حصاد “سنوات الجمر”
اعتادت الجزائر على احتفالاتها الكبرى سنويا في الفاتح من نوفمبر، ذكرى انطلاق ثورتها المسلحة، لكنها هذا العام خصصت احتفالاتها للخامس من يوليو ذكرى استقلالها... والجراح لا تزال تنزف.
قد يكون ذلك لمرور اربعة عقود على تحقيقها الاستقلال وما يعنيه من حرية بعد 13 عقدا من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني الذي كلفها ثمنا باهظا، اكثر من مليون ونصف المليون شهيد.
كان الدم ينزف على يد قوات الاحتلال الفرنسي، من اجل ان تنال الجزائر استقلالها وينال الجزائريون حريتهم، ولان الثمن كان باهظا، خرج الجزائريون بُعَيدَ الاستقلال ليهتفوا “سبع سنوات بركات” ضد حرب داخلية كانت على الابواب.
جرح الجزائر اليوم، بعد اربعة عقود من الاستقلال، لازال نازفا، ليس في حرب ضد استعمار قديم او جديد او مع طرف خارجي يحاول حرمانها من هذا الاستقلال او من جزء منه، بل في حرب جزائرية جزائرية، الجميع يعرف كيف بدأت ولا احد يعرف كيف تنتهي. حرب تفقد أي احتفال رمزيته.
فُتح الجرح الجزائري منذ عقد من الزمن، بأزمة حكم في البلاد، خمسة رؤساء جمهورية دخلوا وخرجوا من قصر المرادية، وتسع حكومات شُكّلَت، واجريت انتخابات تشريعية مرتين وعُدّلَ الدستور واقتُرحَت عشرات المشاريع والافكار من السلطة او من الفاعلين السياسيين، والازمة مستمرة وتتفاقم والجرح ينزف دون ان يجفّ الدم او ينضب. وكلما لاح في الافق امل بوقفه ظهر في الميدان ما يبدد الامل، ويشيع اليأس، ليصبح نزيف الدم حدثا يوميا عاديا ولتدفع الجزائر خلال هذا العقد اكثر من مائة وخمسين الف ضحية وعشرات المليارات من الدولارات من الخسائر الناجمة عن التخريب او تكاليف الحرب او خسارة استثمارات موعودة.
اين مكمن الازمة الجزائرية التي أفقدت الاستقلال نكهته وسلخت من الثورة رمزيتها؟ لا احد يجيب ولا احد يعترف انه لا يستطيع وحده ان يجيب. كل طرف من اطراف الازمة الجزائرية يعلن امتلاكه وحده للحقيقة وللتحليل السليم وللحل الناجع. وما يجمع عليه الفاعلون السياسيون ان انتخابات تشريعية اجريت في ديسمبر 1991 حقق فيها التيار الاسلامي المتمثل بالجبهة الاسلامية للانقاذ انتصارا ساحقا، ادخل في قلوب كبار قادة المؤسسة العسكرية الرعب والخوف على البلاد، فقرروا وقف المسار الانتخابي واقالة رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد وقيادة البلاد من خلال مجلس اعلى للدولة.
وفي الميدان، فُتحَت المعتقلات الصحراوية وزُجَّ بها الاف من نشطاء التيار الاسلامي او من يشتبه بهم، ورد الاسلاميون بحرب لم يسلم منها جندي او دركي او شرطي او مثقف او امرأة او طفل… اصبح كل جزائري وقودا للحرب التي سجّلت ابشع انواع المجازر وعمليات القتل في التاريخ الحديث.
تراكمات اربعين عاما!
منذ 11 سبتمبر واعلان الولايات المتحدة الحرب على التيارات الاصولية الاسلامية تحت عنوان “الحرب العالمية ضد الارهاب”، وصانعو قرار وقف المسلسل الانتخابي الجزائري يقدمون انفسهم للعالم على انهم اول من حارب هذا الارهاب وان وقف المسار الديموقراطي سنة 1992، كان السبيل لمنع قيام دولة طالبان في بلدهم.
العالم الذي كان لا يصدق المقولة الجزائرية، لم يجد نفسه متحمسا لها رغم حماسه للحرب على الارهاب، ليس دفاعا عمن تحاربهم الدولة الجزائرية، انما لان الازمة الجزائرية باتت بلا معنى ولم تعد تقتصر على حرب بين السلطة والتيارات الاسلامية، لان اطرافها تعددوا بتعدد اوجهها.
الى جانب ازمة التيارات الاصولية الملاحقة، تعرف الجزائر بعد اربعين عاما من الاستقلال، ازمات اخرى، تهدد كل منها بحرب اهلية. فالازمة الاجتماعية والاقتصادية لا تقل خطورة عن ازمة القبايل(البربر)، وازمة المياه قد تُدخل البلاد في متاهة مواجهات داخلية بين الدولة والمواطنين. وهذه الازمات المتعددة والمتشعبة ترتبط بالازمة الام، ازمة الانقلاب على الديمقراطية ووقف المسار الانتخابي التي كبدت البلاد خسائر جسيمة ستحتاج الى عشرات السنين لتعويضها.
على الصعيد الخارجي، بدأت الجزائر عقدها الاول من الاستقلال بحرب طاحنة مع جارتها وشقيقتها المغرب، لخلاف على الحدود والتي عرفت بحرب الرمال، واختتمت عقدها الرابع من الاستقلال، وتداعيات تلك الحرب لازالت تتحكم في علاقات البلدين، متمثلة اساسا بقضية نزاع الصحراء الغربية الذي يسمّم العلاقات المغاربية منذ 27 عاما.
وقضية الصحراء مثل الازمة الداخلية الجزائرية، لا حل لها باديا في الافق، رغم دخول اطراف دولية، وتحديدا الامم المتحدة على خط تسويتها، ورغم ان النزاع الصحراوي يحول دون تعاون اقليمي (مغرب عربي) حمل قبل اندلاع الازمة الجزائرية املا كبيرة وكثيرة لتجاوز دول المنطقة عثراتها الاقتصادية والتنموية وازماتها الاجتماعية وحتى السياسية.
افقدت ازمات العقد الماضي الجزائر دورها العالمي والاقليمي الذي كانت قد حققته وجعلها مقصدا لحركات التحرر والناطقة بلسان العالم الثالث طوال العقود الثلاثة التي تلت استقلالها. قد يكون لذلك الدور ظروفه، من اشعاع لثورة وضعت حدا لامبراطورية استعمارية ولعبت دورا في تحرر فرنسا من اوزارها بقيام جمهوريتها الخامسة، وفي امكانيات مالية واقتصادية وفرتها ثروتها من النفط والغاز ساعدتها على سياسة دولية فاعلة، والاساس قيادة استطاعت طوال حقبة هواري بومدين ان تحكم البلاد بقبضة حديدية ملفوفة في قفاز من حرير.
طوال العقد الماضي، انشغلت الجزائر بأزمتها او ازماتها، لتبدد ليس فقط ثرواتها وبشرها، بل ايضا لتُهمش دورها ورصيدها الذي اكتسبته على مدار ثلاثة عقود، ليكون السؤال المطروح بإلحاح في بلد الثورة والمليون شهيد، ماذا فعلت الجزائر بالاستقلال؟
محمود معروف – الرباط
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.