حريق الفتنة الطائفية في العراق يلتهم الجميع
تنتشر هذه الأيام لدى الكثير من العراقيين لُـغة خطيرة تدعو إلى الاقتتال الطائفي والذبح على الهوية في بلد لا زال يفتش له عن هوية جديدة بعد سقوط نظام صدام حسين.
وقد احتدت الأزمة إثر إتهام الشيخ حارث الضاري، منظمة بدر الشيعية، التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية بالوقوف وراء قتل أئمة مساجد وحُـراسهم من السُـنة، وهو ما نفته المنظمة.
تنتشر هذه الأيام لدى الكثير من العراقيين لُـغة خطيرة تدعو إلى الاقتتال الطائفي والذبح على الهوية في بلد، يفتش له عن هوية جديدة في مرحلة ما بعد نظام صدام حسين ولم يجدها بعد.
وقد اندلعت الأزمة إثر إعلان صريح أطلقه الشيخ حارث الضاري، الأمين العام لهيئة علماء المسلمين، وهي إحدى المرجعيات السنية، اتهم فيه منظمة بدر الشيعية، التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، الذي يتزعمه عبد العزيز الحكيم، بالوقف وراء قتل أئمة مساجد وحُـراسهم من السُـنة، الأمر الذي نفته المنظمة واتهمت بالمقابل الضاري بإثارة فتنة طائفية.
ووجّـهت للضاري، من جهات شيعية مختلفة، اتهامات بالتحريض على الفتنة، ودعا متطرفون إلى قتله، لوأد الفتنة في مهدها كما يقولون. واستخدمت مواقع إعلامية بشكل تعسفي، كل ما تملك من أجل التحشيد الطائفي، في وقت تستمر فيه جماعات دينية متشددة، يُزعم أن المتشدد الأردني أبو مصعب الزرقاوي يقودها في قتل الشيعة، وتعتبرهم روافض وتحث على تصفيتهم، وتقول في بعض ما نُسب إليها: “إن خطرهم على الإسلام أشد من تواجد المحتل الصليبي الكافر”.
ففي رسالة صوتية نُـسبت إلى الزرقاوي قبل الإعلان عن إصابته، برر زعيم تنظيم القاعدة في العراق العمليات التي يُـقتل فيها على نطاق واسع مدنيون أبرياء بقوله: “إن دفع الضرر العام، مقدم على دفع الضرر الخاص”، مشيرا إلى أن من أسماهم بالروافض، وهم الشيعة الذين يشكلون الأغلبية في العراق، يتعاونون مع قوات الاحتلال ضد السُـنة، ولهذا يحق قتلهم، لأن خطرهم أشد من “أعدائنا الصليبيين”، حسبما نُسب إليه.
وفي إطار التحريض الطائفي، شبّه الزرقاوي ما يقوم به مسؤولون شيعة في سجون عراقية في عدد من المدن الشيعية، منها الكوت والحلّـة، من ممارسات ضد السُـنة، بما قامت به القوات الأمريكية في سجن أبو غريب في بغداد، كما ندد بما وصفه “استيلاء” الشيعة على مساجد السُـنة، وتحويلها إلى حسينيات.
السُـنة في البصرة
وتشير تطورات الأحداث الجارية أن مدينة البصرة، ثاني أكبر المدن العراقية، وهي مدينة متنوعة عرقيا ودينيا، وتشكل نموذجا مصغرا للعراق، تشهد حملة تطهير طائفي، تستهدف السُـنة الذين تذكُـر تقارير خاصة، أنهم يتعرضون إلى يشبه حملة تطهير طائفية قبل إعلان محتمل للفدرالية في الجنوب العراقي.
ويُعتقد أن الاغتيالات التي لا توفر مسؤولين شيعة، وتجري في وضح النهار، ترمي إلى زعزعة الأمن والاستقرار، تمهيدا لعزل البصرة وإعلان الفدرالية في الجنوب لفصله عن العراق في مرحلة لاحقة.
واللافت أن أحدا لم يعتقل، كما لم توجَّـه أي تهمة إلى أحد في هذه الحوادث المُـريبة، التي كانت أودت بحياة قاض جنائي ومفتش تربوي سُـنيين، واثنين من الأعضاء الشيعة المرشحين لمجلس المدينة (الحالي)، ومقدم في الحرس الوطني العراقي، وما تزال هذه الحوادث متواصلة.
وبشأن السُـنة، فقد بدأت الحملة ضدهم منذ اليوم الأول لسقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، بهجمات على عدد من المساجد السُـنية، وتحويلها إلى مساجد للشيعة بذريعة أنها كانت أراض اغتُـصبت، وشيدت فوقها مساجد من قبل النظام السابق. ولم تسلم مساجد عريقة من التعرض لمضايقات، ومنها مسجد المقام الكائن في العشار، والذي أقفل أبوابه عدة شهور خوفا من الهجمات.
كذلك، لم يتوقف الأمر عند مضايقة رجال الدين السُـنة، واغتيال عدد منهم بتُـهمة الانتماء للمدرسة الوهابية، إذ تشهد المدينة باستمرار اغتيالات تستهدف الكوادر العلمية المتخصصة، خصوصا الأطباء وأساتذة الجامعات، وسـُجلت عدة حالات اغتيال دفعت بالعديد من الأطباء إلى الهجرة والتوجّـه صوب كردستان العراق، أو إلى خارج البلاد.
وطالت الاغتيالات أيضا كفاءات علمية مرموقة من الشيعة بتهمة الانتماء لحزب البعث، ومن أبرز الذين قُـتلوا عميد كلية الصيدلة السابق الدكتور محمد حسن الحكيم، وعميد كلية الهندسة وآخرون.
ويقال أن عمليات الاغتيال والقتل والاختطاف التي باتت منتشرة، تنفذها مجموعات من العراقيين الذين كانوا في إيران، وأسّـسوا لهم منظمات للانتقام من رجل النظام السابق، ومن لصوص وقُـطّـاع طرق، وعملاء لمخابرات دول أجنبية. ووصل الاتهام إلى منظمة بدر، التي طالت الاغتيالات عددا من كوادرها.
وفي البصرة، ينشط حزب الفضيلة الإسلامي (الجناح المعتدل من التيار الصدري)، الذي يتبع في المرجعية آية الله محمد علي اليعقوبي، ويُـهيمن عبر تحالف مع أحزاب إسلامية صغيرة على مجلس المحافظة المشكل حديثا، كما تنشط حركة الدعوة الإسلامية، التي كان يتزعمها عز الدين سليم، رئيس مجلس الحكم الذي قُـتل العام الماضي.
ويوجد عدد من المنظمات العلمانية وزعماء العشائر، وما أصبح يُـعرف بمنظمات المجتمع المدني، التي تُـكثف نشاطها هذه الأيام لإعلان الفدرالية في الجنوب، ونشبت مؤخرا منافسة قوية بين الجماعات الموالية لهذه الدولة الإقليمية أو تلك حول إعلان الفدرالية. كما تتحدث مصادر موثوقة عن أموال طائلة تُـصرف للإعداد لمؤتمر يُـعقد في البصرة لبحث الفدرالية.
ويُنظر إلى عمليات الاغتيال والترويع والاعتقال المتكررة لأهل السُـنة المعارضين والرافضين للفدرالية، من واقع أنها ستدفع إلى تغيير الخارطة السكانية في المدينة التي يُـريد البعض فصلها عن العراق. ويشعر السُـنة الذين يبلغ عددهم نحو من 35%، بالقلق من أن أعمال القتل التي يمكن أن تثير فتنة طائفية واسعة في مدينة يُـهيمن عليها الشيعة الذين تبلغ نسبتهم حوالي 60%.
وفي البصرة، هناك مسيحيون وصابئة وأكراد يشكلون نحو 5% من السكان، وهؤلاء أيضا تعرضوا للقمع. فقد قُـتل عدد من المسيحيين من باعة الخمور وتم تفجير محلاتهم، لكن التوترات تزايدت بعد الهجمة القوية التي نفذها أنصار مقتدى الصدر على عشرات من الطلبة الجامعيين ممن كانوا يقومون بسفرة طلابية في فبراير الماضي في منطقة البرجسية.
وأعلن “مجلس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، التابع لحركة الصدر المسؤولية عن الهجوم، مشيرا إلى أن الطلاب تعرضوا إلى الضرب بالهراوات وأطلق عليهم الرصاص لتجاهلهم المحظورات الدينية، وبينها الاختلاط بين الجنسين، وأصيب عدد من الطلبة بجروح.
وتتهم أوساط من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، موالين لصدام قدِموا من وسط العراق، بتنفيذ عمليات مسلحة تستهدف المسؤولين الشيعة، وتقول إن هؤلاء يحصلون على حاضنة لهم في مناطق السُـنة الرئيسية في الزبير وأبي الخصيب والفاو.
ويملك أصحاب الفنادق تعليمات محددة للإبلاغ عن أي “غريب” غير محلي، لكن معظم مالكي الفنادق ممن كان يعمل وكيلا للأمن في عهد صدام، يغض النظر عن هذه التعليمات، ويسمح بإيواء الفارين إلى البصرة من مدنهم.
وعلى الرغم من التدهور الحاصل في أوضاع المدينة، فإن كثيرا من السياسيين ورجال الدين البارزين من السُـنة والشيعة دعوا إلى الابتعاد عن أعمال الانتقام. وقال صلاح البطاط، رئيس مكتب المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في البصرة: “حتى إذا استهدفنا أحدُهم، فإننا سنتسامح معه”. وألقى بعض الزعماء باللوم على غرباء عن المدينة، وقال الشيخ خلف عيسى، رجل الدين السُـني ومسؤول فرع الحزب الإسلامي العراقي في البصرة: “نعتقد أن هناك من يحاول التحريض على الفتنة بين السنة والشيعة”.
ويتوجه عيسى باللوم في أعمال العنف إلى الإيرانيين، حيث تقع البصرة قريبة من حدودهم ويمر بها كثير من الزوار الإيرانيين المتوجهين إلى العتبات الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء، ولكنه اعترف أيضا بأن السُـنة متورطون في تمرد على نطاق البلاد، بالإضافة إلى أن بعض السكان السُـنة ربما كانوا من بين مرتكبي الأعمال، كما ألقى باللوم على الحكومة المحلية التي يُـسيطر عليها الشيعة بسبب إخفاقها في منع العنف.
وفي فبراير الماضي كان مسلحون مجهولون قد أردوا القاضي السُـني طه العامري قتيلا أثناء توجُّـهه من بيته إلى محكمة جنايات البصرة، وكان المفتش التربوي السُـني عبد الرحمن فريح عائدا إلى بيته عندما أطلق مسلحون النار الأسبوع الماضي عليه من الخلف وأرْدوه قتيلا.
وقبل أيام، تم اغتيال أربعة أشخاص في البصرة كانوا أعضاء في حزب البعث، حيث تم اختطافهم من قبل مجهولين، وعُـثِـر على جُـثثهم ملقاة في الشوارع، وكان أحد القتلى قد اختُـطف من قِـبل الحرس الوطني، حسب رواية شاهد عيان عاين عملية الخطف، واعترف أحد أفراد الشرطة لذوي أحد القتلى بأن من يقوم بهذه الأفعال هم استخبارات الشرطة، ومن بين القتلى المحامي مصعب أحمد الجاسم، الذي سبق وأن اعتُـقل مع إبنه قبل ستة أشهر من قِـبل استخبارات الشرطة، وأطلِـق سراحه بعد أسبوع من اعتقاله ولا يزال ابنه المثنى رهن الاعتقال.
كما وزع في البصرة إنذار باسم “اللجنة الإسلامية لمحاربة السُـنة الوهابية” يتوعّـد أحد المدرسين الذين يعملون بالإشراف التربوي، وهو من المشرفين في التربية الإسلامية، بأن مصيره سيكون كمصير المشرف التربوي عبد الرحمن الفريح، الذي اغتاله مجهولون قبل فترة قصيرة. واتهم الإنذار الشخصي أهل السنة في البصرة بعقد الاجتماعات في المساجد لوضع خُـطط مواجهة الشيعة، وبأنهم أنصار صدام الذين كانوا مرتاحين لإعدامه عناصر الطائفة الشيعية.
ويتهم مقاتلو بدر، الذين تدرّبوا في إيران، بأنهم يحملون ولاء لعلي خامنئي، وللحكومة الإيرانية، ولأجهزة الأمن الإيرانية، وليس للدولة العراقية، ولكن هذا الاتهام ينفيه البدريون الذين قاتلوا صدام وقدّموا الكثير من التضحيات طيلة الثمانينات والتسعينات.
وفي سياق الحملة لإشعال نار الفتنة في مدن العراق، وزعت في مدينة سامراء ومناطق أخرى بيانات مزيفة موقعة من قبل منظمة بدر وحزب الدعوة الإسلامية تدعو السُـنة إلى “ترك مناطقهم أو يتم إخراجهم منها بالقوة”، ويؤكد مراقبون أنها بيانات غير صحيحة ولا تمتُّ إلى المجلس الأعلى وحزب الدعوة بصلة، وإنما هي بيانات ووثائق مدسوسة ومفبركة، واتهموا رجال النظام السابق وعناصر الزرقاوي ببثها من أجل إثارة النعرات الطافية والحقد بين أفراد الشعب العراقي سُـنة وشيعة عربا وأكرادا.
تطهير طائفي ضد الشيعة
في المقابل، يُـقتل الشيعة على قدم وساق في اللطيفية ومدن عراقية أخرى، وقد طال القتل فتيات اغتُـصبن وقُـتلن، إضافة إلى أطفال وشيوخ. واتهمت أوساط مختلفة الوقف السُـني بالضّـلوع بعمليات تفجير استهدفت أماكن مكتظة بالسكان في بغداد يقطنها الشيعة، كما جرى في تفجير مطعم “حبايبنا”، وتفجيرات مفخخة أخرى، اعترف المتهمون أنهم ينتمون إلى الوقف السُـني.
ويعتقد نافذون من منظمة بدر أن الأسباب الحقيقية التي دعت إلى صدور التصريحات ضدهم هي وجود أدلة واعترافات قسم من أئمة المساجد في دعم الإرهاب ومساندة العمليات الإرهابية.
وبغض النظر عن مدى صحة الاعترافات (التي يُعتقد أنها انتزعت تحت التعذيب)، فإن الواضح فيها هو الإصرار على بثها عبر بعض القنوات التلفزيونية العراقية (كالعراقية والفيحاء)، يجعل العراق يقف بالفعل على شفا حرب طائفية من العيار الثقيل ستعُـم نيرانها كل المنطقة وأقاليم أخرى في العراق، ومنها بالطبع باكستان التي تعرّض مزار ديني فيها مؤخرا إلى تفجير أودى بحياة نحو 20 شخصا ينتمون كلهم إلى طائفة واحدة.
كما قتل في عمليات التطهير الطائفي التي شهدها العراق منذ سقوط بغداد في 9 أبريل 2003، المرجع الديني السيد محمد باقر الحكيم، وجمع غفير من العلماء من وكلاء السيستاني أو وكلاء السيد الصدر الثاني، بالإضافة إلى عدد كبير من أساتذة الجامعات والمثقفين والشخصيات، وعشرات الكوادر من منظمة بدر تجاوز عددهم الـ 1000، وأعداد ضخمة جداً من الشيعة في كربلاء والكاظمية، وفي الحلة والموصل، وتل عفر والصويرة، والمدائن وبغداد.
الجميع في العراق يتبادل الاتهامات بأن تحرك الجهة المقابلة يؤدّي، إذا ما استمر إلى حرب أهلية يريدها البعض إن في داخل العراق وإن في الخارج. وأبرز ما في تلك التصريحات ما جاء على لسان المتحدث باسم هيئة علماء المسلمين حارث الضاري، الذي هدّد بردّ يفضي إلى حرب أهلية موجّـها كلامه إلى منظمة بدر، وما جاء إثر ذلك على لسان مسؤولين في منظمة بدر من اتهامات مماثلة للضاري.
واللافت أن رئيس جهاز المخابرات العراقية اللواء محمد الشهواني أيّـد تلك الاتهامات الموجهة إلى بدر، مشيرا علنا إلى “تواطُـئ” بين عناصره في ظل الحكومة السابقة برئاسة أياد علاوي، وبين الجمهورية الإسلامية في إيران المجاورة، واتهم الشهواني 27 شخصا من طاقم السفارة الإيرانية في بغداد بالتجسس وتجنيد “بدر” ومنظمة “حزب الله”، لتنفيذ حملة اغتيالات أودت بحياة 18 من عناصر الجهاز منذ منتصف سبتمبر 2004، على حد زعمه.
وقال الشهواني إن سلسلة من عمليات دهم لأماكن إيرانية في بغداد سمحت بالعثور على وثائق تربط بين إيران وقتل عناصر من الجهاز بواسطة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وقال بالحرف: “أشارت إحدى الوثائق إلى قيام إيران بتقديم ميزانية للمنظمة، بلغت 45 مليون دولار لإبقاء السيطرة عليها، ودعم تشكيل جهاز أمني يضم عدة مديريات لتنفيذ العديد من المخططات التخريبية التي تشمل أعمال التصفية الجسدية”، حسب قوله.
لكن الشهواني متَّـهم في المقابل من قِـبل بدر وقيادة المجلس الأعلى بتعذيب ثلاثة من عناصرها وقتلهم في ظل حكومة علاوي، بما يجعل اتهاماته تدخل في باب التحريض على الفتنة الطائفية.
بدر تنفي
أصدرت منظمة بدر بيانا نفى بشدة تلك الاتهامات، وربطت بين اتهامات الضاري، وبين تحسين الأداء الحكومي نحو “تضييق الخناق حول الإرهابيين المرتزقة القتلة”، واصفة تصريحات الضاري بغير المسؤولة والمنفعلة واعتبرت أنها “تنم عن حقد دفين” ووصمتها بـ “الباطلة والكاذبة والعارية عن الصحة”.
وقد اعتبر البيان هذه التصريحات مقدمة لجر البلاد إلى معركة طائفية لتحقيق حلم الزرقاوي، الذي رأت منظمة بدر أنه بات مرتدّا، موضحة أن رجال النظام السابق وبعض “وعاظ السلاطين” تحالفوا معه، وهي إشارة خطيرة إلى السُـنة الذين يقول أقطاب من الشيعة، إنهم كانوا يتمتعون بامتيازات هائلة أثناء فترة حكم صدام حسين.
وتدخل التيار الصدري لحل هذه المشكلة، خاصة بعد أن تصاعدت لغة التحريض لتعتبر الضاري محرِّضا على الإرهاب، بل دعا البعض إلى “قتله وقتل باقي أعضاء هيئة علماء المسلمين”، في مسلسل خطير لا نهاية له.
ورأى عقلاء القوم أن الحوار وحده كفيل بحل هذه الأزمة، بدلا من التحريض على القتل وسفك الدماء، من واقع أن أخطر ما يمكن أن يقوم به كل من يعمل على التحشيد الطائفي، هو تكريس الإقصاء أو التهميش للقوى الأخرى، لأن الإقصاء سيتكرّس ويُـصبح منهجا يفرّخ دكتاتوريين يتعاملون مع العراقيين على قاعدة (ما أُريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
لا شك أنه قد حصلت هُـوّة بسبب مُـمارسات نظام صدام ضد الشيعة، وهو بالطبع لم يكن يمثل السُنّـة، واليوم يطالب العقلاء بتجسير هذه الهُوّة عبر الحوار المتواصل، لأنه هو “جوهر رسالة القرآن الكريم” مثلما يقولون. وعلى هذا، فإن الحوار في العراق سيكون برأيهم “نقطة البداية نحو تفاهم أكثر بين السُـنة والشيعة في مجتمعات أخرى” كالسعودية والبحرين وباكستان وأفغانستان، ودول أخرى.
إذا نجح الحوار في العراق، فإن أوضاع الشيعة في بلدان أخرى ستتحسن بالتأكيد، والعكس صحيح وهو ما يخشاه عقلاء القوم. ويقول هؤلاء، إن التعصّـب هو قراءة خاطئة للدين السمح، تدل على قلة وعي، ويفضي بالنهاية إلى الوقوع في الجريمة وقتل الناس وسفك الدماء، وهو مرض يضرب العقل فيجعله جامدا لا يفكر بين العقائد والمعتقدين.
وبما أن الشيعة لا يكفّـرون أحدا، حتى المنتمين إلى الفكر الوهابي الذين هم اشد عداوة لهم، فقد تحركت شخصيات لتفادي تدهور كبير في العلاقة الطائفية داخل العراق وخارجه. وفي هذا السياق، رأت أوساط عارفة أن الشيخ حارث الضاري ارتكب خطأ بتصعيد الأزمة ونقلها إلى الشارع، بدلا من أن يضغط سرّا وبوسائل أخرى على الفعاليات الدينية والسياسية للتدخّـل وكشف ملابسات تلك الحوادث الغريبة التي طالت السُـنة.
وفي المقابل، حذرت هذه الأوساط المطلعة من جهات تريد توريط منظمة بدر في الفتنة، وهي التي تعرَّض عدد من قادتها ورموزها إلى الاغتيال، مع العلم أن في منظمة بدر رجالا وطنيين قاتلوا نظام صدام حسين على مدى عقود، وقدموا التضحيات الجسام، ولا يكفي أنهم كانوا في إيران ردحا من الزمن، لاتهامهم بالعمل لصالحها، وملاحظة أن إيران أخفقت عبر ممارسات خاطئة، في خُـطب ودّ معظم العراقيين الذين لجأوا إليها (ومنهم معظم عناصر بدر)، وحوّلتهم عبر ممارسات خاطئة إلى سفراء كراهية لها، وهذا ما يجب أن يدفع إلى احتوائهم، بدلا من الاستمرار في ربطهم قسرا بإيران، ولو معنويا.
خطوات عملية
وقد دعا العارفون قبل كل شيء، إلى إيقاف الحرب المشتعلة إعلاميا، ووضع حد لكل التصريحات والكتابات التي تُساهم في تفجير الفتنة الطائفية أو تأجيجها.
وطالبوا بأن يجري الإعلان أن هذه الفتنة لن يشعلها الشيخ حارث الضاري، ولن تفتعلها منظمة بدر، ولا أي من العراقيين المخلصين، لأنها ببساطة، فتنة يخطّـط لها بدقة خارج الحدود، ليلتهم حريقُها العراق والمنطقة، وقد تعم لتشمل الجميع، والاعتراف أيضا بأن في “السُـنة” رجالا يروجون لنهج غريب، يعتبر الشيعة كفارا يجب قتلهم. وفي “الشيعة” أناس جهلة أو مشبوهون ينادون هذه الأيام بطرد السُـنة من العراق، كما كان عُـدي صدام حسين يفعل في تلك الأيام الغابرة.
والإعلان أيضا، أن محسوبين على السُـنة باتوا «ينتعشون» بقتلهم الشيعة، فيما يمارس بعضٌ من الشيعة المشكوك بولائهم، وبـ «هدوء» القتل السري للسُـنة بذريعة أنهم بعثيون أو متعاونون مع النظام السابق أو للانتقام.
ويمكن القول، في ضوء التصعيد الخطير الذي يشارك فيه الكثير، عمدا أو جهلا، أن الشكوك بدأت تتكاثر عن الجهات التي تريد الاحتراب بين العراقيين من سُـنة وشيعة وأكراد وغيرهم لدفعهم إلى تدمير العراق ونقل حممه البركانية إلى الآخرين.
وما يزيد في إشعال نار الفتنة ولا يساهم في تهدئتها، دخول الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى على الخط بطريقة خاطئة، عندما أعرب عن “قلقه البالغ” إزاء عمليات القتل التي حدّد أنها استهدفت رجال دين سُـنة في العراق، ما يجعله في موقع لا يمكن وصفه بالحيادي (والحيادية، صفة لازمة لكل من يُـريد أن يقوم بدور الوسيط). ويرى مراقبون أنه كان الأحرى بموسى أن لا يتدخل الآن، خصوصا وأنه صمَـت طويلا أمام قتل الشيعة، لكي لا تُـعطي تصريحاته الذريعة لتدخل مرجعيات من خارج العراق بحُـجة الدفاع عن الشيعة.
ومهما يكن من أمر، فإنَّ على الذين ينظرون بعين الشك إلى ولاء منظمة بدر، وعموم الشيعة العراقيين، أن يلحظوا الفروقات الكبيرة ضمن الطوائف الشيعية المختلفة.
فالشيعة العراقيون قريبون ثقافياً من السنّـة العراقيين أكثر من قُـربهم من شيعة إيران، وهم أبعد الناس رغبة باندلاع العنف الطائفي، ولا تجيز أدبياتهم الفقهية قتل الآخرين لمجرد أنهم لا ينتمون إلى طائفتهم، لأن الفكر التكفيري غريب عن منهجهم.
والسنّـة الذين لم يكن نظام صدام يمثلهم يوما، لن يفكروا أبدا بإشعال الحرب الطائفية التي لا تنسجم مع رغبتهم في البحث عن هوية جديدة خارج نسخة النظام السابق ونموذج طالبان.
صحيح أن الشيعة في العراق الذين عاشوا فترات طويلة من القهر والإقصاء، يعيشون اليوم حالة زهو وانتعاش ديني بعد فوزهم في انتخابات 30 يناير التي جرت بغياب متعمد من السنّـة، لكن المؤمل أن يبتعدوا (وهم يعملون الآن على كتابة الدستور)، عن دمج الدين في الهوية والسياسة للنظام الجديد، لكي لا يخلق هذا بينهم وبين الفئات الأخرى فضاءات شاسعة، لا تملأها سوى الصراعات المفتعلة.
وبكلمة: إن أولئك الذين يعتقدون أن فكرة تقسيم العراق على أسس عرقية – طائفية، سيجنّـب البلاد الدخول في مأزق الحرب الأهلية لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخطئين، على الأقل في ظل ما يشهده العراق اليوم من اصطفافات خطيرة.
إن تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، شيعية، وكردية، وسنيـّة، قد يؤدّي إلى فوضى هائلة، خاصة وأن التركمان يفتشون لهم على مقعد حول الطاولة، وهذا ما يغري بتدخل القوى الإقليمية، مثل إيران وتركيا ودول أخرى.
وأخيرا، فإن محصلة ما يجري في العراق اليوم هو قتل يومي تختلط فيه دماء الشيعة بالسُـنة وبالشرطة وبالحرس وبالجيش، بما يوجب أن يضع الجميع مصالحهم في بوتقة العراق الموحد، ويبدءوا بحل أزمة المحاصصة على أساس من التفاهم والتوافق بعيدا عن تحديد سقف مسبق للمطالب، والتعاطي بواقعية لا تطرد السنّـة إلى خارج المعادلة، وتدخل الشيعة والأكراد إليها بواقعية، ودون توتر بعد أن كانوا خارجها في عهد صدام.
نجاح محمد علي – البصرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.