“حَقّ الإقالة أو إلغاء التفويض الشعبي كصمّام أمان للديمقراطية”
ما لا يعرفه الكثيرون عن سويسرا، هو تَمتُّع مواطني بعض الكانتونات فيها بالحق في إقالة حكومة محلية مُنتخبة وتجريد أفرادها من ولايتهم في حال كان أداؤهم مُخيباً لآمال الشعب، كما يشرح الباحث والخبير السياسي أوفي سيردولت.
وفي الواقع، فإن الحق في إلغاء تفويض مؤسسات كانتونية مُنتخبة من قبل المواطنين موجود في سويسرا منذ تأسيس الدولة الفدرالية الحديثة كما نعرفها اليوم في عام 1848.
وكنتيجة لتساؤل عدد من زملائه حول العالم حول هذه الظاهرة، نشر سيردولت الذي يعمل حاليا كباحث متعاون في مركز آراو لدراسات الديمقراطيةرابط خارجي مقالاً بعنوان “تاريخ مؤسسة خاملة: القواعد القانونية وممارسة حق الإقالة في سويسرا”.
swissinfo.ch : يحلم الناس في أي مكان آخر من العالم بالتوفر على أداة تتيح عزل الحكومات. مع ذلك، لا يتم اللجوء إلى استخدام هذه الوسيلة المُتاحة في سويسرا إلّا نادراً. لماذا برأيك؟
أوفي سيردولت: هذا لأنها تمثل الملاذ الأخير الذي يمكن اللجوء إليه عندما تفشل جميع آليات المراقبة الأخرى.
لقد بدأت عملية إقالة الهيئات الحاكمة من قبل المواطنين بين منتصف ونهاية القرن التاسع عشر، أوبعبارة أخرى، خلال فترة تشكيل الدولة الوطنية الحديثة، وعندما أصبحت سويسرا الدولة المُنَظَمة والمسالمة التي نعرفها اليوم.
وبعد استحداث هذا الحق، تبعته آليات أخرى، مثل الاستفتاء والمبادرة الشعبية، التي تسمح بإلغاء أحد القوانين أو إدخال تعديل دستوري، دون الحاجة إلى حَلّ الحكومة أو البرلمان. كما أضيفت العديد من الأدواة المختلفة في وقت لاحق بغية زيادة كفاءة النظام القضائي وإخضاع المؤسسات العامة للمساءلة.
واليوم، نجد أن حل القضايا المتعلقة بسوء اداء السياسيين أو فسادهم، يتم بشكل رئيسي من خلال الوسائل القانونية وضغوط وسائل الإعلام أو من خلال عمليات إعادة التنظيم الداخلي للهيئات.
swissinfo.ch : كيف يتم تطبيق حق الإقالة في سويسرا؟ وما عدد المرات التي تم فيها اللجوء إلى هذه الأداة؟
أوفي سيردولت: ان حق الإقالة ليس موجوداً على المستوى الفدرالي. ومن مجموع الكانتونات الـ 26 المكونة للكنفدرالية لا يوجد هذا الحق سوى في ستة كانتونات هي: برن، شافهاوزن، سولوتورن، أورغاو، أوري، وتتشينو. ويتيح الكانتونان الأخيران حق الإقالة على مستوى البلديات أيضاً.
ولا تتطلب عملية إقالة الحكومة أو البرلمان المحلي أو كليهما، سوى الحد الأدنى من توقيعات الناخبين – بين 2% و30% – وبدون تحديد أفراد معينين، وهو ما يميز هذا الإجراء عن ذلك المُتَّبَع في دول أخرى.
وفي حال صوتت غالبية الأصوات في صالح القرار، سوف تُحَلّ الهيئة العمومية المَعنية ويُعمَد إلى إنتخاب أعضاء جُدُد تستمر فترة ولايتهم لحين إطلاق الانتخابات العادية.
وحتى اليوم، لم تكن هناك سوى اثني عشر محاولة لتفعيل هذه الآلية. ومن بين هذه المحاولات، لم يصل الأمر إلى إجراء تصويت شعبي سوى في 4 حالات فقط. ولم يحظ هذا الإجراء بقبول الناخبين إلا مرة واحدة في عام 1862 في كانتون آرغاو.
كانت سويسرا واحدة من أوائل الدول التي اعترفت بالحق في الإقالة / إلغاء التفويض.
اليوم يمكن العثور على هذا الحق – وفقا لقواعد مختلفة – في دول أخرى عديدة، من ضمنها الولايات المتحدة، ألمانيا، بولندا، بيرو، كولومبيا، كوبا، الإكوادور، الأرجنتين وفنزويلا.
أما الكانتونات السويسرية الستة، التي توفر هذه الأداة للديمقراطية المباشرة فهي:
• برن، منذ عام 1846، توفرها للحكومة والبرلمان.
• سولوتورن، منذ عام 1869، توفرها للحكومة والبرلمان.
• شافهاوزن: منذ عام 1876 توفرها للحكومة والبرلمان.
• تيتشينو: منذ عام 1892، لحكومة الكانتون، كما توفرها منذ عام 2011 لحكومات البلديات أيضاً.
• أوري، منذ عام 1915 توفرها لجميع هيئات الكانتون والبلديات المنتخبة.
على صعيد آخر، ألغى كل من كانتون أرغاو (1852 -1980)، وبازل الريف (1863 – 1984) ولوسيرن (1975-2007) استخدام هذا الحق.
أما على المستوى الوطني، فلا يمكن إقالة الحكومة الفيدرالية أو انتخابها من قبل الشعب مباشرة.
وكانت العديد من المبادرات الشعبية قد دعت منذ عام 1900 – وبدون جدوى – إلى إمكانية انتخاب الحكومة الفيدرالية من قبل الشعب. وكانت المحاولة الأخيرة لحزب الشعب السويسري، الذي أطلق مبادرته بهذا الخصوص في عام 2013، والتي رفضها 76% من الناخبين.
أما أحدث الأمثلة للجوء إلى هذه الآلية فظهرت في كانتون تتشينو، والتي إستهدفت فيها عملية الإقالة حكومة الكانتون في عام 2008، تلتها محاولة أخرى على مستوى الحكومة المحلية لمدينة بلينزونا في عام 2011.
swissinfo.ch: يعود تصويت الإقالة الناجح الوحيد في سويسرا إذن إلى ما قبل 154عاماً، وكان يتعلَّق بموضوع معادٍ للسامية؟
أوفي سيردولت: هذا صحيح. في حينها، أراد برلمان مدينة آرغاو – الذي كان ليبراليا ويدين بالبروتستانتية – أن يمنح أراض لليهود بشكل قانوني ليتيح لهم الإقامة في أي مكان يشاؤون من الكانتون، حيث لم يكن مسموحاً لهم بالإستقرار إلّا في قريتين ريفيتين كاثوليكيتين فقيرتين في آرغاو هما “أندينغَن” Endingenو”لينغناو”Lengnau.
لكن عدداً من الزعماء الكاثوليك، إلى جانب عدد قليل من المجموعات البروتستانتية قاموا بإطلاق حركة إحتجاجية، كما هوجمت منازل اليهود. وفي وقت لاحق، تم اللجوء إلى حق الإقالة.
ومع أن الأمر لم يتطلب سوى تجميع 6000 توقيع، إلّا أنَّ الجهات المعارضة نجحت في الحصول على 9000 صوت في أقل من شهر واحد. وفي يوليو 1862، أيدت 63% من الأصوات إلغاء ولاية البرلمان، مما أدّى إلى استقالة الحكومة والدعوة لإجراء انتخابات جديدة.
swissinfo.ch.: لقد سمح الحق بالإقالة هنا بإختبار شعور عميق بالإنزعاج لدى الشعب من خلال استخدام عملية ديمقراطية ناشئة. أليس كذلك؟
أوفي سيردولت: من المهم أن نتذكر أن هذه الأداة قد استُخدِمَت عندما كانت ذكريات الصراعات المريرة بين الكاثوليك والبروتستانت ماتزال حديثة العهد. وعلى عكس ما كان عليه الوضع قبل عام 1848، أصبحت هذه القوى المُتعارضة تشتبك الآن على المستوى المؤسسي، وليس على أرض المعركة كما في العهود السابقة.
لقد عاشت سويسرا لفترة طويلة ثورات وتغييرات جذرية، وكان الوقت قد حان لتنظيم سويسرا الحديثة. وقد اقترح عدد قليل من الكانتونات صراحة إقامة الحق في الإقالة/إلغاء التفويض لتجنب قيام الثورات. وكان وَضع هذه الأداة مُبَرَّراً لتجنب إندلاع أعمال العُنف. وهنا، قد يكون اللجوء إلى حق إلغاء التفويض صمام أمان يعمل على توجيه الإستياء الشعبي عبر مؤسسة سياسية، وفي إطارعملية سياسية.
swissinfo.ch: هل بدأ استخدام حق الإقالة بالإختفاء ضمن السياق السويسري؟
أوفي سيردولت: التوجه التاريخي يبدو كذلك. واليوم نرى أن ستة كانتونات فقط من أصل الكانتونات التسعة التي اعتمدت هذا الحق في الأصل مازالت محتفظة به. وفي كانتون التتشينو، ومع ثلاث محاولات فاشلة لتجريد مسؤولين من مهامهم، وحيث تنخرط النخبة السياسية في نزاعات سياسية شرسة أحيانا، تم توسيع الآلية إلى مستوى البلديات أيضاً.
وكما يبدو، مازالت هناك حاجة للحفاظ على هذا العُرف السياسي، ولاسيما على المستوى المحلي. وقد بَيَّنَت بعض الفضائح الأخيرة مُطالبة بعض المواطنين بهذه الآلية في كانتونات لا تتوفر عليها.
swissinfo.ch: نظرا للصعوبات التي شهدها البرلمان الفدرالي في السنوات الأخيرة، بشأن إتفاق الأحزاب السياسية على تشكيل المجلس الفدرالي المكون من سبعة أعضاء، ألا يكون من المنطقي أن ينتخب المواطنون الحكومة مباشرة أو يقومون بإقالة أعضائها؟
أوفي سيردولت: كانت هناك بالفعل مبادرات شعبية تدعو إلى إنتخاب الحكومة من قبل المواطنين وليس البرلمان، لكنها لم تحظ بالنجاح.
أصبح بإمكان اليهود منذ القرن السابع عشر الإقامة والإستقرار بشكل دائم فقط في بلديتي “أندينغَن” و”اينغناو” في كانتون أرغاو.
في 1 يوليو 1862، أعلن الكانتون عن تحريره لليهود. بيد أن المعارضين لهذا القرار لجأوا إلى استخدام أداتين ديمقراطيتين للحيلولة دون حدوث هذا التغيير – أحدهما حق إقالة [البرلمان الذي أطلق القانون] ونسخة معقدة من استفتاء اختياري يناهض قانون التحرير – كانت تحظى بدعم مواطني آرغاو. وأدت نتيجة هذه الإجراءات إلى صرامة أقل في القيود لكن بدون المساواة في الحقوق.
بيد أن سويسرا، وعلى إثر مراجعة جزئية لدستور عام 1848، وافقت في 14 ديسمبر 1866، على حرية إستقرار اليهود أينما شاؤوا في جميع أنحاء الكنفدرالية (مع 53.2% من الأصوات لصالح هذا التغيير).
من الناحية النظرية، قد تكون مطالبة مبادرة شعبية بالحق في إلغاء ولاية الحكومة الفيدرالية أمراً ممكناً، حتى لو تم الحفاظ على انتخاب الحكومة من قبل البرلمان. مع ذلك، لا أعتقد أن مثل هذا الاقتراح سيحظى بالدعم عند التصويت عليه.
وكما تشير العديد من الدراسات، حدث تراجع في منسوب التوافق بين السكان والحكومة في الأعوام الأخيرة، من 80% إلى نحو 65%. لكن مستوى الاتفاق ما يزال مرتفعا نسبيا بالرغم من ذلك.
ومع سياستنا المبنية على الاسلوب التوافقي – والهادفة إلى احترام التنوع اللغوي والثقافي، فضلا عن الحفاظ على التوازن بين المصالح في المناطق الحضرية والريفية – لا أعرف إن كان من الصحيح ترك عملية انتخاب الحكومة أو إلغاء ولايتها بيد المواطنين.
وبرأيي، يمكن ان يؤدي مثل هذا الأمرإلى إثارة استقطاب كبير لدى العامة، أو يفتح الباب لخروقات ثقافية لا وجود لها اليوم. أنا عن نفسي أعارض ذلك، وأجد أن هذا من إختصاص البرلمان.
swissinfo.ch: لِمَ يحظى موضوع حق الإقالة في سويسرا بالإهتمام؟
أوفي سيردولت: لقد توجه إلينا عدد من الخبراء السياسيين في أماكن أخرى – مثل بيرو، حيث تم إلغاء تفويضات الآلاف من السلطات المُنتخبة – بالأسئلة عن كيفية ممارسة هذا الحق في سويسرا.
وعلى إثر ذلك، قمنا بنشر كتاب بعنوان The dose towards poison “الجرعة المؤدية للتسمّم”، حول الحالة في أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وسويسرا.
إن هذه القضية مهمة في دول أخرى، مثل الإكوادور، وفنزويلا. ونحن نقوم الآن وبالتعاون مع خبراء من بولندا واليابان بإعداد كتاب عن ممارسة حق الإقالة في تلك الدول.
swissinfo.ch: هل كان لهذه المطالب تأثير ما؟
أوفي سيردولت: في سويسرا، تستهدف عملية الإقالة هيئة تنفيذية بأكملها، والتي تضم، كقاعدة عامة، ما بين خمسة إلى سبعة أعضاء. لكن هناك الآن ميل أكبر للدعوة إلى آلية عزل فردي، خاصة في حالة الحكومات المحلية للكانتونات.
هذه كانت حالة جنيف. فقد أدت فضيحة أثرت على الثقة الممنوحة لأحد أعضاء الحكومة المحلية للكانتون إلى اعتماد هذا الكانتون في عام 2021 إصلاحًا دستوريًا ينص على إمكانية إقالة أحد الأعضاء السبعة في حكومته الجماعية اعتبارًا من يونيو 2023.
يجب أن يوافق ما لا يقل عن 40 عضوًا من أعضاء الهيئة التشريعية في الكانتون على الإقالة. وإذا ما وافق عليها أكثر من ثلثي أعضاء البرلمان، فسيتم عرض الاقتراح على استفتاء إلزامي. بمعنى آخر، فإن المجلس التشريعي يترك القرار النهائي للمواطنين من خلال صندوق الاقتراعرابط خارجي.
كما يتّجه كانتون أرغاو لاتخاذ قرار في شهر مايو 2022 بشأن اعتماد إقالة أحد أعضاء الحكومة المحلية للكانتون دون اللجوء إلى استخدام أدوات الديمقراطية المباشرة في الآلية المقترحةرابط خارجي.
(نُشرت هذه المقابلة باللغة العربية في عام 2016 وتم تحديثها في عام 2022).
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.