مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

 مدن تتداعى وذكريات تُمحى: كيف توثّق السينما صراع البقاء في الفضاءات الحضرية؟ 

سردية
حريق في بوانت-آه-بيتر، المدينة الرئيسية في غوادلوب، في مشهد من فيلم "الرجل -الدوار: حكاية مدينة" (L'Homme Vertige: Tales of a City) الذي عُرض في مهرجان السينما السوداء في جنيف وفي مهرجان برلين السينمائي لهذا العام. ©Malaury Eloi Paisley

 
في مهرجان جنيف للسينما السوداء، تتجلى تساؤلات حادة حول معاناة الحياة الحضرية، حيث تتأرجح المدن بين البناء والهدم، فيما يبقى السعي للحفاظ على منزل أشبه بمحاولة الإمساك بطيفٍ زائل، داخل أنظمةٍ تسلب الأفراد قدرتهم على التمسك بجذورهم. 

المزيد
نشرتنا الإخبارية حول التغطية السويسرية للشؤون العربية

المزيد

نشرتنا الإخبارية حول التغطية السويسرية للشؤون العربية

اشترك.ي في النشرة الإخبارية لدينا، واحصل.ي على بريد إلكتروني كل يوم جمعة يحتوي على أخبار من الدول الناطقة بالعربية تم جمعها بواسطة وسائل الإعلام السويسرية. معلومات من منظور سويسري خصّيصًا من أجلك.

طالع المزيدنشرتنا الإخبارية حول التغطية السويسرية للشؤون العربية

تزدحم شاشاتنا بصور الدمار المتناثر من مناطق أنهكتها الحروب، والتهمتها الحرائق، أو عصفت بها الكوارث المناخية. ومع ذلك، حتى في المدن التي لا تزال مبانيها قائمة، ثمة قوى خفية تنخر أسس الاستقرار، وتقوّض مفهوم المأوى. فالتقلبات الاقتصادية، والتحولات العمرانية المتسارعة، وأزمات السكن، وموجات التهجير القسري بفعل مشاريع التطوير، كلها عوامل تجرد الإنسان من حقه في الاستقرار، ليغدو المنزل، ذلك الرمز الأزلي للأمان، مجرّد حلم هش يتبدد تحت وطأة الواقع. 

ويتناول مهرجان السينما السوداء، الذي يحتفي بعامه السادس والعشرين، التحديات المحيطة بالحفاظ على مكان يمكن أن يُسمى “البيت”، وذلك ضمن قسم خاص يحمل عنوان “المدن”. 

ويسلط هذا القسم الضوء على الفضاءات الحضرية بوصفها ساحات دائمة التحول، حيث تتسارع التغيرات وتتجلى ملامح الهدم والبناء، مما يجعلها مسرحاً خصباً لقصص الدراما والتهجير. ويتناغم هذا الطرح مع توجه أوسع في السينما، يسبر أغوار الضغوط المتزايدة التي تحكم الحياة في المدن المعاصرة. وفي السياق ذاته، خصص مهرجان فانكوفر السينمائي الدولي 2024 قسماً بعنوان “ذات مرة، كانت هناك مدينةرابط خارجي“، ركّز فيه على استعراض الحياة في المدن الأفريقية، حيث تتقاطع تحولات الحداثة مع صراع البقاء. 

انطلق مهرجان السينما السوداء في الأصل كمنصة تحتفي بعرض أفلام “صُنعت في أفريقيا”رابط خارجي، بهدف تعزيز أصوات القارة وإبراز سردياتها، بعيداً عن العدسة الغربية التي غالباً ما تعيد صياغة السرديات وفق منظورها الخاص. ومع مرور الوقت، اتسع نطاق المهرجان ليشمل أعمالاً وإبداعات من آسيا وأمريكا اللاتينية، تسلّط الضوء على رؤى وتجارب مختلفة تنبض بروح دول الجنوب العالمي، في مشهد سينمائي يعكس تحولات المجتمعات وما تواجهه من تحديات وجودية. 

المأوى والدمار: صورة إنسانية مشتركة 

تبدو بعض التجارب راسخة في الوجدان الإنساني، وكأنها محفورة في فطرة البشر. فلو طُلب من طفل أو طفلة ما رسم منزل، فيُرجّح رسم مربعٍ بسقف مائل، بينما تُختَزل المباني في أغلب الأحيان في مستطيلات بسيطة. وتتكرّر هذه الصورالنمطية للمأوى والبناء في الثقافات المختلفة، وكأنها لغة عالمية تعبر عن معنى السكن والاستقرار. لكن يأخذنا المهرجان، من خلال أفلامه، إلى ما هو أبعد من فعل البناء، ليكشف الوجه الآخر لهذه المعادلة، عالم الهدم والتفكيك. فيصبح الدمار في فيلم “محاصرون.ات بالأمواج” (Caught by the Tides) للمخرج جيا زانغ-كي وفيلم “الرجل- الدوار”  (L’Homme Vertige)  للمخرج مالوري إيلوي بيزلي، تجربة كونية، خصوصاً حين يكون بفعل سياسات حكومية، فيتحول فقدان المأوى إلى واقع يتجاوز الحدود والزمن. 

 << الإعلان الترويجي: محاصرون.ات بالأمواج 

يتحول هيكل المبنى شبه المدمر، بطوابقه العارية والمكشوفة، وداخله المحطم، وبقايا الدمى، وشظايا الحياة المتناثرة بين الركام، إلى شاهد صامت على ما كان يوماً نابضاً بالحياة. ورغم أن هذه المشاهد تبدو بلا هوية جغرافية محددة، إلا أنها تجسّد مشاعر الفقدان والتبعات المترتّبة عليه. غير أن أسباب هذا الدمار ليست عشوائية، بل تنبع من سياقات معقدة، تكشف خيوطها عدسة الأفلام الوثائقية التي ترصد المشهد بتأنٍّ، وتلتقط تحولات الزمن بتمعن، لتروي قصة الانهيار كما لم تُروَ من قبل. 

ففي فيلم “محاصرون.ات بالأمواج”، ينسج جيا زانغ-كي بأسلوبه مزيجاً من الوثائقي والخيال التاريخي، متتبعاً قصة الحب التي تجمع بين تشياو تشياو (زاو تاو) وبين (لي تشوبين)، وسط زخم التحولات التاريخية التي اجتاحت الصين. وفي قلب هذه التغيرات، يتجلى تفكيك مدينة فينغجيه، الواقعة جنوب غرب البلاد، حيث تُهدم حجراً بعد حجر، لتُمحى تدريجياً من الوجود وتفسح المجال أمام بناء سد الممرات الثلاثة، أضخم محطة كهرومائية في العالم. وبينما تتلاشى المدينة، يلتقط الفيلم لحظات الفقد والتغيير، كاشفاً كيف تبتلع مشاريع التحديث الكبرى حياة الأفراد وذكرياتهم، رجالاً ونساءً. 

تفكيك
تفكيك مدينة فينغجيه حجراً بعد حجر:”محاصرون.ات بالأمواج” ©Jia Zhangke

ومن خلال دمج مشاهد من فيلمه ” الحياةالساكنة” (Still Life) الصادر عام 2006، يرسم جيا زانغ كي صورة مؤثرة لنزوح سكان المدينة وساكناتها، حيث تتحول البيوت إلى أطلال، وتُمحى معالم الحياة شيئاً فشيئاً. ويخترق صوت صحفيّ في أحد المشاهد الصمت، مستفسراً من رجل على وشك الرحيل إلى مقاطعة أخرى: “ما شعورك حيال ذلك؟” فيجيبه الرجل، بنبرة يكسوها الرضوخ: “هذا جزء من مشروع سد الممرات الثلاثة… نقوم بذلك من أجل وطننا”.  

رؤية ثلاثية الأبعاد  

ويتجلى أثر التحولات العمرانية المتسارعة أيضاً في فيلم “ الرجل – الدوار، الذي صُوّر على مدى سبع سنوات في بوانت-آه-بيتر، المدينة الرئيسية في غوادلوب. ويرصد الفيلم بواقعية موجعة، حالة التيه واللااستقرار التي يعيشها السكان رجالاً ونساء، بالوقوف على حافة التشرد، والتشبّث بمبانٍ متآكلة تتهاوى تحت وطأة الزمن والإهمال. فتتقاطع في هذه المدينة التي تخوض معركة للبقاء، عمليات الهدم الممنهجة مع حرائق تُترك لمصيرها، وكأنها انعكاس لصراع أوسع بين الماضي الذي يُمحى، ومستقبل لم يتشكل بعد. 

وتُمهّد المشاهد الافتتاحية في الفيلم للأجواء التي تسوده، فتظهر رافعة شامخة، يطبع عليها بجرأة شعار ” الهدم هو المستقبل” (avenir de construction )، وكأنها نذير بانهيار وشيك. ويتجلّى في هذا المشهد الذي يفيض بالرمزية، ثقل الإرث الاستعماري الذي لا يزال يُلقي بظلاله الثقيلة على المكان، كقدر محتوم لا مناص منه. 

الهدم
“الهدم هو المستقبل”، مشهد من فيلم ” الرجل -الدوار”(L’Homme Vertige)  ©Malaury Eloi Paisley

تُساق هذه التغييرات تحت مظلة “الخطة المحلية للتنظيم العمراني” التي وضعتها فرنسا، رؤية تُفرض من مراكز القرار، دون اكتراث لتعقيدات الواقع المحلي أو حاجات سكانه وساكناته. ويكشف المخرج إيلوي بيزلي خلال عرض الفيلم، كيفيّة انتشار ملف رقمي يتضمن تفاصيل هذه الخطة في المدينة، مرفقاً بما وصفه السكان والساكنات بـ”شيء ثلاثي الأبعاد”، مجسم افتراضي يرسم صورة مستقبلية لبوانت-آه-بيتر. فتتلألأ في هذه الصورة السفن السياحية، وتعانق الأبراج الذكية السماء.  

وتأتي هذه الرؤية منفصلة تماماً عن الواقع الذي يعيشه السكان المحلّيون والساكنات المحليّات. فتسلط إيلوي بيزلي الضوء في فيلمها، على مشروع الإسكان في مورتينول رابط خارجيفي بوانت-آه-بيتر، باعتباره مثالاً صارخاً على التجديدات الشكلية والسطحية التي لا تمس جوهر المشكلات الهيكلية الفعلية، والتي تثقل كاهل السكان. 

 << الإعلان الترويجي: الرجل – الدوار 

وتشمل هذه التجديدات إضافة طبقة من الطلاء زاهية اللون، ودرابزينات جديدة تمنح المباني مظهراً متجدداً. غير أنها ليست سوى قناع هش يخفي خلفه غياب الصيانة الأساسية وتآكل البنية التحتية. وفي هذه الحلقة المفرغة من البناء والهدم وإعادة البناء، يختصر أحد السكان قسوة الواقع بمرارة قائلًا: “حتى في المساكن الجديدة، لا شيء يرقى إلى الحد الأدنى من المعايير التي تليق بالبشر. فهناك دائماً مشاكل… كل شيء يتداعى”.  

خيال سوداوي أم واقع فعلي؟ 

مستأجران
المشهد الافتتاحي من فيلم ” المستأجران” ©Yoon Eun-Kyung

يمكن بسهولة إسقاط صورة غوادلوب، الجزيرة الكاريبية ذات الشواطئ الرملية والمناظر الطبيعية الخلابة، على المشهد الافتتاحي لفيلم “المستأجران” (The Tenants)  للمخرجة الكورية الجنوبية يون أون-كيونغ. ويحلم البطل شين-دونغ (كيم داي-غون) في الفيلم، بالهروب من المدينة الخانقة إلى عالم يوتوبي يُدعى “سفير 2 ” (Sphere 2) ، حيث يتطلع إلى حياة أكثر انسجاماً مع الطبيعة. 

