تماسك أوروبي تجاه المسألة العراقية
إذا كان هناك من تطابق بين مواقف الرأي العام الأوروبي وحكوماته، فإنه يتجسّـد في الموقف من المسألة العراقية.
فغالبية الأوروبيين، حكومات وشعوبا، عارضت الحرب على العراق وتعارض اليوم تغييـب الأمم المتحدة في عمليات إعادة إعمار البلاد.
أفادت استطلاعات الرأي التي نشرتها المفوضية الأوروبية في مطلع الأسبوع في بروكسل أن 68% من الأوروبيين يعتقدون أن الحرب الأمريكية البريطانية على العراق كانت تفتقد للمبررات الشرعية، مقابل 29% يرون أن الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا مُـحقّـتيْـن في شن الحرب على العراق.
ويفيد الاستطلاع بأن ما يقارب الثلثين (58%) يعتقدون أنه يتوجّـب على الأمم المتحدة أن تتولى ريادة عمليات إعادة الإعمار، وأن تتكفّـل الولايات المتحدة بدفع تكاليف إعادة بناء ما دمّـرته آلياتها الحربية.
وتنسجم رغبة الرأي العام الأوروبي حيال مسائل إعادة الإعمار مع موقف غالبية البلدان الأوروبية، والتردد الذي أبدته خلال مؤتمر الدول المانحة في مدريد حيال المساهمة في إعادة إعمار العراق في ظل سيطرة إدارة الاحتلال الأمريكي.
وقد يزيد تصاعد أعمال العنف في العراق من عزوف الأطراف المانحة عن المغامرة بأموالها في ظل ارتفاع التوتر والمواجهات بين مجموعات المقاومة من جهة، وقوات الاحتلال من جهة أخرى.
ويرفض الاتحاد الأوروبي تقديم وعود مالية تتجاوز عام 2004 لأسباب عدم توفر الشروط السياسية والأمنية الضرورية لانطلاق مسار إعادة الإعمار.
التردد الأوروبي
وعرض الاتحاد، الذي يُـعَـدُّ تقليديا أكبر مانح في العالم، مبلغا قيمته 235 مليون دولار ستُـنفق في شكل هبات تحت إشراف صندوق دولي متعدد الأطراف. ويعد المبلغ محدودا مقارنة مع ما ستقدمه الولايات المتحدة، أي 20 مليار دولار، أو حتى مع قيمة المعونات التي سيقدمها اليابان في العام المقبل 1,5 مليار، أو ما وعدت المملكة العربية السعودية بتقديمه، مليار دولار، في شكل هبات.
إلا أن الأوروبيين يعتقدون أنه على الولايات المتحدة أن تتحمّـل كلفة ما دمّـرته في الحرب على العراق الذي يمتلك ثاني احتياطي نفطي في العالم.
وتفسر “محدودية” العرض الجماعي الأوروبي بانعدام توفر الشروط الأمنية والسياسية في العراق، وغموض آفاق استعادة سيادته، وصيغ إنفاق المعونات، والخوف من أن تكون خزائن المؤسسات الأمريكية الوجهة النهائية لمعونات الدول المانحة.
وتتفق البلدان الأوروبية وغالبية الأطراف الدولية بأن نجاح الجهود الجارية يتطلّـب “توفر البيئة الأمنية المناسبة، ووضع جدول زمني معقول لاستعادة السيادة العراقية، وأن تتولى الأمم المتحدة دورا حيويا في مسار إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي، وأن يتم إنشاء صندوق دولي يُـشرف على إنفاق المعونات الدولية”.
ويؤكد اتساع نطاق أهداف العمليات الانتحارية في وسط العراق انعدام توفّـر الشروط الأمنية، وهو ما من شأنه تأخير جهود إعادة الإعمار ووصول المعونات التي تم الوعد بتقديمها في نهاية الأسبوع الماضي في مدريد.
وقال كريس باتن، عضو المفوضية بأن الاتحاد الأوروبي قد يُـقدم خطة معونات تمتد على سنوات، احتمالا في الربيع المقبل. لكنه ربط وجود أية خطة بتوفر الأمن والاستقرار، والدور الذي يفترض أن تتولاه الأمم المتحدة، وأن يكون الصندوق الدولي “شفافا ومنفتحا”.
وأضاف كريس باتن أنه يجب النظر إلى المعونات الجماعية الأوروبية عبر إضافتها للمعونات والقروض التي تقدمها كل من الدول الأعضاء. وإذا كان الاتحاد سيقدم 230 مليون في الخزانة المشتركة، فإنه يقدم بطريقة غير مباشرة معونات باسم فرنسا التي توفّـر 18% من الموازنة الأوروبية، وكذلك باسم ألمانيا التي توفّـر ربع الموازنة الأوروبية.
الاستثناء البريطاني
ووعدت بريطانيا، أكبر حلفاء الولايات المتحدة ضمن الاتحاد الأوروبي، بتقديم 496 مليون دولار في شكل هبات خلال الفترة ما بين 2004 – 2006، لكنها لم تكشف بعدُ عن صيغ إنفاق الهبات ضمن الصندوق المتعدد الأطراف، أم على نطاق ثنائي مثل العديد من الدول المانحة.
وتأمل المؤسسات البريطانية أن تنال نصيبها من عقود إعادة الإعمار، وذلك نتيجة لانخراط بريطانيا في الحرب على العراق واحتلاله.
كما وعدت البلدان الأوروبية الأخرى، التي وفّـرت عددا من القوات ضمن القوات متعددة الجنسيات، بتقديم مساهمات مالية محدودة ستصل بالنسبة لإيطاليا إلى 236 مليون خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، وإسبانيا 300 مليون في شكل هبات وقروض، وجمهورية التشيك 50 مليون، والدنمارك 50 مليون.
وكانت إسبانيا أعلنت مساهماتها العسكرية بـ 1500 جندي، وإيطاليا 3000 جندي بالإضافة إلى عدد من البلدان الأوروبية الأخرى التي تساهم في القوات متعددة الجنسيات. كما قدمت بعض البلدان في الاتحاد، مساهمات محدودة تراوحت بين 5,9 مليون بالنسبة لبلجيكا، و30 مليون بالنسبة للسويد.
التجاذب الأوروبي الأمريكي
إلا أن الموقف الجماعي الأوروبي يظل يتأثر برفض كل من فرنسا وألمانيا لتقديم وعود مالية رغم تحسن مناخ النقاشات داخل مجلس الأمن، وتضمين القرار الدولي الأخير الإشارة إلى ضرورة إعداد دستور جديد وتشكيل هيئة خبراء متخصصة للنظر في هذه المسألة ابتداءً من منتصف شهر ديسمبر المقبل.
كما أن فرنسا وألمانيا، وهما يُـشكّـلان العمود الفقري للاتحاد الأوروبي، لا زالا يُـشددان على ضرورة إطلاق مسار استعادة السيادة العراقية، حسب جدول زمني معقول، وضرورة تحكّـم العراقيين في موارد بلادهم.
وتثير الموارد النفطية نهم المؤسسات العالمية. وقد أدت الحرب وسيطرة قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني إلى وقف نشاط المؤسسات الفرنسية والروسية، وربما إلى فقدان العقود الكبيرة التي كانت وقّـعتها في ظل النظام المخلوع، تحسبا لرفع الحصار.
ولم تحصل كل من فرنسا وروسيا على ضمانات من الولايات المتحدة باستعادة مؤسسات كل من البلدين الامتيازات التي كانت تتمتّـع بها قبل احتلال البلاد. كما تنتظر موسكو وباريس فتح ملف الديون المستحقة في العراق.
وتذكر تقديرات نشرت خلال مؤتمر الدول المانحة الأسبوع الماضي في مدريد بأن ديون العراق تصل إلى 120 مليار دولار. وتناهز مستحقات فرنسا من هذه الديون 4 مليارات دولار، ومستحقات روسيا 8 مليارات دولار.
وأفادت كل من فرنسا وألمانيا بأنهما ستتعاملان بإيجابية مع قضية ديون العراق عندما ستطرح في المنتديات المتخصصة مثل نادي باريس. لكن البلدان يرفضان شطب الديون، وهما في ذلك يلتقيان مع موقف المملكة العربية السعودية التي أكّـدت على لسان وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل “الاستعداد للنظر في تخفيف عبء الديون الرسمية”.
وتُـشير التقديرات إلى أن ديون العراق المستحقّـة لدول الخليج العربية قد تُـناهز 50 مليار دولار، منها 25 مليار مستحقة للمملكة العربية السعودية. وستمثل مشكلة الديون عنصر ضغط قوي على الحكومة الانتقالية العراقية أو تلك التي سيتم تشكيلها في المستقبل، ولا يمكنها التفاوض مع فرنسا وألمانيا أو مع الدول الدائنة الأخرى من أجل إعادة جدولة الديون، إذا هي ظلت تحت سيطرة الولايات المتحدة، وخاصة في حال انتزعت المؤسسات الأمريكية كافة عقود الإعمار.
نور الدين الفريضي – بروكسل
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.