المشهد الفنيّ في 2025: كيف سيساهم دونالد ترامب في تشكيله؟
في ظلّ التغيرات السياسية المرتقبة في البيت الأبيض، تشير التوقعات إلى أن آثاراً ستطال المشهد الفني بمختلف مستوياته وأبعاده. وبين التخفيضات الضريبيّة والتهديدات بزيادة الرسوم الجمركيّة، يبدو أن النتائج ستعود بالإيجاب على تجار الأعمال الفنية وتاجراتها من سويسرا. وفي الوقت نفسه، قد يعود بينالي البندقية إلى الواجهة مجدداً، وتعد الأفلام السويسرية الجديدة بالفخامة، وغرابة الأطوار، وإثارة هايسميث.
المزيد
نشرتنا الإخبارية حول التغطية السويسرية للشؤون العربية
يترقّب العالم بأسره تنصيب دونالد ترامب في 20 يناير المقبل، أملًا في الخروج من حال التكهنات الضبابية التي ألقت بظلالها على عالم الفن أيضًا. فقد ساد في أحدث نسخة من معرض “آرت بازل”، التي نُظِّمت في ميامي خلال شهر ديسمبر، شعورٌ وصفه البعض ” بــالتفاؤل الحذر”.
وفي حين يمثّل “آرت بازل” الجانب التجاري من سوق الفن عموما، كان “القلق” هو الوصف الأكثر دقّة للشعور السائد في مجالات الفنون والثقافة بشكل عام. فلطالما ظلَّ العاملون والعاملات في المجال الفني، الطرف الأضعف فيما يُعرف بـ”حروب الثقافة”، دون تحقيق إنجازات تُذكر. ولم يتردّد الرجال والنساء من أتباع الحزب الجمهوري المؤيد لترامب في اتهام المجتمع الفنّي، والمجتمعات الأكاديمية، والصحفية، بمعاداة القيم التي يمثلها الحزب.
ومع أنّ آليات ترجمة هذه الخطابات إلى أفعال تظلُّ أمرًا خاضعًا للتكهنات، فقد تلقي مواقف مشابهة في تاريخنا القريب، بعض الضوء على ما قد تحمله الأيام المقبلة.
فقد شهدنا خلال إدارة الجمهوري جورج دبليو بوش (2001، 2008)، الموجة الأولى من “الرحل الرقميين” المغادرين لأمريكا، حيث اختار الكثيرون والكثيرات المنفى الطوعي؛ وتوافدوا بوضوح على العديد من العواصم الأوروبية، منددين بالأجواء السياسية في الولايات المتحدة، والحرب في العراق، وصعود التيار المحافظ المتطرف الذي يحمل السلاح. ولكنهم أيضًا يتمتعون بإيجارات ورعاية صحية أرخص بكثير مما كانوا يواجهونه في نيويورك، أو لوس أنجلوس.
ولم تكن في تلك الفترة باريس أو لندن، بل برلين وبراغ، من بين مدن أوروبا الشرقية الأخرى، هي التي استقبلت جحافل من المهنيين المبدعين الأمريكيين، مما أدى إلى ظهور ما يسمى بالترحال الرقمي، أو هروب المهنيين المبدعين من البلدان الغنية إلى البلدان الأرخص، بفضل انتشار العمل عن بعد، الذي أصبح عملة عادية في الوقت الراهن. فهل ستصل موجة أخرى من الأمريكيين إلى هذه الشواطئ طواعية، أم لا؟ وما هو التأثير الذي سينجر عنها؟
الرسوم الجمركية والتخفيضات الضريبية
لا تزال عواقب عهد ترامب السياسية مجرّد تكهنات. ومع ذلك، بدأت جهات خبيرة تستشرف مستقبل سوق الفنون في ظلِّ التأثيرات الاقتصادية المحتملة لسياساته المعلنة.
فقد هدَّد ترامب علنًا بزيادة الرسوم الجمركية، حتى مع الدول “الحليفة” مثل كندا، والمكسيك، والاتحاد الأوروبي. ويُتوقع أن يؤثر ذلك مباشرة على أسعار الأعمال الفنية، وتكاليف نقلها، وتأمينها. ومن جانب آخر، قد تؤدي التخفيضات الضريبية، التي وعد بها الشركات والأثرياء، إلى تعزيز القدرة الشرائية لجامعي الأعمال الفنية، نساءً ورجالًا.
وعادة ما يكون للحروب التجارية العالمية، وما تجلبه من عدم استقرار اقتصادي، تأثير سلبي في سوق الفنون، إذ يحجم الأثرياء عن الاستثمار في الأعمال الفنية، ويبحثون عن بدائل أقلّ خطورة.
ومن ناحية أخرى، قد تترك الزيادة في حجم الرسوم الجمركية تأثيرًا مباشرًا على مُلَّاك المعارض الفنية، فيعرقل الوصول إلى السوق الفنية الأمريكية، التي لا تزال الأكبر عالميًّا (43% من إجمالي حجم السوق العالمي). وقد تلجأ بعض الدول، خاصة الأوروبية، إلى المعاملة بالمثل من خلال فرض رسوم جمركية مضادّة، مما يقوِّض قدرة تُجّار الأعمال الفنية من أمريكا على المنافسة الدولية.
وتحتضن الصين ثاني أكبر سوق فنية. ومع ذلك، يُستبعد أن تكون قبلة لتجارة الأعمال الفنية بعد اضطراب السوق الأمريكية. ويعود ذلك جزئيًا إلى تفضيل فئتي جامعي الأعمال الفنية والمتاحف في الصين، الفن الصيني بالدرجة الأولى.
وعلى الكفة الراجحة، تُشير التوقعات إلى إمكانيّة انتهاز بريطانيا وسويسرا تلك الفرصة لتعزيز مركزيهما على المشهد الفني العالمي، فتقع كلتاهما خارج الاتحاد الأوروبي، وتتمتعان بوضع يُتيح لهما إبرام اتفاقيات ثنائية.
وبغضّ النظر عن السيناريوهات والتوقّعات المختلفة، سيقدّم معرض “آرت بازل” المقبل، الذي سيُقام في مدينة بازل في يونيو، صورة أوضح عن حال السوق. إذ يُعد المعرض الأهم والأكثر تأثيرًا عالميًا، ويُقدم مؤشرًا دقيقًا يعكس اتجاهات السوق الفنية.
كاميرا، الضوء…أقطع
قبل عام مضى، بدت النظرة المستقبلية للفنون قاتمة جدّا لا في سويسرا فقط، بل في أوروبا عامّة. ويحزننا أن نلاحظ ازدياد ما بدا قاتماً قتامةً، وأن الاتجاهات التي أشرنا إليها آنذاك أصبحت واقعاً صعباً.
وبدا هذا التدهور جليًّا في فرنسا وألمانيا، حيث تسارعت وتيرة خفض التمويل العام المخصّص للفنون والسينما، بما في ذلك خدمات الإعلام العام، خلال عام 2024. وفي سويسرا، قررت السلطات تقليص الميزانية الفدرالية المخصصة للتعاون الدولي في هذا المجال إلى النصف تقريبًا، من 3،7 مليون فرنك سويسري إلى مليوني فرنك فقط، مما أثار موجة استياء عارمة داخل الأوساط الفنية.
ورغم أن هذه المبالغ تبدو زهيدة، إلا أنها كانت عاملا حيويًا لضمان الأموال الأولية لإنتاجات الفنانين وصناع الأفلام الشباب والناشئين، سواء في سويسرا، أو في العالم النامي.
“البندقية: فرصة لاستعادة الأهمية”
وفي ظلّ هذه القتامة في مناخ الفنون والثقافة، أُعْلِن عن اختيار المنسّقة السويسرية الكاميرونية كويو كووه، مديرة فنية لدورة معرض بينالي البندقية لعام 2026، ما شكَّل مفاجأة كبرى للدوائر الفنية.
فعندما أعلنت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني عن تعيين بيترو أنجيلو بوتافوكو، الصحفي اليميني المشهور، رئيسًا لمعرض بينالي، ساد الظنُّ بأن هذا الحدث الفني الأكبر في العالم سيشهد تحولًا كبيرًا في توجهاته، وسيتجه إلى تنسيق إيطاليّ حصريًّا، وإلى تبنّي خط محافظ.
المزيد
حركة “دادا” السويسرية… 100 عام من الفنّ السرياليّ
ثمَّ كانت المفاجأة؛ إذ تجسّد كويو كووه كل ما يعارضه التيار المحافظ المهيمن على الحكومة الإيطالية. فعدا عن كونها أول امرأة ذات بشرة ملونة تتولى هذا المنصب، تركّز مسيرتها المهنية على إحداث تحوّل جذري في النظرة إلى المتاحف ووظائفها، إضافةً إلى مساهماتها في تسليط الضوء على موضوعات التعامل مع الإرث الاستعماري، والشتات الأفريقي، والسياسات المرتبطة بالهوية.
وأمّا نسخة 2024 من بينالي البندقية، التي ترأّسها المنسق البرازيلي أدريانو بيدروسا، فلم تلقَ نجاحًا نقديًا يُذكر، الرأي الذي نتفق معه في سويس إنفو (SWI swissinfo.ch). فقد اقتصر المعرض الرئيسي على تعزيز مفاهيم مألوفة عن قضايا الإرث الاستعماري، والهوية المثلية، والأقليات، والشعوب الأصلية، مع التركيز على أسماء فنية معروفة في سوق الفن، دون تقديم أي منظور جديد أو رؤية مبتكرة. فيقول مدير سابق لمتحف ألماني: “تحت رئاسة كويو كووه، يواجه معرض بينالي خطر استعادة مكانته مجددا”.
ولطالما كان لسويسرا حضور بارز في تاريخ بينالي البندقية. إذ تُعد كويو كووه، التي وُلدت في الكاميرون، ونشأت في زيورخ، رابع شخصية سويسرية تتولى إدارة هذا الحدث خلال الخمسين عامًا الماضية. وقد سبقها إلى ذلك هارالد زيمن (1980، 1999، 2001)، وهانز أولريخ أوبريست (2003، كمنسق مشارك)، وبيس كروغر (2011).
المزيد
كويو كووه: الفن يكمن في الشقوق وليس في الصقل النهائي
أفلام وثائقية وسير ذاتية
يستعدّ مهرجان سولوتورن السينمائي، أكبر منصة لعرض إنتاجات السينما السويسرية، لاستقبال الأفلام الجديدة لعام 2025. ويُفتتح المهرجان في يناير بالفيلم الوثائقي إرث برونو ستيفانيني (The Legacy of Bruno Stefanini) للمخرج توماس هاميرلي، الذي يروي السيرة الذاتية المدهشة لجامع الأعمال الفنية والمقاول المثير للجدل برونو ستيفانيني، ويستعرض رحلته من بداياته المتواضعة وصولًا إلى بناء ثروة طائلة.
وكما هو الحال في أعمال هاميرلي، يتميز العمل الوثائقي بحس فكاهي رقيق، يسلط الضوء على هوس ستيفانيني بجمع المقتنيات التي تراوحت بين التحف الأثرية، والفن المعاصر، وصولًا إلى سروال الإمبراطورة سيسي. وفي الوقت ذاته، يبرز الفيلم التزام ستيفانيني الجاد بإتاحة هذه الكنوز للجمهور العام.
هايسميث في سويسرا
وتترقب الأوساط السينمائية بشغف الفيلم الجديد للمخرج الهولندي أنتون كوربين، بعنوان سويسرا (Switzerland)، وسيُعرض هذا العمل السويسري البريطاني المشترك، في النصف الثاني من عام 2025.
ويشتهر كوربين بإبداعاته في مجال تصوير أغاني الأسماء الكبيرة مثل نيرفانا (Nirvana)، وكولد بلاي (Coldplay)، ويو تو (U2)، وديبيش مود (Depeche Mode). ويشتهر أيضًا بأفلام السيرة الذاتية الدرامية، فيعيد في فيلمه كونترول (Control) تصوير لحظات مؤثرة من حياة إيان كورتيس، المغني الرئيسي في فرقة جوي ديفيجن (Joy Division)، كما يصور فيلمه (Life)، حياة الممثّل الأمريكي جيمس دين.
وفي فيلمه المرتقب، سويسرا، يوجّه كوربين عدسته نحو الكاتبة الأمريكية باتريشيا هايسميث، الشهيرة بسلسلة روايات ريبلي. فقد قضت هايسميث السنوات الخمسة عشرة الأخيرة من حياتها في كانتون تيتشينو الناطق بالإيطالية. ويُدرج كوربين في الفيلم عناصر من سيرتها الذاتية، إخلاصا لخيالها الكثيف. وتؤدي الممثلة القديرة هيلين ميرين دور هايسميث. ويبدو أن الفيلم يعِد بتجربة مثيرة وممتعة.
تحرير: مارك ليفينغستون.
ترجمة: ريم حسونة
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.