مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مقبرة الديفوفة الشرقية .. ملك للإنسانية قاطبة!

swissinfo.ch

من المعالم الأثرية لمملكة كرمة في شمال السودان، مقبرة الديفوفة الشرقية التي تأوي ما بين 20 و 30 قبر لملوك ورعايا هذه المملكة، والتي تعتبر شاهدا على طقوس دفن يعود تاريخعها إلى حوالي 2500 قبل الميلاد.

لكن هذه المعالم التاريخية النادرة، والتي تم التنقيب عن جزء منها وقدمت الكشوفات التي تم التوصل إليها الكثير عن معالم هذه الحضارة مهددة اليوم بالاندثار إن لم تتخذ الإجراءات الكفيلة بحمايتها.

غير بعيد عن عاصمة الولاية الشمالية بالسودان، دنقلا، وإلى الشرق من مدينة البرقيق، توجد معابد ومقابر الديفوفة الشرقية التي تعتبر شاهدا عن جانب من الحضارة النوبية في عهد ما قبل مملكة كرمة.

وإذا كانت هذه المقبرة التي تمتد لحوالي 1600 متر على 700 متر، وتشتمل على ما بين 20 و 30 الف قبر، قد أثارت اهتمام البحاثة في بداية القرن الماضي فإنها لم تكشف عن بعدُ عن جميع ما في جعبتها من أسرار إلى حد اليوم.

أعمال”رايسنر” تأكيد لتأثيرات الحضارة المصرية

كانت مقبرة الديفوفة الشرقية محط أبحاث عالم الآثار الأمريكي جورج رايسنر ما بين 1916 و 1918 ، الذي قام بالتنقيب في حوالي 3000 قبر بمساعدة عمال آثار مصريين من منطقة قفط القريبة من أسوان. وقد ترتب عن ذلك جمع كميات هائلة من التحف لا زالت معروضة إلى اليوم في متحف “فاين آرتس” في مدينة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية.

وأهم ما عثر عليه رايسنر هو عدد من التماثيل التي كانت في وضع جيد. لكن هذه التماثيل كانت كلها تماثيل تم جلبها من مصر إما عن طريق عمليات الغزو المصرية للمنطقة، أو عن طريق عمليات النهب التي كانت تتبع الغزو المضاد لملوك المنطقة لمصر المجاورة.

ويقول البروفسور وعالم الآثار السويسري شارل بوني، الذي يقوم بعمليات تنقيب في منطقة كرمة منذ أكثر من 40 سنة، “إن الأعمال التي قام بها رايسنر قد أثارت الكثير من الاهتمام آنذاك في أوروبا، خصوصا اكتشاف مقابر أربعة من كبار الملوك وبها هياكل قرابين بشرية”.

وكان الاعتقاد السائد آنذاك يتمثل في أن هذه الهياكل تعود لعبيد تمت التضحية بهم أثناء موت سيدهم، لكن شارل بوني يصحح ذلك بقوله “اليوم يمكننا الابتعاد عن هذا التقييم لنقول إن الملك عند رحيله الى الدار الأخرى كان يصطحب معه جزءا من عائلته التي قررت مرافقته طواعية كدليل لتعلقها به”.

والتصحيح الثاني الذي يقدمه شارل بوني بالنسبة لما توصل إليه جورج رايسنر بخصوص مقابر الديفوفة الشرقية حيث “أنه كان يعتقد بأن المقابر الكبرى وبالأخص تلك التي تعود لملوك كبار هي أقدم عهدا من المقابر الصغيرة، ولكن الأبحاث التي قمنا بها فيما بعد أثبتت أن العكس هو الصحيح أي ان المقابر الصغيرة هي الأقدم عهدا لأنها كانت تحتوي على أوان فخارية رائعة تفصلها عن القبور الكبرى حقبة تمتد ما بين 2500 الى 1500 قبل الميلاد”.

طقوس دفن خاصة تعود ل 4500 سنة

تتميز طقوس الدفن في منطقة الديفوفة الشرقية أثناء فترة مملكة كرمة وما قبلها، بأن القبور الدائرية كانت تحتوي على جثمان الشخص المتوفى في وضعية الجنين، حيث يكون رأسه متجها نحو الشرق، ووجهه نحو الشمال.

وقد سمحت أعمال تنقيب البروفسور شارل بوني بمنطقة الديفوفة الشرقية والتي شملت 355 قبرا فقط، بالتعرف على مزيد من المعلومات عن طقوس الدفن التي كانت سائدة في تلك الحقبة، ويقول “عثرنا على دلائل تعود الى حوالي 2450 سنة قبل الميلاد، تشير الى أن سكان المنطقة كانوا يتبعون طقوس دفن خاصة”.

