ديمقراطية لبنان: وجه الإله جـانـوس!
الديمقراطية حبلى دوماً بالمفاجآت أو بما يسمّـيه علماء السياسة "المضاعفات غير المقصودة أو المحسوبة".
هذه حلاوتها، فمن دون مفاجآت لا حيوية سياسية، لا بل لا حياة سياسية من دون مضاعفات غير محسوبة لا منافسة، والتالي لا تطور ولا نضج.
من راقب انتخابات لبنان في دورتها الثالثة (الجبل والبقاع بعد بيروت الجنوب)، عاين بالكامل هذا السر الديمقراطي الجميل: حيوية لم يعرفها لبنان منذ أكثر من 15 عاماً، نزالات وسجالات سياسية وشخصية حادة، سباق بين مرشحين كادوا يستجدون الناخبين أصواتهم، ثم بالطبع المفاجآت: الجنرال ميشال عون، الذي انهزم في الحرب العسكرية ضد السوريين عام 1989 وفر هارباً من قصر الرئاسة في بعبدا إلى مبنى السفارة الفرنسية المجاور، ثم إلى باريس ليبقى فيها كلاجئ طيلة 15 عاماً، ينتصر في حرب الانتخابات بدعم من حلفاء سوريا في منطقة المتن، وبقوة أقدام مناصريه وأصواتهم في منطقة كسروان – جبيل.
وبرغم أنه لم يفز بأي مقعد نيابي في منطقة بعبدا – عاليه المختلطة طائفياً، إلا أن الأرقام الكبيرة التي حصدها ضد تحالف واسع مُـضاد له، جمع دروز وليد جنبلاط، ومسيحيي القوات اللبنانية وشيعة حزب الله، جعلته شريكاً سياسياً كبيراً في جبل لبنان الجنوبي.
لم يتوقع أحد أن يسحق عون خصومه المسيحيين على هذا النحو، ولم يتوقع أحد أصلاً أن يهادن هذا الجنرال الناري المعارض ذاك الجنرال الآخر في السلطة (الرئيس لحود) الذي اضطهده 15 عاماً أو أن يمد يده إلى زعيم المتن ميشال المر، المتهم (من جانب عون نفسه)، ليس فقط بـ “العمالة” للسوريين، بل أيضاً بزعامة الفاسدين والمفسدين، أو أن يصبح الإقطاعي سليمان فرنجية، الذي كان ولا يزال الرمز الأكبر للنظام الأمني اللبناني – السوري المشترك، هو الرمز الأول لتحالفات عون في الشمال.
ماذا جرى كي يقرر العماد قلب المعادلة من “حرب سياسة بوسائل أخرى” إلى “سياسة حرب بوسائل أخرى”، فيخلع عنه رداء اللاسياسة المستحيلة ليتبنى حلّة فن الممكن؟ هل استفاد من دروس مغامراته العسكرية العبثية في الثمانينات، فاكتشف أن الخط المستقيم في الصراع السياسي يقود مباشرة إلى الهاوية، وأن الخط المتعرج هو الطريق الوحيد نحو قمة جبل السلطة؟
لا شيء مؤكد حتى الآن، ويجب انتظار دخول الجنرال إلى البرلمان، لنعرف ما إذا كان النور “الذي قذفه الله في صدره” مؤخراً، نور إستراتيجي سياسي حقاً أم مجرد ومضة تكتيكية انتخابية عابرة؟ حينها، سيكون السؤال الأكبر هو: هل سيخوض عون هذه المعارك وهو يرتدي لباس الجنرال العسكري لـ 1989، أم لباس السياسي المدني لـ 2005؟ وهل سيعمل للوصول إلى حلول وسط مع زملائه الفرسان الآخرين، أم أن براغماتيته المستجدة ستقتصر على تحالفات تكتيكية كتلك التي أبرمها في الانتخابات؟
بكلمات أوضح: هل سيفاجئ الجنرال الجميع تحت قبّـة البرلمان كما فاجأ نفسه في الانتخابات؟
.. ومفاجآت ضارة
فلننتظر قليلاً لنر. لكن خلال مرحلة الانتظار هذه سنكتشف شيئاً آخر: مفاجآت الديمقراطية ليست كلها من النوع الجميل أو السار. فكما مع عملية الحداثة، يمكن للديمقراطية أن تحقق الإجماع عبر الحوار والتسويات، لكن يمكنها أيضاً أن تفجّـر الانقسامات والصراعات. إنها مثل الإله الإغريقي الأسطوري جانوس لها وجهان، أحدهما عابس والآخر باسم، وهذا ما رأيناه في الانتخابات اللبنانية.
فإلى جانب الوجه الجميل برز وجه بشع، تجسّـد في بروز عملية انقسام واستقطاب طائفي حاد في البلاد. فاكتساح الجنرال عون الانتخابي، أطلق موجة تسونامي عاتية قلبت الطاولة على رؤوس الجميع وبعثرت كل الأوراق في الهواء، وخلخلت كل الموازين الطائفية.
فمن الآن فصاعداً، سيكون للمسيحيين “زعيم أوحد”، ومن الآن فصاعداً سيتصدّى هذا الزعيم لزعماء الطوائف الأوحدين الآخرين (الحريري وجنبلاط ونصرالله) للمطالبة بحصة تأسيسية أكبر في “لبنان الجديد”.
ولأن الزعيم المسيحي الجديد هو هذا الجنرال الناري “ما غيره”، يمكن توقع حدوث عض أصابع مرير بين هؤلاء “الفرسان الأربعة” في المرحلة المقبلة حول كل شيء: رئاسة الجمهورية، حصص الحكومة، طبيعة النظام السياسي، وهل يبقى الطائف أم يُـلغى وما البديل؟ طبيعة النظام الاقتصادي، وبالطبع، مستقبل العلاقة بين الدولة والمقاومة.
نجاح أم فشل؟
لكن، هل تنجح الديمقراطية في دفع الفرسان الأربعة إلى التسويات والحلول الوسط، أم أنها ستكون أعجز عن ردم فجوات الإستقطابات الطائفية بينهم؟ الإجابة ستعتمد على العوامل الآتية:
أولاً، برامج كل من هؤلاء الفرسان الأربعة لمستقبل لبنان ودور كل طائفة فيه: هل يبقى اتفاق الطائف الذي أعاد توزيع السلطة بين الطوائف لغير صالح الهيمنة المسيحية السابقة، أم يتم السعي لاتفاق طائف جديد؟ وإذا لم يتم الاتفاق لا على هذا أو ذاك، هل تطرح الفدرالية الجغرافية كخيار بديل كما في العراق؟
ثانياً، ما طبيعة الإصلاحات والتغييرات التي يفكّـر بها “الكونسورسيوم” الدولي (أمريكا، فرنسا، الأمم المتحدة) الذي أشرف على لبنان بعد انتهاء الحقبة السورية؟ الاجتماعات الأخيرة التي عقدها سفراء هذا الكونسورسيوم في باريس لم تفصح عن هذا الأمر، وإن كان بعض أطرافه، خاصة واشنطن، باتت تضيق ذرعاً بالنظام الطائفي بسبب تسببه بتشوه الديمقراطية والاقتصاد، ووضعه البلاد دوماً على حافة الحروب الأهلية.
وقد حذّر الكاتب اللبناني سركيس نعوم، الذي يتمتع بصلات صحفية وثيقة مع العديد من المصادر الدبلوماسية الغربية، المسيحيين من أن الغرب قد يعمد إلى اعتماد الديمقراطية العددية، في حال أبدوا تصلباً حيال الحلول الوسط، وحينها سيكون المسلمون الذين يشكلون أكثر من 70% من السكان، في موقع يمكنهم من إعادة صياغة النظام اللبناني كما يريدون.
ثالثاً، نوع التحالفات التي ستقوم بعد انتهاء الانتخابات: هل يقترب حزب الله (والشيعة) من عون، ويبتعد عن الحريري؟ أم يحدث اصطفاف شيعي – سني – درزي ضد مسيحيي عون؟ أو اصطفاف سني – مسيحي – درزي ضد شيعة حزب الله؟
من المبكر الإجابة على أي من هذه الأسئلة بسبب التعقيد الشديد للّـوحة السياسية اللبنانية ولتداخلها الأكثر تعقيداً مع اللوحة الدولية والإقليمية.
كل ما يمكن قوله الآن هو أن ثمة تساوياً بين المفاجآت السارة والمفآجآت الضارة في الديمقراطية اللبنانية. وهذا أمر إن دل على شيء، فإنه يدل على أن هذه الديمقراطية اللبنانية لم تبلغ بعد سن الرشد، وهي لن تبلغه أبداً ما لم تحل أولاً معضلة الإستقطابات الطائفية المدمّـرة!
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.