المشاركة الانتقائية أو الديمقراطية المباشرة كما تريدها بروكسل
أعرب الاتحاد الأوروبي عن رغبته في إلغاء العمل بالتوقيت الصيفي، بعد أن أظهر استطلاع عبر الإنترنت معارضة غالبية مواطنيه لمسألة التغيرات الموسمية للتوقيت. هل يمكن القول بأن بروكسل اكتشفت حبَّها الكبير للديمقراطية المباشرة؟ في الواقع، فإن العكس هو الصحيح، إذ يكشف هذا القرار عن فهم مُحيِّر لقادة الاتحاد الأوروبي لمفهوم المشاركة الديمقراطية. بيد أنَّ التَصَدُّعات في صورة السيادة الشعبية بخصوص التوقيت الصيفي ظهرت في سويسرا أيضاً.
هذه المساهمة هي جزء من #DearDemocracy، المنصة التي تتيحها swissinfo.ch لطرح ومناقشة شؤون الديمقراطية المباشرة. هنا يُعَبِّر كُتاب عاملون وغير عاملين بالمؤسسة عن آرائهم. ولا تتطابق مواقفهم بالضرورة مع تلك التي تتبناها swissinfo.ch.
كما جرت عليه العادة منذ عام 1981، يؤخِر السويسريون ساعاتهم 60 دقيقة في يوم الأحد الأخير من شهر أكتوبر من كل عام، ليبدأ بذلك العمل بالتوقيت الشتوي. لكن هذا التَغَيُّر في الوقت – الذي يُصادف يوم الثامن والعشرين من الشهر الجاري – قد يَختَفي قَريباً، مع تَوَجُّه الاتحاد الأوروبي نحو إلغاء العَمَل بالتوقيت الصيفي.
في عام 1978، رَفَض غالبية الناخبين السويسريين العَمل بنظام التوقيت الصيفي. مع ذلك، أدخلت الحكومة السويسرية والبرلمان العمل بهذا النظام بعد ثلاثة أعوام فقط.رابط خارجي
السبب الذي دعا سويسرا إلى تبني العمل بهذا النظام، هو قيام المجموعة الاقتصادية الأوروبية حينذاك – الاتحاد الأوروبي حالياً – بتطبيق التوقيت الصيفي، الأمر الذي حوَّل سويسرا إلى “جزيرة زمنية” مُنعزلة، وكلَّف اقتصادها مبالغ كبيرة. وقد دَفَعَ هذا الوضع بالبرلمان الفدرالي إلى الإسراع في جَعل عقارب الساعات السويسرية تُشير إلى نفس اتجاه الدول الأوروبية الأخرى. وعلى الرغم من الشروع بأطلاق استفتاء ثانٍ ضد القانون [حيث دعا الفلاحون في البلاد مِن قَبْل إلى إجراء استفتاء شعبي بهذا الشأن، رُفِضَ على أثره العمل بالتوقيت الصيفي في عام 1978]، إلّا أنَّ الداعين للاستفتاء فشلوا في جمع التواقيع الـ 50,000 اللازمة لذلك.
الصراع على مسألة العمل بنظام التوقيت الصيفي، يوضح بأن القرارات الديمقراطية على المستوى الوطني لا تحدث في فراغ. فاليوم، يلعب التشابك الدولي دوراً مُتزايد الأهمية، وينبغي أن يؤخَذَ بِعين الاعتبار عند تقييم العَواقب الناجمة عن اتخاذ أي قرار.
بدورها، أعلنت الحكومة السويسرية بالفعل عن عَزمها اقتفاء خُطى الاتحاد الأوروبي في حال إلغائه العمل بنظام التوقيت الصيفي.
في هذا السياق، عَبَّر رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر عن رغبته في إيقاف العمل بتغيير التوقيت خلال فصلي الشتاء والصيف في بلدان الاتحاد الأوروبي. وكما قال في نهاية شهر أغسطس المنصرم: “الناس يريدون ذلك، ونحن سوف ننفذه”رابط خارجي. وكانت المفوضية قد أجرت استطلاعاً لسبر الآراءرابط خارجي عبر الإنترنت حول مسألة إلغاء الانتقال من التوقيت الشتوي إلى التوقيت الصيفي، شمل جميع مواطني الاتحاد الأوروبي.
وخَلُصَ الاستطلاع الذي شارك فيه 4,6 مليون شخص، أن ما يزيد عن 80% من الاشخاص المُستَطَلعة آراؤهم يؤيدون الغاء تغيير التوقيت في الاتحاد الأوروبي.
المرّة الأخيرة في ربيع 2019
في الأثناء، قامت المفوضية الأوروبية بتقديم مشروع قانون للبرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي، سوف يتم بموجبه تغيير التوقيت في الدول الأعضاء للمرة الأخيرة في ربيع عام 2019.
إذا كانت الإجابة نعم، فنحن نقول: “لنمضي قُدُماً”، وإذا كانت الإجابة لا فنحن نقول: “لنستمر”
جان كلود يونكر 2005
البيان الصادر عن رئيس المفوضية ُمُثير للدهشة، سيما وأن رأي مواطني الاتحاد الأوروبي عادة ما يبدو ذا أهمية ثانوية بنظر المفوضية. وكمثال على ذلك، نستذكر إعلان يونكر قبل الاستفتاء في فرنسا على المعاهدة الدستورية المقترحة للاتحاد الأوروبي في عام 2005 حيث قال: “إذا كانت الإجابة نعم، فنحن نقول:” ‘لنمضي قُدُماً’، وإذا كانت الإجابة لا، فنحن نقول ‘لنستمر’”رابط خارجي.
الفرنسيون من جانبهم قالوا لا – تماما كما فعل الهولنديون. عندئذٍ – وفي أعقاب إعلان يونكر – تم صَب الأجزاء الأساسية من المعاهدة في عقد جديد، لم يُخْضَع لأي استفتاء (ما عدا في ايرلندا). وهكذا، وبِمِثلِ هذه السلاسة، استطاع قادة الاتحاد الأوروبي هَزم مواطنيهم.
مع أن مبادرة المواطنة الأوروبية [أو المبادرة الشعبية الأوروبية] تتيح إيداع مَطلَب لدى المفوضية الأوروبية في حال تم تجميع أكثر من مليون توقيع لمواطنين اوروبيين مؤيدين لها من سبع دول أعضاء، لكن لا الموقِعين ولا بقية المواطنين الأوروبيين البالغ عددهم 400 مليون نسمة، لديهم الحق في البَت بأي شيء يخص شواغلهم.
المزيد
حتى أفضل الديمقراطيات لا تخلو من أوجه النقص – دعونا نتعرَّف عليها
فالجهود المبذولة لجعل الحق الشعبي العابر للحدود أكثر إلزاماً، أو حتى إدخال الاستفتاءات العامة على مستوى الاتحاد الأوروبي، تصطدم بمقاومة حازمة في صفوف قادة الاتحاد الأوروبيرابط خارجي.
تلاشي الدَعم في جميع الأحوال
للأسباب آنفة الذكر، قد يُفاجأ المرءُ بإعلان رئيس المفوضية الأوروبية وزملائه الآن، بِتَحَوّل دراسة استقصائية غير مُلزِمة إلى النَجْم الموَجِّه لأعمالهم. وربما كان ردّ الفِعل هذا مُرتَبِطا بِحَقيقة أن موضوع تَغيير الزمن – ورغم ما يثيره من مشاعر – لا يتصدر قِمّة الأجندة السياسية في بروكسل، كما هو الحال مع قضايا أخرى تجري مناقشتها على مستوى الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن، مثل خروج المملكة المتحدة، أو الهجرة، أو الميزانية المشتركة المُخَطَّط لها لمنطقة اليورو. كما أن الدَعم لمسألة تغيير التوقيت كل ستة أشهر كان قد تلاشى بالفعل في بروكسل.
وهكذا، يمكن القول بأن المفوضية الأوروبية إنما تَتَّبِع “استراتيجية انتقائية خالية من المخاطر”، يكون فيها رأي المواطنين مَسموعاً عندما يتعلق الأمر بقضايا “يومية” يمكن التَحَكُّم بتأثيرها، كما أن المشاركة ليست ملزمةرابط خارجي.
هذا النَهج الانتقائي لمشاركة المواطنين ليس بالمشكلة الوحيدة في مثل هذه الدراسات الاستقصائية. لكن المسألة الحساسة بالدرجة الأولى، هي استناد المفوضية في سياستها على بيانات رأي محدودة الأهمية.
التمثيل الديمقراطي له شكل آخر
ما سبق ذكره هو أقل ما يُقال في الواقع. فعندما يقول يونكر في حالة المَسح الاستطلاعي المتعلق بتغيير الوقت إن “الناس يريدون ذلك”، فإن هذا يعني بوضوح أن أربعة ملايين شخص من مجموع المستفتيين البالغ عددهم 4,6 مليون شخص (أي ما يزيد قليلا عن 1% من مجموع مواطني الاتحاد الأوروبي) يريدون إلغاء العمل بالتوقيت الصيفي.
كانت مصداقية استطلاع الآراء الذي أجري عبر الانترنت مَثار شكوك خبيرَين ألمانيين في علم الإحصاء، هما فالتَر كرامَر، الأستاذ في الجامعة التقنية في مدينة دورتموند، وغيرد غيغيرينتسَر، الأستاذ في معهد ماكس بلانك للتنمية البشرية. وقد وصف الخبيران نتائج الاستطلاع المعلن عنها بكونها “إحصائية الشهررابط خارجي المغلوطة”.
بالتالي فإن مدى تمثيل هذه النتيجة للواقع هو أمر مشكوك فيه. وعلى سبيل المثال، كان حوالي ثلثي جميع المشاركين من ألمانيا، التي يشكل عدد سكانها أقل من 20% من جميع مواطني الاتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك، تم إجراء الاستطلاع عبر الإنترنت، مما يعني أن مشاركة المجموعات السكانية الأكثر استخداماً للإنترنت كانت بنسبة أعلى.
لكن الأهم من ذلك، هو أرجحية أن يكون الأشخاص المعارضين لتغيير الوقت قد شاركوا بشكل أكبر، في حين لم يكن لدى الأشخاص الذين يشعرون بالرضا عن التغيير سوى حافز ضئيل لملء استمارة استطلاع الآراء.
البرلمانيون السويسريون يدركون ضرورة أن تحظى مشاريع القوانين التي يقرها البرلمان بدعم الناخبين أيضاً.
هنا بالضبط يَكمُن موطن الضعف العام لأدوات المشاركة، التي لا تؤدي إلى نتائج مُلزِمة مباشرة؛ ذلك أن المشاركين الرئيسيين فيها يكونون من الأشخاص الشديدي الاهتمام بالموضوع، والراغبين بممارسة الضغط.
أما حقيقة إيلاء المفوضية الأوروبية النتيجة مثل هذه الجدّية رغم ذلك، فقد يكون متعلقاً بموقفها الذاتي. وفي هذا السياق، كشف رابط خارجيماتياس داوم، رئيس تحرير الطبعة السويسرية لصحيفة “دي تسايت” الألمانية مؤخراً، أن السياسيين في الديمقراطيات التمثيلية كانوا يولون أهمية أكبر لرأي “الشعب” بالمقارنة مع اولئك الموجودين في الديمقراطيات شبه المباشرة. فالبرلمانيين السويسريين يدركون ضرورة أن تَحظى مشاريع القوانين التي يُقِرُّها البرلمان بِدَعم الناخبين أيضاً في نهاية المطاف.
وسواء كان هذا هو الحال أو لا، فانهم [البرلمانيون] سُرعان ما سيكتشفون ذلك. وهم هنا ليسوا بحاجة إلى النظر إلى آخر استطلاعات الرأي، أو إلى المواقف الفعلية أو المتَصَوَّرة للأغلبية الصامتة أو غير الصامتة.
حكومة منفصلة عن الشعب
بالنظر إلى أن انتخاب هيئات مثل المفوضية الأوروبية يتم بشكل غير مباشر، فإن إخضاعها للمساءلة المباشرة من قبل المواطنين غير مُمكن بالتالي. مع ذلك، تضع هذه الهيئات “الرأي العام” في حساباتها، لأنها تأمل في استخلاص شرعية مُعينة من خلالهم، في حال تصرفوا وفقاً لخوالجهم.
مع ذلك، فإنها لا تستطيع الاعتماد على قرارات ديمقراطية مُلزمة. لذا لا يبقى لها في نهاية المطاف سوى استشعار نَبض الناس من خلال استطلاعات الرأي، كما يَحدُث مثلاً مع استطلاعات الرأي المُنتَظَمة التي تُجريها المفوضية الأوروبية.
ترجمته من الألمانية وعالجته: ياسمين كنونة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.