مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

حرية إعلامية بمقاييس أمريكية!

تحول الإعلام إلى جبهة مواجهة أساسية بين أمريكا وفطاعات واسعة من النخب العربية swissinfo.ch

في اليوم العالمي لحرية الصحافة، يواجه الرأي العام داخل العالم العربي وخارجه مفارقة من نوع غريب.

فقد باتت الولايات المتحدة، التي طالما رفعت لواء الدفاع عن حرية التعبير في البلاد العربية والإسلامية، أكبر مُـطالب بفرض قيود على الإعلام وإخضاعه للرقابة.

انقلبت الأدوار مع اشتداد ضراوة القتال في العراق، فصارت الدولة التي أحرجت الأنظمة العربية بطرح مشروع “الشرق الأوسط الكبير” تضغط علنا على قطر “لضبط” قناة “الجزيرة” ومنعها من تجاوز “الخطوط الحمراء”.

وما عمـّق المفارقة، هو أن هذا التطور أتى بعد ثلاث لحظات مفصلية في تعاطي الرئيس بوش والمحافظين الجدد الماسكين بالقرار في البيت الأبيض مع العالم العربي والإسلامي، هي أولا خطاب 26 فبراير 2003، أي قبل شن الحرب على العراق، والذي دعا فيه لضرب “الجذور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للإرهاب بتوسيع الديمقراطية”، مشددا على ضرورة القيام بإصلاحات جوهرية، من أبرز عناوينها تعزيز المشاركة السياسية والانفتاح الإعلامي.

وكانت اللحظة الثانية، خطابه في 6 نوفمبر 2003 الذي لا يمكن أن يُـنسى، والذي انتقد فيه “ستين سنة من المجاملة الأمريكية للأنظمة الاستبدادية” معلنا نهاية حقبة وبداية أخرى جديدة تتّـسم بالانحياز للتغيير، وفي مقدمته تطوير الإعلام المحلي، والقيام بإصلاحات سياسية شاملة.

أما اللحظة الثالثة، فكانت خطابه عن “حال الأمة” في 20 يناير الماضي والذي أكّـد فيه بصراحة أنه “ما دام الشرق الأوسط فريسة للطغيان واليأس والغضب، فإنه سينتج حتما رجالا وحركات تهدد أمن الولايات المتحدة”. وبعبارة أخرى، فإن كبت الحرية هو حاضنة الإرهاب، مما يعني أن الأنظمة المستبدة ينبغي أن تتغير أو تغيّرها أمريكا.

“انحياز” الجزيرة؟

وبدا هذا المنطق متسقا مع التراث الأمريكي الحديث في الدفاع عن حرية الإعلام، سواء على صعيد المؤسسات الرسمية مثل التقرير السنوي الذي تصدره وزارة الخارجية عن انتهاكات الحرية في العالم أو على صعيد المنظمات غير الحكومية، وأشهرها منظمة البند 19 المختصة في حرية الإعلام والتي تستند في عملها على البند الخاص بالصحافة من “العهد الدولي للحقوق السياسية والاقتصادية” الذي صادقت عليه الأمم المتحدة.

وعلى هذه الخلفية، بدت الانتقادات اللاذعة التي وجهتها الإدارة الأمريكية للإعلام العربي عموما، وبالأخص “الجزيرة”، من فئة الممارسات التي كانت تؤاخذ عليها الحكومات العربية المستبدة.

ولم يُـخف وزير الخارجية الأمريكي كولين باول لدى استقباله مؤخرا نظيره القطري أن العلاقات بين البلدين تأثرت بالتغطية الإعلامية التي تقوم بها “الجزيرة” للأحداث في الشرق الأوسط والعراق، والتي اعتبرها المسؤول الأمريكي “منحازة”.

غير أن هذا الموقف الأمريكي ليس جديدا، فقد سبق لإدارة الرئيس بوش أن اتخذت الموقف نفسه من “الجزيرة” لدى شنّ الحرب على قوات “القاعدة” و”حركة طالبان” في أفغانستان سنة 2002، وبلغ الأمر إلى حد قصف مكتب القناة في كابول في أول اعتداء من هذا الحجم على حرية الإعلام.

مناخ مشحون

وفي الحربين، أثار موقف الإدارة جدلا حادا مع الإعلاميين العرب الذين استاءوا من تعاطيها مع الحريات الصحفية، واعتبروا أن شعاراتها الديمقراطية لم تصمد طويلا، وسقطت في الاختبار الأساسي عندما تأذّت المصالح القومية الأمريكية من ممارسة الحرية مع أن صحفيي القنوات الفضائية العربية، و”الجزيرة” بالذات، أفسحوا المجال للمسؤولين السياسيين والعسكريين الأمريكيين لإبداء وجهة نظرهم من تطور الأوضاع في العراق، وقبلها من مجريات الحرب في أفغانستان.

وفي هذا المناخ المشحون، نلاحظ أن التجاذب بين الإعلاميين العرب والإدارة الأمريكية ما انفك يشتـدّ، وعبّرت عنه المواجهة بين السفير الأمريكي في القاهرة ونقابة الصحفيين المصريين، لما أعطى السفير دروسا للإعلاميين في أصول المهنة، فردّوا عليه بقوة طالبين من وزير الخارجية المصري إشعاره بضرورة التزام حدوده والتقيد بأصول الأعراف الدبلوماسية.

وفي تونس، حملت نادية عمران وهي إعلامية معروفة على السفارة الأمريكية التي نظمت الأسبوع الماضي بالاشتراك مع “المعهد العربي لحقوق الإنسان”، مقره في تونس، ندوة حول ميثاق شرف المهنة الصحفية، وقالت الصحفية “إن الأمريكيين هم آخر من له الحق في إعطاء دروس للآخرين حول قواعد العمل الصحفي وشرف المهنة”، فيما لوحظ أن غالبية الإعلاميين قاطعوا الندوة بسبب إلقاء السفير الأمريكي لدى تونس كلمة في جلسة الافتتاح.

إخفاق في الاختبار

هكذا تحول الإعلام إلى جبهة أساسية من جبهات المواجهة بين أمريكا وقطاعات واسعة من النخب العربية، بما فيها غلاة التحديثيين الذين جابهوها بشعاراتها ومبادئها موضوعة على محك الممارسة.

وسرعان ما امتدّ الاختبار إلى مسرح الأحداث في العراق، خصوصا مع اتساع تغطية عمليات المقاومة والكشف عن الانتهاكات التي نفذها جنود أمريكيون في حق المعتقلين العراقيين، إذ أبدت السلطات الأمريكية انزعاجا شديدا من الهامش الذي استثمره الإعلام الأمريكي نفسه لكشف ملفات مُـحرجة، بعدما كان خاضعا لشبه رقابة عسكرية منذ اندلاع المواجهة مع نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين.

ومن هذه الزاوية، يجوز القول أنه رغم استياء الإدارة الأمريكية الشديد من تغطية “الجزيرة” للمعارك في العراق، مثلما أسلفنا، فإن الإعلام الذي جاءت منه الضربة الأكثر إيلاما لها ولحليفتها الأساسية بريطانيا، هو الإعلام الأمريكي، سواء المكتوب أو المرئي.

فقناة “آي. بي. سي” هي التي نشرت مشاهد مروّعة من تعذيب المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب القريب من العاصمة بغداد، لتغزو الصور بعد ذلك العالم كله. وتبارت صحف أمريكية من مستويات مختلفة بدءا من الصحيفة الشعبية “نيوزداي” الصادرة في نيويورك إلى العريقة “واشنطن بوست” في الضرب على وتر القتلى الأمريكيين في العراق وكأنها تخضع لمايسترو واحد على نحو ينذر بأن الإدارة مقبلة على أيام صعبة مع الرأي العام المحلي بعد خسرت صدقيتها لدى الإعلام العربي.

وبالنسبة لأصحاب مشروع الشرق الأوسط الكبير و”مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط” المتفرعة عنه، فإن الأمل تبدد بإقامة جسور متينة مع النخب وقوى المجتمع المدني العربية، التي هي عماد المشروعين، بعدما أخفق الأمريكيون في اختبار حرية الإعلام.

رشيد خشانة – تونس

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية