حرب أهلية عراقية لإنقاذ أمريكا؟
في ظل استمرار العنف وتعدد الإغتيالات وعمليات الخطف، تتصاعد المخاوف في صفوف العراقيين من نشوب حرب أهلية بين الطوائف والأعراق التي يتشكل منها العراق.
في المقابل، تستهوي بعض الرؤى والأفكار الغربية الداعية إلى تقسيم البلاد او إلى عزل السنة أوساط القرار السياسي في واشنطن التي تبحث عن مخرج من المستنقع.
كانت الكاتبة الأمريكية فيب مار أول من تنبّـأت بغرق عراق ما بعد صدام في لجج صراعات حادة، بحثا عن هوية جديدة.
وقالت في كتابها “تاريخ العراق الحديث”: “العراق يبحث الآن عن رؤية جديدة لنفسه، لا بل أيضا عن هوية ثقافية وسياسية مغايرة لا تتطلع إلا إلى الداخل العراقي، وتحل مكان الهوية القومية العربية السابقة. لكن هذا لن يكون سهلا”.
وبالطبع، ليس من الصعب معرفة لماذا هذا لن يكون سهلا. فالأكراد العراقيون المتمتعون بشبه استقلال تحميه الحراب الأمريكية منذ أكثر من عقد، يجدون صعوبة كبرى في الاندماج في الجسم السياسي العراقي.
والسنّة الخارجون لتوّهـم من تجربة القومية العربية في طبعتها الفاشية “الصدامية”، لن يسهل عليهم الاندراج في هوية يُـسيطر عليها، لا الوطنيون، بل الأصوليون في الفئات الأخرى.
والشيعة، يمرّون في حالة “إحياء ديني” تتضمن تشديدا أكبر على دور الدين والشريعة في الهوية والسياسة، وهذا يخلق بينهم وبين الفئات الأخرى فضاءات شاسعة قد لا تملأها سوى الصراعات الحادة.
بيد أن هذه الصعوبات كان يمكن أن تذلَّـل من خلال صيغة توافقية انتقالية كتلك المطبقة في لبنان، لولا أن هذا التشظي الداخلي بات يتقاطع مع تطورات خارجية خطرة. كيف؟
المنعطف
هنا، ومع هذا السؤال، نجد أنفسنا أمام مُـنعطف كبير تمرّ فيه راهنا السياسات الأمريكية إزاء العراق. منعطف بدأ ينقلها من موقع ما يطلق عليه “بناء الأمة” (أو الدولة) العراقية، إلى موقع “بناء الأمم” العراقية.
وبكلمات أوضح: بدأ التفكير الاستراتيجي الأمريكي، وبسبب فشل مشروع السيطرة العسكرية على العراق، يُـداعب فكرة تقسيم البلاد على أسس عرقية – طائفية كوسيلة للخروج من “المأزق الفيتنامي الجديد”، على حدّ تعبير “نيويورك تايمز”، هناك.
كان أول من أشار إلى هذا التحّول، المفكران الأمريكيان البارزان، فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية “نهاية التاريخ”، وبيتر غالبرايث، أحد أبرز المسؤولين الأمريكيين السابقين الذين ساهموا في حل المسألة البوسنية.
لا يوافق فوكاياما على تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، شيعية، وكردية، وسنيّة، “إلا في حالة اليأس الشديد”، على حد تعبيره، لأن ذلك قد يؤدّي إلى فوضى دموية كتلك التي حدثت مع تقسيم الهند، وإلى تدخّـل القوى الإقليمية، مثل إيران وتركيا. بيد أنه يقترح ما هو أسوأ من التقسيم: العمل على إبرام تحالف فيدرالي بين الشيعة والأكراد الذين يُـسيطرون معا على كل المناطق الغنية بالنفط، وإجبار السنّـة المعزولين على الرضوخ لهذه الصيغة، مقابل حصولهم على بعض إيرادات النفط.
لكن غالبرايث الذي نشر مؤخرا دراسة في مجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس” حول هذه المسألة، كان أكثر وضوحا وأقلّ ترددا في الدعوة إلى التقسيم الفعلي للعراق، إذ شدّد على الآتي:
– “الواقعية” حلّـت مكان الديموقراطية وبناء الأمة، كاهتمام مركزي لإدارة بوش في العراق، التي باتت تعلم الآن أنه، حتى لو أراد إياد علاوي أن يكون صدام حسين آخر، فلن يستطيع. فهو لا يمتلك لا الجيش ولا الحرس الجمهوري ولا أجهزة الاستخبارات التي دمّـرتها أمريكا، والتي سمحت في السابق لصدام بأن يكون صداما.
