يسعون إليها منذ عقود دون جدوى.

وما بين الخسارة والفوز يقف المواطن البسيط متسائلا هل سيكون البرلمان الجديد افضل حالا من سابقه، أم ستبقى الأمور على حالها، لاسيما فى ظل وجود العديد من الوجوه القديمة للحزب الوطنى الحاكم تفسر ما جرى بأنه انتصار للديموقراطية وللحزب معا.

ظواهر قديمة جديدة

وبنظرة كلية يمكن القول أن ظواهر عديدة فرضت نفسها فى هذه الانتخابات لم تكن سوى امتداد لحالة احتقان سياسى عام من جانب، ونتيجة التطلعات المتناقضة من جانب آخر.

فقد جرت الانتخابات فى ظل مناخ دولى يضغط سياسيا وإعلاميا سواء عن حق او عن باطل من أجل تحولات ديموقراطية فى البلاد العربية، ناهيك عن وعود النخبة الحاكمة حول الإصلاح المتدرج وضرورة المشاركة الشعبية. لكن ما جرى فعلا جاء فى جانب منه معاكسا لتلك الوعود. ويشهد على ذلك تصاعد العنف إلى درجات غير مسبوقة، ليس بين مناصرى المرشحين وحسب، بل بين هؤلاء وقوات الشرطة التى منعت التصويت فى الكثير من الدوائر، لاسيما فى مراحل الإعادة، للحيلولة دون فوز مرشحي المعارضة وجماعة الإخوان تحديدا.

كما غابت المرأة إلا ما ندر ، ومن استطعن الفوز كان ذلك نتيجة جهود شخصية وعائلية لا اكثر، أما الأقباط فهم قد غيبوا أنفسهم لأسباب عديدة فى السنوات العشرين الماضية، وبات تمثيلهم مرهونا بعدد الأعضاء المعينيين الذين سيصدر بهم قرار رئاسى لاحقا.

وهو أمر لن يلغى الأثر الكبير الذى أحدثه فوز الإخوان بهذا العدد الكبير من المقاعد عليهم وعلى غيرهم من أنصار التوجه الليبرالى، فكلاهما يشعران بالتهميش وغياب الجذور الشعبية، وبات عليهم البحث عن صيغة لإثبات الذات سياسيا وبين الناس من شمال مصر إلى جنوبها، وليس فقط فى وسائل الإعلام وحسب، التى تكتفى بانتاج نجوم ولكن بلا وهج جماهيرى.

هبوط شعبية الوطنى

ولعل ابرز الظواهر، هبوط شعبية الوطنى الحاكم رغم الفوز بما يفوق الثلثين. ففى ظل النتائج شبه النهائية، حيث توجد 7 سبع دوائر أجلت فيها الانتخابات لوقت آخر، يتربع الحزب الوطنى الحاكم فى المقدمة بعدد مقاعد 318 مقعدا، تزيد عن 73% بقليل من إجمالى عدد المقاعد، وهى نسبة تتيح له إصدار القرارات والقوانين بطريقة مريحة، لأنها تزيد عن نسبة الثلثين المطلوبة دستوريا.

بيد أن هذا التربع على القمة وبهذه النسبة لا تخلو من دلالات سلبية، إذا ما قورنت بحجم عضويته فى البرلمان المنصرم، والتى ناهزت 92%. فهناك إذا هبوط فى شعبية الحزب لا محالة فى ذلك، وهو هبوط مزدوج، فعدد الذين فازوا على لائحة الحزب الأصلية حققوا نسبة فوز 35% وحسب، وذلك مقارنة بنسبة 38% حققها فى انتخابات العام 2000.

وبعد استقطاب المرشحين الفائزين باعتبارهم مستقلين وغير حزييين فى الأصل، ارتفعت نسب الفوز إلى نسبة الـ 70%، وبما يعنى أن الحزب قد فقد قاعدة جماهيرية عريضة كانت تؤيده فى السابق لم يعوضها إلا استقطاب المستقلين الذين رضوا الانضمام للحزب الوطنى تسهيلا لمصالح خاصة بدوائرهم.

وإذا وضعنا فى الاعتبار أن عددا من كبار أعضاء و رموز الحزب فقدوا مقاعدهم النيابية لصالح مرشحين دخلوا الانتخابات لاول مرة، منهم يوسف والى ومحمد موسى واحمد أبو زيد وغيرهم، فيتضح أن الحزب لم يكن واعيا بما يكفى بتوجهات الناخبين فى العديد من الدوائر، والتى ترفض مرشحيه باعتبارهم بلا شعبية وفاقدى الصلة بمتطلبات الناس وحاجاتهم الحقيقية.

ضعف الاصلاحيين فى الوطنى

وإذا تم ربط هذه النتيجة بما يجرى منذ فترة فى داخل هياكل الحزب الوطنى على خلفية تنافس أقرب إلى صراع مكشوف بين نخبة تدعو نفسها بالإصلاحية والرغبة فى التجديد الكلى، وأخرى قوامها الرموز القديمة تصر على الاستمرار بنفس الآليات القديمة، يتضح أن الحزب وبالرغم من فوزه لن يكون هو نفسه فى المرحلة المقبلة، لاسيما وان هناك حالة غليان لدى مجموعة الإصلاحيين الذين غابت رموزهم عن البرلمان الجديد من أمثال حسام بدراوى، بل تصل الرغبة لدى البعض إلى الانسلاخ عن الوطنى وتشكيل حزب جديد يقوده جمال مبارك تحت مسمى حزب المستقبل.

غير أن التدقيق فى آليات السياسة المصرية العتيقة، تجعل مثل هذه الرغبة مجرد حالة انفعالية لا اكثر من قبل أنصار التوجه الذى يرى فيما جرى فى الانتخابات تراجعا وانتكاسة للأفكار الديموقراطية التى يبشرون بها المجتمع، خاصة وانهم جميعا ينتمون إلى فئة المثقفين الذين يكتفون بالتنظير السياسى ورجال الاعمال الحريصين على استمرار مصالحهم وهو ما يتحقق بالتواجد فى حزب ترعاه الحكومة وليس فى حزب يناصبها العداء. ولذلك يبدو المرجح اكثر أن تحدث حالة من إعادة هيكلة داخلية للحزب تقوم على التوافق بين الإصلاحيين والتقليديين ولو إلى حين.

مفارقات توازن سياسى جديد

أحد أهم نتائج الانتخابات تكمن فى أنها جلبت برلمانا يخضع لقوتين كبيرتين، الحزب الوطنى ذى الأغلبية، وتكتل جماعة الإخوان المسلمين، وبينهما مجموعة صغيرة من ممثلى الأحزاب الشرعية والمستقلين الذين أصروا على وضعيتهم الأصلية كغير حزببيين.

هذا التوازن العام لا يخلو من غرابة ومفارقات قانونية وسياسية لا حصر لها. فالجماعة المحظورة قانونا باتت تشكل قوة المعارضة الرئيسية بعدد أعضاء 88 نائبا، يمثلون خمسة أضعاف ما كان للجماعة فى البرلمان المنصرم. فى الوقت نفسه يدعى قادة الجماعة انه لولا تزوير وتدخلات وعمليات منع للناخبين فى العديد من الدوائر لزاد أعضاء الجماعة عن اكثر من مائة عضو. وفى جزء من هذا الادعاء قدر من الصحة لا شك فيه.

ولفترة طويلة مقبلة سيتم التركيز على أسباب صعود الجماعة بهذا الشكل المفاجئ، وهنا تسرد عدة أسباب منها قوة الجماعة التنظيمية وقدرتها على حشد أعضائها استندا إلى قواعد الطاعة لأولى الامر من قادة الجماعة، وغناها المالى والانتشار الافقى فى المجتمع وتصرفاتها كحركة اجتماعية تقوم على الالتحام بالبسطاء عبر تقديم الخدمات المختلفة، والاهم من ذلك رفعها شعارات دينية فى بلد يتسم بلده بالتدين العام وهو ما تمثل فى شعار الاسلام هو الحل. إضافة إلى نمط التصويت الاحتجاجى ورفض رموز الحزب الحاكم، والذى دفع كثيرين إلى تأييد مرشحى الجماعة رغم عدم اقتناعهم بما تطرحه من أفكار كلية وغموض بعضها تماما.

تحديات مزدوجة

هذا الفوز المفاجأة للإخوان لا يخلو بدوره من تحديات للجماعة وللحالة السياسية ككل. فبالنسبة للجماعة، وفى ظل عدم استعداد النظام السياسى منحها شرعية قانونية كحزب أو جماعة غير حكومية، سيظل عليها الكفاح لهذا الغرض بكل ما فيه من مشكلات معروفة، كما سيكون عليها مواجهة مطالب القوى السياسية الأخرى الخاصة بتوضيح ماذا تريد الجماعة بالضبط فى مجال نظام الحكم والأداء الاقتصادى الكلى والعلاقات الخارجية والمؤسسات الدولية وغير ذلك مما لا يفسره شعار الجماعة او أدبياتها المعلنة التى تكتفى بمقولات عامة تحتمل تفسيرات شتى ومتضاربة أيضا.

أما أداء مرشحيها تحت قبة البرلمان فسيكون بدوره محل متابعة من القوى السياسية المختلفة، والجزء الأكبر من المتابعة المنتظرة سيكون بالنقد والرفض، لاسيما إذا جاءت مطالب أعضاء الجماعة لتصب فى مزيد من تديين العمل السياسى.

وإذا عدد كان أعضاء الجماعة لا يوفر لهم التدخل فى السياسات التشريعية التى سيحتكرها الحزب الوطنى، فلا شك أن آليات الرقابة البرلمانية من استجوابات وتقديم أسئلة وطلبات إطاحة وطرح مشروعات قوانين ونقد ما سيقدمه الحزب الوطنى من مشروعات للموازنة والتشريعات المختلفة، سيكون له صداه فى المجتمع حتى ولو لم يؤخذ به فى أى تشريع.

حياة حزبية ضعيفة

أظهرت الانتخابات أن الحياة الحزبية فى مصر ليست سوى أكذوبة كبرى، فكل الأحزاب القانونية من ناصرية ووفد وتجمع والغد وباقى الأحزاب السبعة عشرة، لم يحصلوا الا على 12 مقعدا وحسب، منها ستة نواب لحزب الوفد، ونائبين لكل من الغد والتجمع والكرامة تحت التأسيس. فى حين كان فى البرلمان المنصرم 23 نائبا يمثلون خمسة أحزاب قانونية. رافق ذلك سقوط رموز حزبية كبيرة مثل خالد محيى الدين الزعيم التاريخى للتجمع وضياء الدين داوود زعيم الحزب الناصرى، ومنير فخرى عبد النور نائب رئيس الوفد.

ومجمل النتيجة هنا أن هذه الأحزاب بلا شعبية وغير قادرة على أن تشكل تيارا وطنيا وسياسيا فى المجتمع مقارنة بما حققته جماعة الإخوان. هذا على الرغم من أن معظم هذه الأحزاب شكلت ما يعرف بجبهة للتغير والإصلاح لم يظهر لها أثر فى العملية الانتخابية.

ضعف نتائج الأحزاب المدنية هو امتداد لخبرة ثلاثة عقود من الحياة الحزبية المقيدة، التى لا تتيح للحزب إلا مقرا معزولا عن الناس وصحيفة يتابع فيها الصراخ والنقد بلا فعالية فى المجتمع. وهى خبرة سلبية وكارثية بكل المقاييس يُسأل عنها الحزب الحاكم الذى تفنن كثيرا فى إضعاف الأحزاب وتفتيتها من الداخل بكل الوسائل القانونية و التشريعية، معتقدا أن ذلك يوفر له سطوة وهيمنة غير محدودة على الحياة السياسية. وإذا به يحصد ما زرعه فى صورة مواجهة مع قوة شعبية صاعدة ممثلة فى جماعة الإخوان المحظورة، التى ضاعفت من أزمة الأحزاب جميعها أيا كان موقفها السياسى وطرحها الفكرى.

هذه النتائج رفعت من وتيرة المطالبة بضرورة إصلاح الحياة الحزبية، وإعادة النظر فى تشريعاتها المقيدة للأحزاب، ويجادل البعض فى أن ترك حرية تشكيل الأحزاب لمن يريد باتت ضرورة، وإلا تراجع هذا القدر المحدود من التطور الديموقراطى وذهب إلى غير رجعة. لكن إشكالية هذا الطرح انه يصطدم أساسا برغبة الحزب الوطنى فى أن يظل مسيطرا على قواعد اللعبة الحزبية من جانب، والخوف من أن تشكل الجماعة المحظورة حزبا قويا قد يعيد تشكيل الواقع السياسى المصرى برمته وعلى نحو غير مرغوب بالطبع.

وإلى أن تهدأ زوابع الانتخابات ويبدأ البرلمان أعماله، ويطرح كل طرف أولوياته وخططه، يصبح ممكنا الحكم على حجم التجديد السياسى الذى قد يحدث فى السنوات المقبلة. ومع قدر من التحفظ واستيعاب حقائق الحياة المصرية، فمن الصعب انتظار تغييرا كبيرا يصب فى مصلحة تحول ديموقراطى متكامل.

حسن أبو طالب – القاهرة

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية