“أدبُ السجون” في سوريا أو “الكتابة ضد النّسيان”
سمحت ندوة "الثورة السورية من وجهة نظر الأدباء" لعدد من زوار المعرض الدولي للكتاب في جنيف بالإطلاع على نماذج من الأدب السوري المعاصر قبل وبعد اندلاع الثورة، وكشفت لهم أن الأدباء والكتاب بدأوا ثورتهم ضد النظام قبل 15 مارس 2011، من خلال التطرق إلى مواضيع كانت من المحرمات كالتعذيب وأدب المعتقلات والنساء السجينات.
من بين الفعاليات التي تمت برمجتها ضمن “رواق الثقافات العربية” في اليوم الأول من الدورة الثامنة والعشرين للمعرض الدولي للكتاب والصحافة في جنيف، ندوة عُقدت تحت عنوان “سوريا: نظرة الأدباء”، أدارها الأديب السوري فاروق مردم باي واستضاف فيها كلاّ من هالة قضماني، وإيزابيل هاوزر، وروزا ياسين حسن.
إذا كان كتاب “ألوان السلطان” الذي ألفته الفرنسية إيزابيل هاوزر، بمثابة رواية تسرد أحاسيس وانطباعات “كانت تتنبأ بوقوع شيء ما في وقت ما من خلال ما تمت معاينته طوال ثلاث سنوات في البلد”، فإن كتاب السورية المغتربة هالة قضماني، ابنة الدبلوماسي السوري الذي اختار العيش في المنفى في فرنسا، بدأ مع ثورة 14 يناير في تونس، وجاء في صيغة حوار أجرته البنت مع والدها الراحل، قالت عنه: “إن أجوبة الوالد التي تخيّلتُها، هي بمثابة مفاتيح قد تسمح بالمساعدة على فهم ما يجري في العالم العربي اليوم “.
في المقابل، جاءت مساهمة الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، لتسمح للجمهور بالإطلاع على تطور نوع جديد من الكتابة أملته الظروف التي شهدتها سوريا منذ عقود يُسمّى “أدب السجون”، كان بمثابة ثورة مبكرة للأدب والأدباء السّوريين بدأت قبل اندلاع الثورة الشعبية في ربيع عام 2011 ضد نظام بشار الأسد.
ثلاث سنوات كانت كافية للتشخيص
السنوات الثلاث التي قضتها في البلاد بوصفها زوجة سفير دولة أوروبية مُعتمد لدى الحكومة السورية قبل بداية الثورة ضد النظام الحاكم في دمشق، ومغادرتها للبلاد في عام 2009، سمحت للكاتبة إيزابيل هاوزر بمُعايشة ما يكفي من الظروف والأوضاع، لكي تتخذ منها موضوعا لمؤلفات متتالية تشرح للقارئ الأوروبي البعض من الجوانب الخفية للنظام القائم في سوريا منذ أكثر من نصف قرن.
في تدخلها أثناء الندوة، قالت الفرنسية إيزابيل هاوزر: “لقد تولّد لديّ إحساس بأن شيئا ما سيقع في هذا البلد. لم أكن أعرف متى، ولا حتى الشكل الذي سيتخذه”. وفي بداية الأمر، كتَبتْ خواطرها هذه في رواية صغيرة بعنوان ” Le Petit Seigneur” أو “الحاكم الصغير”.
في عام 2011، أعادها اندلاع الثورة مُجددا إلى الواقع السوري، وتقول: “أتذكر جيدا يوم 18 مارس، عندما تلقيت رسالة الكترونية من صديق يقول لي “افتحي هذا الرابط واطلعي على هذا الموقع”. كان ذلك عبارة عن رابط لمقطع فيديو لمجموعة من المُصلّين في الجامع الأموي يُنادون بعد الصلاة بالحرية، ويتعرّضون للضرب في داخل المسجد وفي ساحته. وهو ما جعلني أشعر بإحساس غريب: هذا الشعب الذي كنا نعتقد أنه مستكين ولن يتحرك قد تجرأ على الإنتفاض”.
وفي هذا السياق، تشير هاوزر إلى أن من بين الأسباب التي دفعتها للعودة مُجدّدا للكتابة عن الثورة السورية رغم أوضاعها الحالية “صمود هذا الشعب رغم التعرض للقتل على أيدي رجال النظام، وعلى الرغم من اختطاف الثورة منه من قبل الجهاديين”.
شرعت إيزابيل هاوزر في كتابة رواية “ألوان السلطان” (Les couleurs du Sultan)، لكنها كانت تنشر كل فصل تنتهي منه على منتدى حوار افتراضي على شبكة الإنترنت، وتقول: “كنت أنشر الفصل كل يوم جمعة عند الزوال، أي في وقت خروج الناس من الصلاة… وكنت أرى في ذلك نوعا من التضامن مع هذا الشعب الثائر أو بالأحرى مع من يُتقنون منه الفرنسية وهم كثيرون. كما وددتُ، في نفس الوقت توجيه رسالة للشعب الفرنسي، وبالأخص لمن لا يزالون يعتقدون في قدرة نظام بشار الأسد على الإصلاح، لإشعارهم بانهم مخطئون”.
أما اليوم فقد تم نشر كتاب “ألوان السلطان” بصيغته المطبعية الكاملة، وفي شكل حكاية شرقية بطلها حاكم تولى السلطة بعد أن كان يتم إعداد شقيقه لتوليها، وهو ما يُوحي بسهولة إلى الشخص الذي يحكم سوريا اليوم. أما راوي القصة فهو حكواتي مُقرب من هذا الحاكم، يحمل رتبة جنرال وينفصل عنه بعد قيام الثورة.
إيزابيل هاوزر اعتبرت أن “نشر هذا الكتاب جاء في الوقت المناسب، أي في يوم إعادة ترشيح بشار الأسد لنفسه من جديد للإنتخابات الرئاسية القادمة بعد مقتل أكثر من 150 ألف سوري، ونزوح أكثر من 9 ملايين”، وقالت: “أتمنى أن يُسهم هذا الكتاب في توضيح الأمور بالنسبة لمن يُواصلون الإعتقاد بأن بشار الأسد رجلُ إصلاح…”.
المزيد
“رواق الثقافات العربية”.. تجربة أولى قد تتحول إلى تقليد دائم
“الكتابة ضد النسيان”
النموذج الثاني الذي كشفت عنه الندوة يتعلق بجيل جديد من الأدباء والأديبات، ومواضيع جديدة بدأ المشهد الأدبي السوري في التطرق لها في تحدّ واضح للمحرمات والمحظورات والخطوط الحمر بشتى أصنافها، وهو ما سمح للبعض باعتبار أن “الأدباء في سوريا بدأوا ثورتهم حتى قبل بداية الثورة الشعبية” .
الكاتبة الشابة روزا ياسين حسن تنتمي إلى هذه الفئة من المبدعين، وقالت في معرض تقديم نفسها للجمهور: “أنا واحدة من جيل كاتبات المشهد الروائي السوري اللواتي ظهرن في العقد الأخير من القرن العشرين.. والمواضيع التي بدأنا نتناولها تهدف بالدرجة الأولى إلى كسر الصمت، أو ما يُسمّى بالكتابة ضد النسيان”.
وفي معرض التوضيح، أشارت روزا ياسين إلى أن هذا التحدي شمل تناول التابوهات السياسية والدينية والإجتماعية، والتطرق إلى عدد من الجرائم التي كان “مجرد الحديث عنها” من المُحرمات.
“سجن كبير اسمه سوريا”
من وسط هذا التحدي الذي رفعه هذا الجيل الجديد من الأدباء الذي نشأ في ظل النظام السوري، ظهر للوجود ما أصبح يُعرف تاليا بـ “أدب السجون”، وقد بدأ في الظهور “بين منتصف السبعينات حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي، لكن الكاتبات تشجّعن على اقتحامه وخوض الكتابة في مواضيع كانت مُحرّمة عليهن من قبل”، مثلما تقول روزا ياسين.
ياسين تعتبر نفسها “مقربة أكثر من اللواتي حاولن كسر الحواجز الإيديولوجية”، وتضيف “معظم مؤلفاتي تدور في هذا الفلك. وكان هاجسي على الدوام التوضيح إلى أي حد يؤثر القمع السياسي على حياتنا وعلى مصيرنا، والحديث عن الفئات المهمشة في المجتمع من نساء أو طوائف عرقية أو دينية، والحديث بالدرجة الأولى عن الأشخاص الموجودين بعيدا عن الأضواء”. أما الهدف من هذا الصنف من الكتابة فيكمُن حسب رأيها في “تدوين التاريخ السري للبشر الذي يتجنب التاريخ الرسمي تدوينه”.
كتاب “Négatif” (“نيجاتيف” أو سلبي) للأديبة روزا ياسين حسن، يتحدث عما عاشته 16 امرأة من السجينات السياسيات المعتقلات في السجون السورية. وتوضح قائلة: “لقد حاولت فيه أن أمزج بين السرد الوثائقي والروائي، وأن أركز بالدرجة الأولى على وضع المرأة في السجون، وكيف يُخرّب السجن أرواحنا، وكيف خلقَ الطغاة السجون لتدمير الإنسانية داخل الإنسان، ولماذا نُصبح بعد فترة الإعتقال غير ما كنا عليه من قبل”.
كتاب “حُرّاس الهواء” لنفس الكاتبة يتناول نفس الموضوع، لكنه يُركّـز على “كيفية تحكم القمع السياسي في حياتنا”. وقد سلطت روزا ياسين حسن الأضواء على مصير زوجات المعتقلين السياسيين “اللواتي يُجبرن على التكفل بإعالة الأطفال في انتظار تسريح الأب، واضطرارهن وحيدات، لمواجهة القمع السياسي والإجتماعي”.
وحتى في الحالات التي يتم فيها الإفراج عن السجين ويعود إلي بيته، يكتشف الزوج والزوجة أن كل واحد منهما قد تغيّر، وهو ما دفع الكاتبة روزا ياسين حسن إلى القول في ختام مداخلتها: “هناك سجون صغيرة متعددة، ولكن هناك سجن كبير اسمه سوريا”.
حرص “رواق الثقافات العربية” الذي ينتظم لأول مرة في المعرض الدولي للكتاب والصحافة في جنيف على برمجة عدة ندوات حول مواضيع مختلفة تتناول واقع العالم العربي ومستقبله.
خلال الدورة السنوية للمعرض التي استمرت من 30 أبريل إلى 4 مايو 2014، استضاف الرواق أكثر من 30 أديبا وفنانا وسياسيا شاركوا في تنشيط تنشيط العديد من الندوات التي تناولت الأوضاع السياسية والثقافية والفنية والصحفية والإجتماعية في المنطقة العربية.
من بين هذه الندوات، نشير إلى: الكتابة في المهجر – مصر الأمس واليوم – سوريا: نظرة الأدباء – عصرنة الإسلام – الجيل الجديد من كتاب القصة – ما مصير الشبيبة العربية؟ – جنيف/بيروت: كُتّاب عرب من سويسرا – في مفترق طرق الإرث الثقافي.. أن تكون عربيا مع انتماء لجهة أخرى – تونس/مصر: الدين والسياسة – الشعب يريد – ملامح الشاعر الصوفي- تاريخ العلاقات بين اليهود والمسلمين – تقديم “مذكرات يهود شرق المغرب” – الربيع العربي، هل كان ثورة ثقافية أيضا؟ – تعليم لغة الأم، عامل اندماج؟ – حرية التعبير وتأثير الرسم الكاريكاتوري في العالم العربي- الأصوات النسوية، عامل حداثة؟ – رؤية سويسرية لأوضاع العام العربي.
في السياق نفسه، كرّم رواق الثقافات العربية عددا من المُبدعين والكتاب العرب من بينهم الكاتب إدريس الشرايبي والشاعر محمود درويش والأدباء محمد الماغوط وأنسي الحاج ونجيب محفوظ.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.