وعلى عكس المدن في فيلميْ “الرجل – الدوار” (L’Homme Vertige) و”محاصرون.ات بين الأمواج” (Caught by the Tides)، العالقة في دوامة لا تنتهي من البناء والهدم، تظل هذه المدينة قائمة، لكن لا يجعل ذلك الحياة فيها أكثر احتمالاً. فوسط هذا الثبات الظاهري، يعيش شين-دونغ تحت وطأة ضغوط خانقة بين هواء مشبع بالتلوث، وإيجارات باهظة، وإرهاق متراكم من ساعات العمل الطويلة. ويتحوّل كلّ شيء في شقته الضيقة ذات الغرفة الواحدة، إلى كفاح مستمر وصراع لا ينتهي، خاصة حين يكتشف أن عقد إيجاره لن يُجدد بسبب خطط الترميم الوشيكة. ولتفادي الطرد، لا يجد أمامه خياراً سوى تأجير حمامه لعروسين غريبي الأطوار. 

وعلى غرار فيلم “طفيلي” (Parasite) (2019) للمخرج بونغ جون-هو، يصور فيلم “المستأجران” (The Tenants) كيفيّة دفع شح الموارد بعض الأفراد إلى اتخاذ تدابير يائسة لمواجهة الأوضاع. وتتجلى عبثية الموقف في دورته المفرغة، في شخص يحاول استغلال ثغرة في النظام، ليجد نفسه مُستَغَلاً بدوره عبر ثغرة أخرى. ففي هذا الواقع الغريب، يصبح تأجير الحمامات والمساحات الضيقة داخل المنازل وسيلة للبقاء، بينما تُوزَّع مساعدات غذائية حكومية وأدوية مضادة للأوهام للحفاظ على هذا النظام المختل. 

 ورغم تصنيفه كفيلم خيالي أو “ديستوبي” على منصة “أي إم دي بي” (IMDb)، يقترب فيلم “المستأجران” بشكل مخيف من الواقع. ويكشف، رغم طابعه المبالغ فيه، حقائق أعمق حول البقاء في المدن، والإخلاء القسري، والتوترات التي تنشأ داخل المساحات المشتركة، من تراكم الأطباق المتسخة، إلى الضجيج المزعج، وصولاً إلى التعايش مع النزعات والهواجس الخاصّة بالشركاء والشريكات في السكن. تبدو تفاصيل عادية، لكنها تكشف في جوهرها هشاشة العيش المشترك، ويمكن توظيفها ببراعة في سياقات كوميدية. 

 << الإعلان الترويجي: المستأجران 

محتويات خارجية

الأنظمة والمقاومة والعقلانية 

ويُصبح التصوير السينمائيّ بالنسبة لمخرجين ومخرجات مثل إيلوي بيزلي ويون أون-كيونغ، أداةً لفهم الواقع ومقاومة الأنظمة المفروضة. فتعكس بيزلي رؤيتها بعد عرض الفيلم قائلة: “لا أشعر بالانفصال عن الأشخاص الذين أصورهم… فالفيلم بحد ذاته فعل مقاومة، لأن مغادرة (الجزيرة) تعني العيش مع الشعور بالذنب. أما البقاء، فيضعك أمام خيارين: إما أن تفقد عقلك، أو تندمج داخل النظام. وهذا أيضًا شكل آخر من أشكال الجنون”. 

وخلال نقاش أعقب عرض الفيلم، تحدثت يون أون-كيونغ عن صراعها مع الضغوط التي تحكم البقاء في المجال الإبداعي، قائلة: “بعد إنجازي لفيلمي الأول، شعرت وكأنني أنجرف داخل نظام لا يقبل إلا بالنجاح المستمر. كنت أفقد ذاتي واتزاني، وأعيش وفق إيقاع تفرضه آلة التنافس؛ منطق قاسٍ يبتلع وجودنا، ويجردنا من ملامح تميّزنا وتفردنا”. 

وترصد هذه الأفلام هشاشة الأنظمة المتداعية، وتعكس واقع الحياة الحضرية اليوم. لكنها تترك تساؤلاً معلقاً: هل ما زالت المدن الحديثة قادرة على أن تكون ملاذاً آمناً، أم إنها تحولت إلى مساحات عابرة تبتلع ساكنيها وتتركهم، رجالاً ونساء، في دوامة من الترحال والتوجس؟

المزيد

تحرير: فيرجيني مانجان وإدواردو سيمونتاب

ترجمة: جيلان ندا

مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي

التدقيق اللغوي: لمياء الواد

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية