يريدون الديمقراطية المحلية لكنهم لم يستوعبوا شروطها بعدُ
بدأ الجدل في تونس حول الإنتخابات البلدية والجهوية القادمة، التي لا يزال التونسيون ينتظرون وضْع قانون انتخابي جديد لها، إلى جانب التوافق على تحديد موعد نهائي لتاريخ إجرائها. لكن ما قامت به منظمة "مراقبون" يتجاوز المسائل التنظيمية والترتيبية لهذه المواعيد الإنتخابية.
فقد انطلق المسؤولون عن هذه المنظمة غير الحكومية في تنظيم سلسلة من اللّقاءات، جمعت فاعلين سياسيين ومواطنين وناشطين بالمجتمع المدني، وسألتهم عن مفهومهم لمُصطلح اللامركزية وماذا ينتظرون من الديمقراطية المحلية؟ فكشفت الإجابات عن وجود فجْوة عميقة بين المفهوم والحقيقة، وتبيّن أن التونسيين في حاجة لمعرفة الهدف الذي يتّجهون إليه. وهل لديهم رؤية مشتركة للمرحلة القادمة وهل استعدّوا لها فعلا ووفّروا الشروط الضرورية للقيام بها؟
تُعتَبر منظمة “مراقبون”رابط خارجي من بين أهَم المنظمات التونسية المُهتمّة بمراقبة سير الإنتخابات. بدأت كغيرها تستعِد للمشاركة بفعالية في المحطّة الإنتخابية القادمة. وفي هذا السياق، نظَّمت ست (6) لقاءات مع أعضائها، وكانت المفاجأة أن كوادِرها الأساسية لا تملك القُدرة على ضبط مفهوم مشترك لِما هو مقصود بمصطلح “اللامركزية” وأن الأفكار الرائجة في صفوف الأعضاء، رغم مستوياتهم الثقافية الجيدة، لا تزال “غامضة أو مغلوطة”، وذلك حسبما أكّده رئيس المنظمة رفيق الحلواني لـ swissinfo.ch.
لا بد من توسيع الحوار
يعتقد كثيرون بأن اللامركزية تساوي اللامحورية، ومنهم مَن يعتقد بأن المطلوب فقط هو مجرّد تنازل محدود عن بعض صلاحيات الإدارة المركزية لصالح الجهات. ويضيف الحلواني أن ذلك من شأنه أن يؤدّي إلى خلط في الأدوار والمفاهيم. واعتبر أن من أسباب ذلك، أن النقاش حاليا حول هذه الأسئلة لم يخرج بعدُ عن أروِقة وزارة الداخلية بالتعاون مع عدد الخبراء، في حين أن المطلوب هو توسيع دائرة الحوار وتشريك المواطنين والفاعلين على الميدان داخل الجِهات. فرأي هؤلاء مهُـِم جدا لبناء الأسُس الصّلبة لإقامة الديمقراطية المحلية.
كما أن الحلواني يعتقد بضرورة توفير الإمكانات الضرورية للقِوى الفاعلة على الأرض واستشارتها، وهو ما قامت به منظمة “مراقبون” عندما عقدت ثلاث اجتماعات مفتوحة في بعض المدن الرئيسية، مثل توزر وصفاقس. وقد كشف الحِوار أن سكان كل مدينة لهم أولويات مختلفة، وبالتالي، لديهم مفاهيم مُتبايِنة حول ماهية اللامركزية.
يرى العديد من المواطنين في اللّامركزية مجّرد تسهيل للخدمات الإدارية وعوْدة بعض الصلاحيات إلى الجهات، لكنهم لم يُدركوا بشكلٍ عميق أن اللّامركزية مُرتبِطة عُضويا بكيفية صناعة القرارات ووضع السياسات، انطلاقا من القوى المحلية والجهوية، وبالتالي، بناء توازُن جديد بين المركزية واللّامحورية، حتى لا تجد الجهات نفسها غيْر قادرة على تحمّل المسؤوليات الجديدة والأعباء المترتبة عنها.
خلط كبير ولخبطة غير مبررة
بدورها، تعاني الأحزاب السياسية من خلْط كبير ولخْبَطة غيْر مبرّرة، وهو ما سيؤدّي إلى تضخّم على مستوى الإنتظارات، دون الأخذ بعيْن الاعتبار الإمكانيات الرّاهنة للواقع المحلّي والوطني. فالذي ستتّجه إليه تونس، هو نقل السلطة من المستوى المركزي إلى المجال المحلي. لكن الإشكالية الكُبرى مُرتبِطة بالنّقص الفادِح في مجال بناء الكوادر وضرورة إعدادها لممارسة السلطة المحلية، الأمر الذي يتطلّب، حسب تقديرات الحلواني، مساحة زمنية “لا تقِل عن عاميْن أو ثلاثة”.
لهذا، يؤمن الناشط الجمعوي الشاب بضرورة التدرّج وعدم التسرّع في اتخاذ قرارات سيكون من الصّعب الوفاء بها. فهناك ميزانيات لابد من إعدادها، إلى جانب آليات يجب ضبطها لتحقيق الإنتقال من النصوص إلى الممارسة. ومن هنا، تأتي أهمية توفير الحدّ الأدنى من الوعْي لدى المواطنين، حتى يتمكّن الجميع من تجاوز الشِّعارات الفضفاضة إلى وضْع برامج قابِلة للتطبيق. ولهذا السبب تحديدا، يُحذّر رفيق الحلواني من مُناقشة مبدإ اللامركزية بتفكير مركزي.
مستقبل السلطة في تونس ستكون غدا في الجهات، وليست في المركز رفيق الحلواني، رئيس منظمة “مراقبون”
إلى حد الآن، نظمت جمعية “مراقبون” أربع حلقات نقاش مع المواطنين توزعت محاورها كالتالي: اللامركزية والتعليم واللامركزية والصحة واللامركزية والتنمية واللامركزية وقوات الأمن. وفي السياق، يعتقد الحلواني أنه بدون معالجة هذه المسائل، سيكون من الصّعب تنظيم الإنتخابات البلدية والجهوية، وينصح بضرورة عدم الإستِعجال حتى تتوفّر شروط السلامة لعملية الإنتقال، لأن “مستقبل السلطة في تونس ستكون غدا في الجهات، وليست في المركز”. ومن هنا تأتي أهمية القانون البلدي الذي يجب أن يضمن مثل هذا الإنتقال النوْعي والهام والمصيري. فالقانون الإنتخابي القادم سيُحدِّد من وجهة نظره، مستقبل البلاد. لهذا، هناك مَن يستبعد تنظيم الإنتخابات البلدية قبل السنة القادمة 2016.
في انتظار الإتفاق على “التفاصيل”
يوجد اختلاف أيضا بين النشطاء والمواطنين وحتى الخبراء حول المقترح الأفضل لعملية تقسيم تونس إلى أقاليم. هناك عدّة احتمالات وسيناريوهات. فالمطلوب ليس إنجاز تقسيم جغرافي، ولكن يجب التوصّل إلى تقسيم وظائفي أيضا، حتى تتكامل الجُهود والإمكانات إلى جانب المقوِّمات الجغرافية والاقتصادية. وحتى يتحقّق ذلك، يجب في هذا السياق قطْع الطريق أمام النَّعرات القبَلية والجهوية. فمثلا هناك مَن يرى أن تكون مدينة القيروان عاصمة إقليم الساحل، ولكن هل سيقبل بذلك أهل الساحل الذين تمتّعوا تاريخيا بدور القيادة السياسية للبلاد.
ما هو سائد حاليا – في انتظار انطلاق نقاش وطني معمّق – هو نزوع البعض نحو الاعتماد على قدر واسع من البراغماتية، يتمثل في التوجه نحو الانطلاق من البلديات، التي سيزداد عددها وسيتم تعميمها على كامل التراب التونسي، بما في ذلك الأرياف. ولا يخفى حجم التحديات العملية والمالية التي ستترتّب عن ذلك.
في ضوء ما تقدم، يتبين أن التونسيين وهم يتهيَّـأون لممارسة ديمقراطيتهم المحلية، لا يكفي أن ينصص الدستور على ذلك، أو أن تتوفر الشروط اللوجستية لتنظيم الانتخابات القادمة، وإنما يجب قبل ذلك أن يتفقوا حول ماهية نظام اللامركزي، وأن يدركوا أنهم مُقبلون على تغيير جوهري في نظامهم السياسي والإجتماعي، وأن هذا الانتقال قد يضعهم أمام تحديات جدية إذا فشلوا في تجاوز مطبات خطيرة ستعترضهم في الطريق وتحتاج منهم لوعي جديد وثقافة سياسية ومدنية مختلفة عما تعودوا عليه منذ عقود طويلة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.