مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

جنودُ الخفاء في الدبلوماسية السويسرية

الدبلوماسي السويسري ميكاييل أمبول، أبرز صانعي نجاح المفاوضات حول الاتفاقيات الثنائية مع الاتحاد الأوروبي Keystone

يشبه عالم السياسة عالم السينما إلى حد ما. ففي كلا المجالين، هنالك فئة تلتقط الأضواء، وفئة تعمل في الظل أو وراء الكواليس. هذا هو حال المُفاوض السويسري نيكولا أمبول.

فبفضل مثل هذا الدبلوماسي الذي لا يظهر على الصور، أمكن تحقيق إنجازات مهمة مثل القمة السويسرية الأوروبية التاريخية التي انعقدت يوم 19 مايو.

خلافا للعديد من الدُّول، لا تتوفرُ سويسرا على مدارس عليا لتكوين دبلوماسييها. لكن يبدُو من عدد المفاوضين المُمتازين الذين يُمثلون الكنفدرالية، أن الدبلوماسية لا تُلقنُ بالضرورة في المعاهد والمدارس العليا، وأن مدرسة الحياة والخبرة المهنية يُمكن أن تُنتج دبلوماسيين مُحنكين.

وخيرُ دليل على ذلك الدورُ الكبير والحيوي الذي قام به المفاوضون السويسريون – وعلى رأسهم الدبلوماسي نيكولا أمبول – في إنجاح المفاوضات الثنائية الثانية بين برن وبروكسل. وهي مفاوضاتٌ شاقة وطويلة تُوجت يوم 19 مايو الجاري بقمة سويسرية أوروبية تاريخية تم الإعلان فيها عن موافقة الجانبين رسميا على حزمة الاتفاقيات الثنائية الثانية بينهما.

وفي تصريح لإذاعة سويسرا الروماندية (الناطقة بالفرنسية)، قال السيد نيكولا أمبول الذي يترأس مكتب الاندماج التابع لوزارة الخارجية السويسرية والمكلف بالعلاقات مع الاتحاد الأوروبي: “إنه أمرٌ مقبول وحتى جدير بالاحترام أن يُدافع بلد مثل سويسرا عن مصالحه…المهم أن يظل المرء متناسقا في تصريحاته وأن يُدافع عن مواقفه بروح رياضية”.

وبحرصٍ دبلوماسي، شدّد السيد أمبول على أن نجاح فريقه في المفاوضات الثنائية مع الاتحاد الأوروبي لن يكتملَ إلا بعد مُصادقة البرلمان السويسري على مضمون الاتفاقيات، وموافقة الناخبين في حال طرح هذه الاتفاقيات في استفتاء شعبي، وهو أمر غير مُستبعد.

الاستراتيجية والتوازن

صحيحٌ أن الطريق لا يزال طويلا قبل أن تدخل حزمةُ الاتفاقيات الثنائية الثانية حيز التطبيق، فمازال عليها تجاوز سلسلة من العقبات الأوروبية والسويسرية، لكن لا يمكن لأحد أن ينكر نجاح فريق المفاوضين السويسريين في تخطي أكثر المراحل مشقة وتعقيدا في المباحثات الثنائية.

بيير دوبوا من معهد الدراسات الدولية العليا في جنيف أشاد بـ”جودة وكفاءة المفاوضين السويسريين ورئيسهم ميكاييل أمبول” الذي حدد استراتيجية المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي. ويرى السيد دوبوا أن الاستراتيجية التي اختارها أمبول كانت موفقة ونبيهة بشكل خاص.

لكن النهج الاستراتيجي “ليس الركيزة الوحيدة في عمليات التفاوض” حسب مندوب الحكومة السويسرية للاتفاقيات التجارية لوزيوس واسيشا الذي يقول: “على رئيس المفاوضين أن ينسق أيضا عمل الفرق المكلفة بملفات التفاوض، كل واحد على حدة”.

ويضيف هذا الخبير المُحنك في منظمة التجارة العالمية: “يجب عليه أيضا أن يسهر على التوازن الجيد بين عروض وطلبات كل الجهات التي تلتئم حول طاولة التفاوض، إن رئيس المفاوضين هو أيضا الوسيط بين الدوائر السياسية والتقنية التي تحدد مهمة التفاوض”.

تتطلب إذن مهمة المفاوض جملة من المزايا التي تُُكتسب غالبا بفضل الخبرة والممارسة. وفي هذا السياق، يقول بيير دوبوا: “إن دبلوماسيينا يكتسبون الكم الأكبر من كفاءات التفاوض في مدرسة الحياة”.

مبادئ وخُطط

من جهته، يقول فرانز بلانكارت، كاتب الدولة السويسري السابق “تعلمت هذه المهنة بتحرير محاضر جلسات التفاوض الرسمية بين سويسرا والمجموعة الأوربية (آنذاك)”.

السيد برانكارت، الذي قاد بعد ذلك المفاوضات مع المجال الاقتصادي الأوروبي، شدد أيضا على أهمية قوة الملاحظة لاكتساب مهارات مِهنة المُفاوض والتحكم في خيوطها. وهي وصفةٌ يطبقها كورنيليو سوماروغا، الذي شغل أيضا في السابق منصب كاتب الدول للشؤون الاقتصادية الخارجية.

وقد طور سوماروغا أسلوب عمله اعتمادا على ثلاثة مبادئ: أولا، معرفة الطرف الآخر في التفاوض وخلق علاقة ثقة معه. ثانيا، الإلمام بشكل جيد جدا بملفات التفاوض سواء ملفه الخاص، أو ملف الطرف الآخر. ثالثا، الالتزام بالشفافية حول الأهداف المُحددة والتمسك بها بشدة.

لكن هذه المبادئ لا تمنع المفاوض من استغلال نقط ضعف الخصم حيث يقول فرانز بلانكارت: “ليس ضروريا أن يكون المُفاوض محبوبا، لكن يجب أن يحظى بالاحترام”.

وعلى غرار كافة العمليات الاستراتيجية، يجب على المفاوض أن يتوفر على مروحة شاسعة من الخُطط. فرانز بلانكارت يكشف النقاب عن إحداها قائلا: “إن قدماء الصينيين اكتشفوها قبل ألف سنة. الحيلة تتمثل في مُعارضة مُقترحٍ مقبول بكل المقاييس، ثم الموافقة عليه بنية التوصل إلى تسوية، شرط الحصول على مُقابل لهذه الموافقة”.

وفي تعبير قد لا يروق للإعلاميين، استطرد السيد بلانكارت قائلا: “إنها خطةٌ بسيطة وفعالة في نفس الوقت، لكن لا يمكن انتهاج هذا الأسلوب إلا إذا ظلت وسائل الإعلام بعيدة عن التفاوض”.

تكوين مستمر

كيف تتمكن الدبلوماسية السويسرية إذن من الاستفادة من الخبرة التي يكتسبها المفاوضون وإبلاغها للدبلوماسيين الناشئين؟

سابين أولمان المسؤولة عن التكوين والتوظيف في الوزارة تجيب عن هذا السؤال بشرح مختلف المحطات التي يمر منها هؤلاء الدبلوماسيون. فعندما يلتحقون بوزارة الخارجية السويسرية، يتلقى الدبلوماسيون المُبتدئون تكوينا لمدة عام، يُقضون الأشهر الثلاثة الأولى في برن وبقية السنة في إحدى السفارات السويسرية.

وتوضح السيدة أولمان أن “التدريب على تقنيات التفاوض يتواصل أسبوعا في بروكسيل.. بعد ذلك، يتابع الدبلوماسيون دروس تكوين متواصل وفقا للمهام المُسندة إليهم”.

أما مركز الكفاءات الآخر في مجال المفاوضات الدولية فيتواجد في كتابة الدولة للشؤون الاقتصادية التي تشرف -إلى جانب وزارة الخارجية- على تسيير مكتب الاندماج المكلف بالعلاقات مع الاتحاد الأوروبي.

ويوضح لوزيوس واسيشا في هذا الصدد أن الوافدين الجدد يتابعون دروس تكوين في مجال تقنيات التفاوض تشمل حلقات دراسية نظرية وتطبيقية، مضيفا “عندما يتم تحديد موضوع التفاوض، نُكون فريقا يضمُّ أشخاصا ينتمون لمختلف الوزارات المعنية. ويتابع كل هؤلاء دروسا للقيام بمهمتهم الجديدة على أحسن ما يُرام”.

“صيغة قديمة”

ولتمكينهم من النجاح في هذه المهام، تحرص كتابة الدولة للشؤون الاقتصادية على الاستفادة إلى أقصى حد ممكن من علاقاتها مع الأوساط الاقتصادية السويسرية، حيث يقول لوزيوس واسيشا: “تزودنا الشركات التي تعمل بالخارج بمعلومات ثمينة عن الدول التي نتفاوض معها.. إن التعرف على هذه الخلفية يشكل إحدى أبرز مؤهلاتنا”.

لكن هذه الصيغة قديمة حسب المؤرخ هانس أولريش جوست الذي يقول: “إلى نهاية الأربعينات، انتدبت الحكومة السويسرية كبار شخصيات القطاع الخاص، سواء في المجال الصناعي أو المصرفي، من أجل الدفاع عن مصالحها في الساحة الدولية”.

ويرى هذا المتخصص في التاريخ السويسري المعاصر أن الرهانات الأساسية في مجال المفاوضات لم تتطور منذ تلك الفترة، مضيفا “لا يجب المبالغة في تقدير استراتيجيات وأهداف المفاوضين السويسريين. فالأمر يتعلق غالبا بضمان عائدات الشركات السويسرية النشيطة في العالم”.

فريديريك بورنون – سويس انفو/ ترجمة إصلاح بخات

استراتيجية رابحة:
أثناء المفاوضات حول الاتفاقيات الثنائية الأولى بين برن وبروكسل، فرض الاتحاد الأوروبي صيغة “رزمة” الاتفاقيات التي تربط بين كافة الملفات
خلال المفاوضات الثانية، نجحت سويسرا في فرض صيغتها الخاصة، حيث لم يتمكن الاتحاد من تسوية أهم اتفاق بالنسبة له، اي الضرائب على المدخرات، إلا بعد أن وافق على تسوية الملفات التسعة الأخرى في آن واحد.
كان الاتحاد في حاجة ماسة إلى التوصل إلى اتفاق بشأن الضرائب على المدخرات كي يتمكن من تطبيق تعليماته في هذا المجال، وبالتالي كانت سويسرا في موضع قوة في المفاوضات

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية