حكيم الثورة و “ثورة الحكم”
نال جورج حبش، الزعيم التاريخي الفلسطيني بجدارة لقب "حكيم الثورة" ضد الاحتلال الاسرائيلي، لاسيما وأنه الذي رأى في الوحدة الوطنية أساسا لايجب تجاوزه. وتتمثل المفارقة في أنه رحل في ذروة انقسام فلسطيني غير مسبوق.
وفي أواخر أيامه التي قضاها في صراع مع المرض في العاصمة الاردنية عمان، كانت الضفة الغربية وقطاع غزة، قد تحولتا إلى شبه كيانين منفصلين، يرزحان تحت الاحتلال، وتقودهما زعامتان، حماس الاسلامية في غزة، وفتح العلمانية في رام الله.
أربعة عقود كانت قد انقضت، ما بين تأسيسه للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ووفاته في أحد مستشفيات عمان. كان حلم حبش الشاب خريج كلية الطب في الجامعة الاميركية بيروت تحرير فلسطين، كل فلسطين.
لكن حبش توفي بعيدا عن اللد وعن فلسطين وعن حلم الوحدة العربية الذي كان بدأه بتأسيسه أيضا لحركة القوميين العرب التي انتهت مع ثاني المنعطفات الرئيسية في حياة حكيم الثورة بعد نكبة عام 1948 لدى قيام اسرائيل.
وهو الذي رفض العودة الى الاراضي الفلسطينية غداة اتفاق الحكم الذاتي مع الزعيم ياسر عرفات. فقج آثر حبش الذي رفض اتفاق أوسلو عدم التوجه بطلب إلى إسرائيل للسماح له بالعودة مع من عادوا لدى بدء تطبيق الحكم الذاتي عام 1994.
واذا كان رفيقه وخليفته في زعامة الجبهة الشعبية، ابوعلي مصطفى، قد عاد بعد اتفاق اوسلو فانه لم يلبث طويلا حتى لقى حتفه باصابة صاروخ اسرائيلي مباشرة وهو جالس خلف مكتبه في مدينة رام الله بالضفة الغربية لدى اندلاع الانتفاضة الحالية عام 2000.
وبالرغم من تخليه عن منصبه في قيادة الجبهة الشعبية منذ العام 2000، فان حبش لم يتراجع أبدا عن مواقفه من اتفاق الحكم الذاتي، ولا غير رأيه في القيادة الفلسطينية التي ظل يتهمها بانها “قدمت تنازلات كبيرة” لاسرائيل.
تعددية وانسجام
وحسب مقطتفات من مذكراته التي ظهرت في كتاب ضم بين دفتيه محاورات مع الصحفي الفرنسي جورج مالبرونو، فان جورج حبش لم يوفر الزعيم التاريخي الفلسطيني ياسر عرفات الذي توفي في 2004 وكان ينتقد سلطته الفردية.
ويصف حبش عرفات الذي كانت تربطه به علاقة أخوة وعداوة بأنه اختصاصي في “حياكة الألاعيب والدسائس” وأنه مستعد لفعل أي شىء لابعاد منافسيه، لكن عرفات “لم يكن خائنا للقضية” كما يقول حبش.
ربما أن موقف حبش الاخير الذي كشفه الصحافي الفرنسي الذي نشر هذه المقابلات بالتزامن مع وفاته، يشي بنوع من التغيير الذي طرأ على فكر هذا اليساري القومي الثائر.
فقد اعتبر حبش، استنادا الى هذه المقابلات التي أجريت في أواخر سنوات حياته أن “الحل الوحيد للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي يكمن في قيام دولة علمانية يعيش فيها اليهود والفلسطينيون معا”.
وهو ذاته الذي كان يقول في وصف نفسه “أنا ماركسي، يساري الثقافة، والتراث الإسلامي جزء أصيل من بنيتي الفكرية والنفسية، معني بالإسلام بقدر أية حركة سياسية إسلامية كما أن القومية العربية مكون أصيل من مكوناتي” مؤكدا “إنني في حال انسجام مع قوميتي العربية ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية وماركسيتي التقدمية”.
المفارقة
قد تكون هي المفارقة التي جمعت بين وفاة زعيم من هذا الطراز قادر على الانسجام مع مثل هكذا تناقضات فكرية، وبين التحول الجذري في الموقف السياسي الفلسطيني مع بروز حركة حماس وسيطرتها على قطاع غزة بعد نجاحها في الانتخابات التشريعية الاخيرة عام 2005.
ولعل التطورات الاخيرة التي أعقبت تشديد الحصار الاسرائيلي على قطاع غزة والتي تمثلت في “فتح” الحدود مع مصر عنوة ودخول مئات آلاف الفلسطينيين إلى مدينتي رفح والعريش المصريتين.
وبالرغم من تجنب حركة حماس المحاصرة في قطاع غزة عن الإعلان أنها كانت وراء فتح الحدود بهذه الطريقة، فانها تؤكد في المقابل أن الوضع على معبر رفح، بوابة غزة الوحيدة الى العالم الخارج، “لن يعود الى سابق عهده”.
وسابق عهد هذا المعبر، وهو عهد قصير جدا، يتمثل في الاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي الذي رعته الولايات المتحدة ويقضي بإدارة السلطة الفلسطينية للمعبر بإشراف أوروبي ورقابة إسرائيلية غير مرئية.
لكن “ثورة حكم حماس” في غزة الصيف الماضي أطاحت عمليا بهذا الاتفاق وظل المعبر معطلا بعد أن طردت حماس رجال أمن الرئاسة الفلسطينية عنه في الوقت الذي أغلقته إسرائيل عمليا.
وخلال الاشهر الاخيرة ومع اتساع هوة الانقسام الفلسطيني، راحت اسرائيل تصعد من اجراءات الحصار على غوة إلى درجة قطع امدادات الوقود والغذاء والدواء، ولم يكن من سبيل الا بفتح الحدود مع مصر بالطريقة الأخيرة، عن طريق فتح ثغرة في الجدار الحدودي.
ولما قررت مصر التغاضي عن ذلك و”عدم السماح بتجويع فلسطينيي غزة”، كان لابد لقضية الحوار بين حركة حماس من جهة، وحركة وفتح والرئاسة من جهة أخرى، أن تبرز إلى الواجهة، لكن بمعطيات جديدة اسمها الفوضى على معبر رفح هذه المرة.
وقال مسؤول فلسطيني رفض الكشف عن هويته لسويس إنفو “مايحدث الآن هو لعبة الضغط، كثفت إسرائيل الضغط على غزة، ونقلت حماس الضغط على مصر من خلال فوضى المعبر، ومصر ستنقل هذا الضغط على الرئيس محمود عباس والسلطة”.
وكان لافتا الدعوة السريعة التي وجهتها مصر لكل من حماس والرئيس عباس لتجديد الحوار في القاهرة، وقد سارعت حماس إلى الاستجابة وتلكأ عباس، الذي يدرك انه سيواجه ضغوطات كبيرة، لكنه وافق أخيرا.
ويدور الحديث الآن عن اصرار حماس على المشاركة في إدارة المعبر، لكن رئيس الوزراء سلام فياض، الطرف الاخر والصاعد في المعادلة، سارع إلى التاكيد على أن الحكومة الفلسطينية ترفض أي تدخل من حماس في المعبر.
هي لعبة التناقضات إذن التي أفرزتها “ثورة الحكم” في الصيف الماضي. وعلى الاغلب فان مساعي حوار “المعبر” الحالية ستؤدي الى حصول حماس على تنازلات من عباس، لازالت غير مؤكدة، وستحصل السلطة، أو حكومة فياض بالأحرى، على شرف إدارة المعبر، وكل ذلك مرهون بموافقة إسرائيل وقرارها، وهو ما يمكن تسميته بالحل الافتراضي لأزمة الحصار الحالية إلى أن “يقضي الله أمرا كان مفعولا”.
ثمة مفارقة هائلة في موت “حكيم الثورة” في عهد “ثورة الحكم”.
هشام عبدالله – رام الله
عمان (رويترز) – حضر الاف الرفاق مراسم دفن جورج حبش الزعيم الفلسطيني الراديكالي السابق وهم يهتفون ضد اسرائيل ويتعهدون بمواصلة هدف حق تقرير المصير الذي سعى له خلال عقود من النضال.
واحتشد رفاق سابقون بالاضافة الى سياسيين فلسطينيين بارزين وممثلين عن جماعات عربية يسارية وعلمانية في مقبرة خارج العاصمة الاردنية لوداع حبش الذي توفي يوم السبت بسبب مشاكل في القلب عن 80 عاما.
وهتف مؤيدون يحملون اعلاما فلسطينية واعلاما حمراء للجبهة الشعبية التي اسسها والتي ايدت المبدأ الماركسي اللينيني حول العنف الثوري ضد المفاوضات مع اسرائيل وحثوا القادة الفلسطينيين للعودة “للكفاح المسلح لتحرير فلسطين.”
وهتف المؤيدون “لا للحل السلمي نعم للبندقية” في مشاهد حماسية وعاطفية في مقبرة سحاب شرق العاصمة حيث رفعت صور لحبش كتب عليها “عاش مناضلا ومات مناضلا.”
كان حبش المولود بمدينة اللد عام 1927 طالبا بكلية الطب في الجامعة الامريكية في بيروت حينما اندلعت حرب عام 1948. واتبع حبش الفكر الماركسي اللينيني في العام ذاته الذي تحولت فيه أسرته الثرية الى لاجئين اثر قيام اسرائيل.
وفي سبتمبر أيلول 1970 خطفت الجبهة الشعبية ثلاث طائرات غربية في ان واحد في الاردن ودمرتها جميعا مما دفع العاهل الاردني الراحل الملك حسين لمواجهة الفصائل الفلسطينية على أرض الاردن.
وقالت ليلى خالد التي كانت المرأة الوحيدة بين الخاطفين ان الهدف من تلك العملية كان تسليط الاضواء على القضية الفلسطينية، وأضافت لرويترز “العالم تجاهل معاناتنا لفترة طويلة.”
وتابعت “ان الهدف الرئيسي وراء هذه العمليات هو وضع العالم أمام سؤال كبير.. من هم الفلسطينيون.. في ذلك الوقت كان الفلسطينيون يعاملون على أنهم مجرد لاجئين يحتاجون لمعونات انسانية.”
وفي عام 1976 أجبر بعض من أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين طائرة تابعة لشركة طيران اير فرانس على التوجه لمطار عنتيبي بأوغندا. وتوجهت فرقة من القوات الخاصة الاسرائيلية الى عنتيبي وقتلت الخاطفين وأنقذت 98 رهينة من الاسرائيليين واليهود. وقتل ثلاثة رهائن ورئيس فرقة القوات الخاصة. وتبرأت الجبهة من تلك العملية.
وقالت هيلدا حبش أرملة الزعيم الراحل ان حبش كان يؤمن بأن الهدف الذي يكمن بتحرير فلسطين لا يمكن تحقيقه الا باتحاد العرب.
واقيم قبل الدفن قداس في الكنيسة الارثوذكسية اليونانية حيث كسا جسده العلم الفلسطيني وعلم جماعته الماركسية وودعه الزعماء وهم يمتدحونه بالقول بأنه شخصية تاريخية جسدت النضال الفلسطيني للتحرر من الاحتلال.
وفي رام الله سار نحو 2000 فلسطيني في شوارع المدينة حاملين نعشا رمزيا ملفوفا بالاعلام متعهدين بالاخلاص لحبش.
وكانت اسرائيل تعتبر القائد السابق ارهابيا واعتبره العديد من الفلسطينيين بطلا.
وتنحى حبش عن قيادة الجبهة في عام 2000 مسلما زمامها الى أبو علي مصطفى الذي قتلته اسرائيل في عام 2001 خلال الانتفاضة الفلسطينية.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 28 يناير 2008)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.