– وهذه “الواقعية، ستفرض التعاطي مع ما هو قائم بالفعل الآن في العراق. فالأكراد يتصرّفون في الشمال بصفتهم دولة مستقلة، ومختلف الأحزاب والمؤسسات الدينية الشيعية هي السلطة الحقيقية المقبولة في الجنوب، والسنـّة أقاموا شبه دولة مستقلة في الوسط. لا أمريكا ولا علاوي قادران على تغيير هذا الواقع. وبالتالي، مأسسة هذا الواقع على الأرض في “كنفدرالية مرنة” هو الحل الوحيد.
– إقامة تحالف شيعي – كردي يكون مركز الكنفدرالية، سيعني أنه يمثّل 80% من الشعب العراقي، وسيحل مشكلة الانفصالية الكردية ويساعد على احتواء الراديكالية الشيعية، وهذا سيسمح للحكومة بالتركيز على “التمرد السنّـي” العربي، وعلى مسألة الأمن والنظام في العاصمة.
الـتـفـكـيـك بـديـلا عن الإنسحاب؟
طرد السنّـة إلى خارج المعادلة، وإدخال الشيعة والأكراد إليها، وإبقاء الأمريكيين فوقها كحكّـام كرة قدم بين هذه الأطراف: هذا ما يقترحه المفكران، وبرأيهما “الكنفدرالية المرنة”، المستندة إلى تحالف الأكراد والشيعة، وحدها قادرة على محاصرة الأصوليين في المثلث السنّـي، وعلى تمكين الأكراد من التمتّـع بدولة عِـلمانية بمساندة أمريكية – غربية في الشمال، وتسهيل حياة الشيعة في دولة إسلامية كما يريدون في الجنوب.
يُـلقي هذا المنطق الأضواء على نقطة مهمة: “المأزق الفيتنامي” الأمريكي في العراق لا يدفع واشنطن (حتى الآن على الأقل) إلى التفكير بالانسحاب من بغداد، كما انسحبت من سايغون، بل إلى العمل على تفكيك العراق لتسهيل السيطرة عليه، وهذا رأي يؤكّـده الباحث الاستراتيجي الأمريكي أنطوني كوردسمان، الذي يرى أن الولايات المتحدة تعتبر أنها “لم تخسر العراق، بل خسرت فقط واحدة من إستراتيجياتها فيه”.
كما تؤكّـد ذلك المحلّـلة البريطانية، أميتي شيلز التي تشّدد على أن تزايد “فتنمة” (من فيتنام) الحرب في العراق، يدفع المسؤولين كما عامة الشعب الأمريكي إلى البحث عن “كل – وأي” وسيلة لتحقيق النصر “بهدف الانتقام من فيتنام”.
وعلى أي حال، لم يفعل الرئيس بوش غير ذلك حين أعلن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 21 سبتمبر الجاري أن بلاده “لا تنوي الانسحاب من العراق، بل هي مصمّـمة على تحقيق النصر”. ويبدو واضحا الآن أن هذا النصر لم يعد ممكنا، إلا من خلال الأفكار التقسيمية التي يقترحها فوكوياما وغالبرايث.
هذه نقطة، وثمة نقطة أخرى لا تقل أهمية: احتمال تقسيم العراق سيحوّل هذا البلد من نموذج للديموقراطية، كما كانت تعلن واشنطن، إلى نموذج للحروب الأهلية المُـؤدّية إلى “البلقنة” و”الافغنة” و”اللبننة” (سابقا) في الشرق الأوسط، وهذا على أي حال، كان أمرا متوقّـعا لسببين رئيسين اثنين:
الأول، أن تحوّل الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر 2001 من دولة أمر واقع في الشرق الأوسط إلى دولة “مُـراجـعـة” (Revisionist) وعاملة على تغيير هذا الأمر الواقع بالقوة، قد خلق أصلا حالة لااستقرار شاملة في الشرق الأوسط لما تضمنه هذا التحوّل من مشاريع لتغيير الأنظمة والكيانات.
والثاني، أن الانقلاب الأمريكي كشف النقاب عن سر لطالما كان معروفا في المنطقة: “الدولة- الأمة” العربية تُـعاني بالفعل من سكرات الموت، وعلى كل الأصعدة الشرعية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية. والآن، وقد رُفـع الغطاء الأمريكي- الغربي عن هذه الدول، فإنها ستكون وجها لوجه أمام مصائرها، وسيكون العراق العيّـنة الأولى عما يمكن أن تكون عليه مثل هذه المصائر.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.