ومن هذه الطقوس، إحياء مراسيم تأبين متكررة لعدة سنوات، وهي مراسيم تجتمع فيها العائلة حول القبر لمشاركة الميت في مأدبة كبرى، تُترك بعدها الأواني مقلوبة فوق الأرض في دليل على تقاسم الوجبة مع الميت.

ومن نتائج هذه المراسيم المتكررة، تراكم جماجم وقرون الأبقار التي تُذبح لهذه المناسبة. وهي الجماجم التي تتراكم في القسم الجنوبي من القبر. ونظرا لأن المقابر لم تكن تحتوي إلا على جماجم الأبقار وليس باقي العمود الفقري، يستخلص شارل بوني “أن تناول الوجبة كان يتم في بيت أهل الميت في المدينة وان المقبرة لم تكن تنقل لها سوى الجماجم تذكارا لهذه المراسيم”، حسب قوله.

عمليات تنقيب اضطرارية

شارل بوني الذي أعاد التنقيب في 355 قبر في الديفوفة الشرقية، أنجز هذا العمل في ظروف استثنائية وسعيا منه لتدارك خطر كان ولا يزال يهدد الموقع بأكمله ألا وهو النهب والتدمير لمعالم وشواهد نادرة عن هذا الإرث الحضاري الإنساني.

ويشير بوني إلى أنه “بالإضافة الى تصحيح التسلسل التاريخي لما وصل إليه رايسنر، سارعنا للقيام بعمليات التنقيب في الديفوفة الشرقية بعد أن أصبحت المقبرة ممرا للشاحنات والحمير والجمال، وبعد تعرض بعض الأواني الفخارية للكسر”.

وبما أن عمليات التنقيب لم تشمل المقبرة بأكملها اكتفى شارل بوني بالقيام بثلاثين عينة حفر في كامل المقبرة الممتدة على مسافة حوالي 1600 متر. ومن بين النتائج التي أظهرتها هذه العينات أن المقبرة “تطورت مع الوقت من القبور القديمة في الشمال إلى القبور الحديثة في الجنوب”.

ويضيف عالم الآثار السويسري بأن هذه العملية “سمحت لنا بالتعرف على تطور طقوس الدفن مع مر الزمن، وعلى نوعية الأواني الفخارية المستعملة”.

ومن يزور متحف حضارات كرمة الذي أقيم خصيصا في المنطقة، يتوقف على عينة من المعالم التي عثر عليها الفريق السويسري في الأبحاث التي قام بها في كرمة عموما وفي الديفوفة الشرقية بوجه خاص.

وفي هذا السياق يقول شارل بوني “إذا كانت الأبحاث التي شملت 355 قبرا فقط تكفي لكتابة مجلدات ، وسمحت بالعثور على عينة من الفخار ذي الجودة العالية المعروف بفخار كرمة، فما بالك لو يتم اكتشاف ما يوجد داخل الثلاثين ألف قبر”؟.

ولكنه يستدرك ليشير إلى أن “أغلب هذه القبور تم نهبها منذ القدم، إذ بعد انقضاء عشرين أو ثلاثين عاما من دفن الميت كان أحفاده وأفراد عائلته يستولون على القطع الثمينة لأنهم كانوا يعرفون أين كانت مدفونة”. وهذا ما جعل قبور الأغنياء تتعرض للنهب، والأواني الموجودة تتعرض للتدمير “مما عقد عملية الترميم والتحليل بشكل كبير”، حسب شارل بوني.

الحفاظ على هذه المعالم مسؤولية الجميع

اعمال التنقيب التي أجريت في مقابر الديفوفة الشرقية سمحت أيضا باكتشاف عدد من المعابد التي تحتوي على رسومات مازالت محافظة على أشكالها وألوانها الأصلية إلى حد اليوم. كما أن التنقيب الذي تم في عينة من المقابر لا تتجاوز 355 من بين 20 أو 30 ألف قبر سمحت باستخراج كميات من الأواني الفخارية والقطع الأثرية التي تُعرض في متحف الحضارات في كرمة.

ولكن المثير للانتباه بالنسبة لما تم في الديفوفة الشرقية، وعلى خلاف ما هو سائد في المدينة القديمة لكرمة أو في دوكي قيل، أنه تم طمر كل هذه المعالم من جديد حفاظا عليها من التلف والنهب.

وعن سبب هذا الدفن من جديد لكل هذه المعالم الأثرية يقول شارل بوني “إن ما قمنا به في الديفوفة الغربية وفي دوكي قيل من إحاطة المكان بجدار واق لا يمكن القيام به في مقبرة الديفوفة الشرقية لأن المكان واسع وممر للحيوانات والسكان”، يُضاف الى ذلك أن “المكان صحراوي وأن إقامة جدار واق في منطقة رملية أمر صعب ومكلف”، على حد قوله.

ويصل شارل بوني الى خاتمة مفادها أن “مصير كل المقابر القديمة هو نفسه أي التلف والاندثار لأنها تمتد على مساحات كبيرة تصعب حمايتها ولا تستطيع إدارة المعالم الأثرية القديمة في السودان تحمل ذلك”.

وبنوع من الحسرة يقول الباحث السويسري “إن هذه المقبرة هي خزانة هائلة للمعارف العلمية والتاريخية لهذا البلد، ولكن من الصعب جدا حمايتها من التلف”، قبل أن يضيف “نحن كبحاثة قمنا بما هو من مهامنا أي دراسة هذا الماضي العريق وتدوينه في الكتب والتقارير. ونحن ممنونون للسلطات ولسكان المنطقة الذين ساعدونا في القيام بذلك، ولكن ليس من صلاحياتنا إعطاء دروس حول كيفية الحفاظ على هذه المعالم الأثرية، لأن نفس الشيء يقع حتى في بلداننا مثلما عايشتُ ذلك في مدينة جنيف عندما كنت مسؤولا عن الآثار”.

ويتمثل الحل الذي تم اعتماده بالنسبة للديفوفة الشرقية في عادة طمر كل المباني والرسوم إضافة الى ما تحتوي عليه القبور التي لم تتعرض للتنقيب، ويقول شارل بوني “إن إدارة الآثار السودانية تقول إنها تحمي المكان، ولكن هناك عمليات تحطيم مستمرة للموقع مثلما حصل لقطعة كانت مدفونة واستخرجت وتعرضت للكسر”.

مع ذلك، يظل شارل بوني متفائلا بالنسبة لوعي الجمهور بقيمة هذا الماضي التاريخي ودلالته، ويستشهد على ذلك بتجند السكان لمساعدة الفريق السويسري عندما تمت سرقة أحد التماثيل “مما سمح باستعادته”، لكنه يأمل في وعي دولي بأهمية هذه المعالم وضرورة الحفاظ عليها لصالح الإنسانية جمعاء لأنه يعتبر “أنها ملك للإنسانية”، وهي الرسالة التي قال إنه “حريص على إبلاغها للجميع”.

أثناء تنقيب الفريق السويسري بقيادة البروفسور شارل بوني في مقابر الديفوفة الشرقية بالقرب من مدينة كرمة، بشمال السودان، تم العثور على بقايا قرية تعود لحوالي 5000 قبل الميلاد ويمكن اعتبارها أول قرية متكاملة تعرف لحد الآن على مستوى القارة الإفريقية.

– إكتشاف بمحض الصدفة!

يقول البروفسور شارل بوني “عندما كنا ننقب في مقابر الديفوفة الشرقية عثرنا على أواني فخارية تختلف عما هو موجود في القبور. بعدها توصلنا الى الكشف عن مخازن للحبوب هي جزء من مركب سكني بمعابده ومبانيه من القش والمحاط بجدار دفاعي كبير”.

وبعد دراسة معالم هذه المدينة عبر ما عثر عليه من فخار وبقايا، يقول شارل بوني “تمكنا من الوصول الى أن الأمر يتعلق بمدينة تعود لحوالي 5000 سنة قبل الميلاد، وهي أول قرية تعرف لحد الآن على مستوى القارة الإفريقية”.

– محط دراسة مستفيضة في الوقت الحالي:

هذه القرية هي اليوم محط دراسة معمقة يقوم بها البروفسور السويسري ماتيو هونيغر، المتخصص في حقب ما قبل كرمة والتاريخ القديم، والذي استطاع الكشف عن حوالي 100 متر من جدار هذه المدينة.

ويوجد نموذج لهذه القرية في متحف الفن والتاريخ بجنيف بالجناح المخصص لأعمال التنقيب الأثرية في السودان.

وعن الخلاصة التي يستخلصها من هذا الاكتشاف، يقول شارل بوني: “يجب أن ننتظر إعادة الترميم المعقدة لما يمكن ترميمه من هذه القرية المصنوعة من الخشب والقش والطين لاستخلاص الدروس”.

ومن المتوقع أن يشتمل متحف الحضارات في كرمة على نموذج لهذه القرية عند اكتمال أعمال التنقيب.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية