الناصر خمير على خطى بول كلي
في أبريل 1914، قام الرسام السويسري بول كلي برحلة إلى الجنوب التونسي، و90 عاما بعد ذلك، قام الناصر خمير، السينمائي والرسام التونسي المعروف بتِـكرار التجربة، تحت أضواء عدسة المخرج السينمائي السويسري بول برونو.
فيلم “رحلة إلى تونس”، الذي يُـعرض الآن بقاعات السينما في العديد من المدن السويسرية، يصوّر محطات تلك الرّحلة ولحظات اللقاء الشيق بين الفنانين بول كلي والناصر خمير، برغم الفاصل الزمني بينهما.
خلال العرض، يتقمّـص المخرج التونسي دور الدليل العارف بالديار، فيكتشف معه المشاهد عُـمق الثقافة العربية وتعدّد أوجه تعبيراتها. كما يتخلل الفيلم من حين لآخر لقطات من أفلامه السابقة وإطلالة على لوحات كلي، التي رسمها في تونس أو من وحي زيارته لها.
ويكشف هذا العمل الفني الرائع في مراحله المختلفة، التماثل التام بين تجربتي الرسامين، التونسي والسويسري ووحدة مبتغياهما وعمق رؤيتهما، وهو ما سمح للمُـخرج بتلافي شرح النصوص والتعليق على اللوحات وجعل الحوار بين الرسامين، يستجيب في مفرداته وأسلوبه لقضايا عالمنا والتحديات التي تعصِـف باستقراره وأمنه.
وتعود فكرة الفيلم، حسب قول برونو مول، إلى “الشعور بالقلق للمستوى المتردّي الذي بلغته العلاقة بين الشرق والغرب في السنوات الأخيرة، وكيف أن ثقافتين أصلهما واحد، يتصادمان، فالغرب يمجّد العقل ويقدّسه، والشرق يعتنق الدين ويتجنـّد إليه”.
لكن الصراع يعود في الأصل إلى أسباب أعمق من ذلك، وهي النزعة المادية التي طغت على الوجه الإنساني للحضارة الغربية وأفقدتها قيمها الروحية من ناحية، والنزعات المتطرفة التي اختزلت الثقافة العربية والإسلامية وخلعت عنها كل مظاهر الانفتاح والتعدد من ناحية ثانية، ولا حل لهذه المعضلة، بحسب مخرج الفيلم، إلا بإعادة بناء جسور التواصل بين الثقافتين واستلهام الدروس من تجارب خلاقة كرحلة بول كلي إلى تونس والأثر الذي خلـّفته.
إعجاب بالتجربة وقبول بالدور
وكان لقبول الناصر خمير، دور البطل في هذا الفيلم، دواعي كثيرة، فقد قال في لقاء أجراه مع إذاعة سويسرا الروماندية (الناطقة بالفرنسية) عن إعجابه وتأثره ببول كلي، “ظل كلي بالنسبة لي بمثابة المُـلهم ونظرته إلى الثقافة العربية سمحت لي بالغوص في جوهرها وإدراك معانيها العميقة، بعيدا عن الطابع الفلكلوري الذي شغل جهود الكثير من المستشرقين، فأغواهم”، كما يشاطره رؤيته للفن، “الفن الذي لا ينتج واقعا، بل يجعل الواقع منظورا ولا يستنسخ الحدث، بل يساعد على إدراك مداه الحقيقي”، فكلا الرسامين يعتبران أن وراء كل صورة حقيقة، تماما مثلما أن وراء كل لحن موسيقي عواطف ومشاعر، وأن الفن يسعى دائما لفهم وإدراك عالم تغفِـله العين المجردة.
إنه عالم الجمال الذي تتوحّـد فيه المفاهيم وتتآخى فيه الأنفس البشرية وتنفتح فيه الهويات عن بعضها البعض ويسهل فيه الإقبال عن المختلف، فيقبل الضيافة في رحابه، دون خوف أو استنكاف، تماما كإقبال بول كلي على ألوان تونس وأضوائها، فعاد من رحلته عاشقا للشرق متذوِّقا لمحاسنه أو إقبال الناصر خمير على الحقيقة المطلَـقة التي تبقى بعد أن تتحطّـم كل المرايا، على حد قول الشاعر الصوفي جلال الدين بن الرومي: “الحقيقة مرآة كبيرة هبطت من السماء، انكسرت وتبعثرت في ألف قطعة، كل واحد يملك قطعة صغيرة جدا، لكنه يعتقد أنه يمتلكها كلها”، فلا فرق بالنسبة للناصر خمير “بين الشرق والغرب، بل هناك حركة ذهاب وإياب، وليس هناك شرق إسلامي مطلق، كما لا وجود لغرب مسيحي مطلق”.
فكلا الرسامين يمثلان جِـسرا للتواصل ويغرسان قِـيم الأخوة الإنسانية بقوة وعزيمة نادرة، وفي بساطة لا تنوء بحملها الريشة والقلم، ومن خلال السرد والحكاية والصورة واللحن، استطاع بطل الفيلم تمرير القِـيم التي أراد وسفّه دعاة صراع الحضارات مؤكِّـدا عدم وجود عالمين مُـنفصلين من الأساس.
الاشتغال على الهامش
للناصر خمير فهم عميق للمعضِـلات الثقافية، والمشكلة الكبرى التي تواجه أي ثقافة هي “عملية التفقير والتصحّر” على مستوى الذاكرة والعواطف والخيال، “وبالإمكان تفسير العنف المنتشر في هذه المنطقة العربية، بفقدان الذاكرة التاريخية التي هي محضن التسامح والمحبة”، على حد تعبير الناصر خمير.
وفي هذا السياق، كرّس المخرج التونسي الجزء الأكبر من أعماله السينمائية كفيلميْ “الهائمون في الصحراء” و”طوق الحمامة المفقود” وهذا الشريط الأخير، إلى إبراز الوجه المتسامح في التاريخ العربي الإسلامي من خلال قصة عشتارد، الطفلة التي تقود بابا عزيز الدرويش الأعمى عبر الصحراء، بُـغية الوصول إلى تجمّـع صوفي كبير والتطرق إلى مصائر أشخاص كُثُـر تتداخل حكاياتهم ولغاتهم ويبحث كل منهم عن مراده، وقد أراد المخرج بذلك التأكيد على استحالة اختصار ثقافة وحضارة، مثل الحضارة العربية، في مدرسة فكرية أو عقائدية واحدة، كما أراد أن يدفع عن ثقافته وِزر ما جناه عليها بعض أبنائها.
ورغم انتماء هذا الفيلم “رحلة إلى تونس” لصنف “أفلام الجنوب”، بحسب التصنيف المتعارف عليه، فإنه يتميـّز عن سينما البؤس والأوضاع الإنسانية المُـزرية وغياب الديمقراطية وفقدان العدالة الإجتماعية، بالغوص عميقا في فهم الجذور الحقيقية للمشكلات، ويذكـّر من غَـفَـل بأن “لبلدان الجنوب ثقافات وحضارات، وهذه الحضارات، إذا ما تم إفقارها ونفيها وإفراغها من مضمونها، تكون كالأرض التي أصبحت جرداء بعد أن فقدت خصوبتها، ولا حل إلا بإثراء ذاكرة الشعوب وإحياء ثقافاتها والحفاظ على تراثها”.
وبذلك، يعتقد المخرج التونسي أنه قد قطع خطوات على أثر بول كلي، ويقول: “أبحث عن التميـّز والأصالة في أعمالي عبر الحفر بعيدا وبعمق في الهوامش، تماما مثل بول كلي، وهذا الهامش قريب منا، لكنه بعيد عن الاهتمام اليومي، وهو يرفض الخضوع لأحكام الجسد والمادة ويخلق فضاءات لا يمكن العثور عليها إلا في منعرجات التفكير وفي انكسارات النظر وفي خبايا التأمل”.
ولقي الفيلم إقبالا من الجمهور السويسري، خاصة الجمهور المهتم بقضايا بلدان الجنوب وحوار الحضارات، وعبّر برونو مول، مخرج الفيلم، لسويس انفو عن اعتزازه بالمستوى الذي جاء عليه الفيلم والإقبال الذي حظي به لدى الجمهور، وأن هناك بعض من شاهدوا الفيلم أكثر من مرة، وأيضا ردود الأفعال الإيجابية من محترفي الفن السابع.
لكنه أيضا لم ينكر أن الفيلم تميّـز بنظرة أحادية واتسم في معالجة بعض القضايا بالتبسيط والتناول المخل، فالتصوف الذي شكّـل مرجعية اللغة والمنظور، لا يمثل التيار الغالب في الحضارة العربية والإسلامية ولا يشكل حلاّ للمعضلات، التي زعم الفيلم التصدي لها، بل هو على الأرجح يلبّـي انتظارات الثقافة الغربية وعلاج لمعضلاتها الفكرية.
وفي رد عن سؤال، إن كان ينوي إعادة الكرّة مع تجربة أخرى، أجاب برونو مول بنعم، دون أن يحدّد طبيعة هذا المشروع.
عبد الحفيظ العبدلي – لوزان
ولد الناصر خمير في 1 أبريل 1948 بقربة التونسية، وبالإضافة إلى أنه راويconteur ومخرج سينمائي، فهو أيضا كاتب ومحقق للعديد من الآثار الأدبية. ولقد انشغل مبكّـرا بعالم الحكايات وحصل على منحة من اليونسكو لدراسة السينما في باريس.
في سنة 1972، عاد إلى تونس للبحث عن الحكاواتية في المدينة القديمة بتونس العاصمة، واستلهم من الحكايات التي جمعها أربعة أفلام حول موضوع الحكاية والحكواتية.
وفي سنة 1975، وبعد نشر كتاب “l’Ogresse”، حكاية مخطوطة، شارك في فرنسا في تجديد فن الحكاية، خاصة من خلال تنظيم ورشات تكوينية، للرّوات Conteurs، وهو كذلك خطّاط، عرض لوحاته في مركز جورج بونبيدو عام 1980 بباريس، وفي معرض كتاب الشباب بمنطقة مونتراي (ضواحي العاصمة الفرنسية).
وفي سنة 1982 و1988، كان يروي قصص وحكايات من “ألف ليلة وليلة” لمدة شهر كامل في المسرح الوطني بشايو بباريس، وكل مساء، كان يعرض قصة جديدة، وهو ما شكل في مجموعة 25 ساعة من الحكايات.
ويقول عن مهنة الحكاواتي، “الرواية، هي مجرّد فرصة للإلهام وللمس والتجوال مع كل مستمع في فضاء سحري وهْـمي، إنها رحلة لا مرئِـية للأرواح، وهذا يجعل المستمعين يشعرون بالسعادة بعد انتهاء الحكاية، ويمكّن الراوي المستمع من الهروب من المحسوس والارتماء في أحداث ووقائع القصة، وبالتالي، فالراوي لا يضيف شيئا للمستمع خارجا عنه، وهذا الإحساس يُـشبه خيط النور المُـنبعث من الشمس والإحساس الغامر باللذة”.
ومن أبرز أعمال الناصر خمير السينمائية: الشحاطة (1975) وتاريخ بلد الرب (1976) والهائمون في الصحراء (1984) والبحث عن ألف ليلة وليلة (1991) وطوق الحمامة المفقود (1994) وبابا عزيز، الأمير الذي يتأمل ذاته (2005).
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.