تقلد المناصب السياسية.. بين الهواية والإحتراف
السياسة كعمل إضافي: هذه هي الفكرة وراء العمل بنظام الميليشيات. فالآلاف من أصحاب الوظائف السياسية في سويسرا يمتهنون عملاً اعتيادياً ويمارسون السياسة في أوقات فراغهم أو كوظيفة إضافية. حيث يترك نظام الميليشيات الحدود بين السياسة والناخبين مفتوحة. إلا أن هذا النظام يصطدم بحدوده عند التطبيق. وفيما يلي انطلاقتنا نحو عام العمل بنظام الميليشيات السويسري.
إنه يريد أن يكون “رئيساً عادياً”، هكذا أعلن فرانسوا هولاند قبل انتخابه رئيساً لفرنسا عام 2012.
فبعد سنوات من حكم نيكولا ساركوزي الذي كان يعتبر متعالياً، فإن نية أولاند كان لها وقع جيد على الناخبين الفرنسيين.
وذلك بالرغم من أن أولاند كان شديد الشبه بمنافسه أكثر مما كان يعلن: فقد درس كلاهما في جامعة العلوم السياسية Sciences Po”رابط خارجي الفرنسية النخبوية، كما شارك كلاهما لعدة عقود في العمل السياسي وكانت معرفتهما بالاقتصاد الخاص طفيفة.
هذه المساهمة هي جزء من منصة DearDemocracy# تلك المنصة التي تخصصها swissinfo.ch لعرض ومناقشة شئون الديمقراطية المباشرة. هنا يعبر كتاب عاملون وغير عاملين بالمؤسسة عن آرائهم. ولا تتطابق مواقفهم بالضرورة مع تلك التي تتبناها swissinfo.ch
كذلك تشابهت مساراتهما السياسية: فبعد انتخابه هوت شعبية هولاند إلى القاع، مثلما حدث مع سابقه. وكما حدث مع ساركوزي فقد اضطر أولاند كذلك لاعتزال السياسة بعد انتهاء مدته.
فهل يطيح نفس هذا المصير بإيمانويل ماكرون كذلك؟ لقد تخرج الرئيس الحالي مثل سابقيه من جامعة نخبوية، وهي وسيلة تقليدية لتخريج الكوادر. وقد وجد نفسه في مواجهة “أصحاب السترات الصفراء“، وهي تلك الحركة الاحتجاجية الوطنية التي استمرت لوقت طويل في العقود الأخيرة.
عمل يتطلب الكثير من التنازلات
على أية حال فإن وصف “الرئيس العادي” ينطبق على ماركوس غايست، أكثر مما ينطبق على الرئيس الفرنسي السابق. فهو يعمل في النهار كمدير لدى السكك الحديدية السويسرية في برن. وبعد انتهاء دوام عمله يذهب إلى بيته، كي يدرس خطط تقسيم المناطق أو ليترأس اجتماعات البلدية.
ويشغل غايست منصب نائب رئيس بلدية غروس هوكستشتيتن بالقرن من برن. وهو بهذا يعد واحداً من آلاف السويسريين ـ وأقلية قليلة من السويسريات ـ الذين يشغلون منصباً سياسياً على المستوى المحلي إلى جانب وظيفتهم الأصلية. وفي الواقع، فقد كان غايست رئيساً لبلدية شلوسفيل. إلا أن هذه البلدية لم يعد لها وجود ـ حيث اندمجت في مطلع عام 2018 مع البلدية المجاورة لها والأكبر مساحةً.
عام العمل بنظام الميليشيات
يسعى الاتحاد العام للبلديات السويسريةرابط خارجي الذي يضم 2212 بلدية في الكنفدرالية من خلال “عام العمل بنظام الميليشيات 2019” إلى لفت انتباه الرأي العام إلى أزمة نظام الميليشيات السويسري. حيث ستقام من يناير إلى ديسمبر فعاليات في كافة أرجاء سويسرا. ومن المفترض أن تقدم المناقشات بين المتخصصين والجمهور بعض التحفيزات بهدف القيام بالإصلاحات ذات الضرورة الملحة.
تتضح أهمية هذه الإصلاحات في كون نظام الميليشيات يعتبر هو العامود الفقري لنموذج النجاح السويسري. ومن المزمع نشر العديد من المطبوعات. حيث سيتم في شهر مايو نشر كتاب “نظام الميليشيات في سويسرا”. وتمثل مؤسسة swissinfo.ch الشريك الإعلامي في عام الميليشيات السويسري وسوف تقوم بنشر التقارير الصحفية حول هذا الموضوع بصورة منتظمة.
إن الجمع بين الوظيفة والسياسة المحلية الموازية يمثل عصب نظام الميليشيات السويسري. وهذا النظام يعتبر هو الأساس الذي تقوم عليه الممارسة السياسة في سويسرا، وهذا ليس فقط على المستوى المحلي، بل الوطني كذلك. على الأقل نظرياً. ذلك لأنه عند مدخل وادي إيمنتال تتجلى مشكلات وحدود نظام الميليشيات الحالي بقوة. ففي بلدية شلوسفيل تزايدت الصعوبات في إيجاد عدد كاف من الأشخاص لشغل المناصب في البلدية، على حد قول السيد غايست. إلا أن هذه البلدية الصغيرة لم تكن تمثل حالة فردية أبداً. وقد سئل غايست قبل عشر سنوات، ما إذا كان يرغب في الترشح لشغل مقعد في مجلس البلدية، وكان قد وافق على ذلك.
ولكن ليس لدى الكثيرين الوقت والرغبة في أن يقضوا أمسياتهم بعد انتهاء دوامهم في الجدل حول الاحتجاجات ضد تراخيص البناء أو اللائحات المدرسية.
ولقد كان هذا أحد أسباب اندماج القرية ذات الستمائة نسمة والقصر الجميل، مع البلدية المجاورة والأكبر مساحةً. وبسبب هذا الإندماج، تقلص عدد البلديات في سويسرا من 3100 بلدية في عام 1950، ليصل إلى حوالي 2212 حاليا (إحصاء مطلع يناير 2019). لذلك، قرر اتحاد البلديات السويسرية إعلان عام 2019 كعام للعمل بنظام الميليشيات السويسري.
مسؤولية موزعة على عاتق الكثيرين
كان الفيلسوف الإغريقي أفلاطون يحلم بدولة يحكمها الفلاسفة. أي أن هؤلاء الذين قضوا حياتهم كلها في معرفة ما هو الحق والخير، هم من لهم القدرة على تسيير مصير تلك الدولة، هكذا كانت فكرته. ولم يكن لأفلاطون أن يسعد بنظام الميليشيات السويسري هذا، والذي يضرب بحلمه المثالي عرض الحائط، فهنا لا يتخذ بعض من أباطرة الفلسفة المختارين قرارات هامة بشأن القوانين، بل إنهم أناس عاديون من شتى الطبقات والخلفيات.
إن الفكرة التي تقف خلف نظام الميليشات تشابه تلك التي تقوم عليها الديمقراطية المباشرة: فالسلطة تتوزع على عاتق الكثيرين.
كما أن هؤلاء الأشخاص المنخرطين في السياسة، عليهم أن يظلوا مترسخين في وظيفتهم الأساسية. وهذا من شأنه الحيلولة دون نشأة “طبقة سياسية”، كما يمثلها رؤساء فرنسا الذين أشرنا إليهم في البداية.
بل على العكس: فيجب أن تظل الحدود بين الساسة والجماهير مفتوحة. إن الفكرة التي تقف وراء نظام الميليشيات تشابه تلك التي يقوم عليها نظام الميليشيات: حيث تتوزع السلطة على عاتق الكثيرين، ولا يحمل المسئولية عدد قليل من المتولين لتلك المهام، بل يتم نقل هذه المسؤولية لعدد كبير من المواطنين المنفردين.
إلا أن الكثير من البلديات أصبحت مهددة بالاختفاء من الوجود، ذلك لإنها مثل بلدية شلوسفيل لا تكاد تجد عدداً كافياً من المتطوعين، الذين لديهم استعداد لتولي مسؤولية وظيفة تخدم الصالح العام. وفي آخر استطلاع أجري بين كتاب البلديات، والذي يتم بانتظام في سويسرا، صرح نصف من استطلعت آرائهم بأن شغل وظائف البلدية يعد أمراً صعباً، بل غاية في الصعوبة.
الموت المأساوي للبلديات
حينما تأسست سويسرا عام 1848 كان عدد بلدياتها يبلغ 3205 بلدية. وقد ظل هذا العدد حتى عام 1990 دون تغيير يذكر.
ولكن في مطلع عام 2019، لم يعد هناك سوى 2212 بلدية. ففي خلال ما يقل عن ثلاثين عاماً اختفت حوالي ثمانمائة بلدية، أي ما يمثل أكثر من الربع من الوجود.
لقد جاء هذا التراجع الهائل نتيجة لاندماج البلديات. فالترويج لمثل هذه الاندماجات إنما يكون للتغلب على مشكلات تتعلق بالأمور المالية أو بالموارد البشرية على المستوى المحلي.
إلا أن اندماج البلديات له ثمن فادح، مثلما تبين الدراسات الراهنة. ومنها: أن إنحسار المشاركة السياسية، المستمر منذ ثلاثين عاماً، يتزايد الآن بقوة بسبب هذا الاندماج.
ويرجع أحد أسباب هذا الوضع إلى تراجع جاذبية السياسة البلدية: فالكثير ممن تقلدوا وظائف في البلديات يشكون من أن البلديات أصبحت مجرد هيئات تنفيذية لقرارات الكانتونات والقرارات الفدرالية. بينما الهيئات المحلية في البلديات لم يعد أمامها مجال يذكر لرسم سياستها الخاصة.
لا عجب إذن في أن الاهتمام بالمشاركة هنا، أصبح محدوداً للغاية لدى الكثيرين، خاصة أن العائد يكون غالباً غاية في التواضع. كما أن المواطنين لا يتوانون في توجيه انتقادات لاذعة، بل وحتى سباب لهؤلاء الساسة المحليين، في حالة الاختلاف حول بعض الموضوعات.
ساسة محترفون
إلا أن مبدأ الميليشيات لا يواجه تحديات فقط في البلديات، بل حتى على مستوى الكانتونات والمستوى الفدرالي. فتحت قبة البرلمان الفدرالي بغرفتيه العليا (مجلس الشيوخ) والسفلى (مجلس النواب)، أصبح نظام الميليشيات منذ زمن طويل مجرد أسطورة.
تحت قبة البرلمان الفدرالي بغرفتيه العليا (مجلس الشيوخ) والسفلى (مجلس النواب)، أصبح نظام الميليشيات منذ زمن طويل مجرد أسطورة
فمن يريد شغل مقعد في البرلمان الفدرالي السويسري أو يريد أن يؤدي وظيفته فيه بضمير، ويقوم بدراسة الملفات بدقة ويشارك بفاعلية في اللجان، فإنه لن يستطيع أن يوفق ببساطة بين هذا العمل السياسي وبين أي وظيفة عادية. ويرجع أحد أسباب هذا العبء الوظيفي إلى تزايد كثافة القوانين العالمية، والتي تؤثر على السياسة الوطنية وهذا بسبب العولمة.
فضلاً عن ذلك فقد تزايد حجم الإدارة وبذلك أيضاً نشاطها. وتقع المسؤولية في هذا على الساسة أنفسهم: فإعداد طلبات الإحاطة البرلمانية ترتفع من عام لآخر ـ بذلك يجلب ساسة نظام الميليشيات لأنفسهم أعمالاً جديدة على الدوام. وقد أسفر استطلاع لسبر آراء أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب مؤخراً، عن استثمار هؤلاء النواب لحوالي ثمانين بالمائة من وقت عملهم في السياسة.
المرونة كسمة للإختيار
أما من لايزال يمارس عملاً بجانب السياسة، فإنه يقوم عادة بذلك من خلال وظيفة ذات أوقات عمل مرنة. إذ نجد أن المحامين ورجال الأعمال ممثلون في مجلس الشيوخ والنواب أكثر مما ينبغي. بينما يعمل آخرون في أحد الاتحادات أو الأحزاب أو إحدى النقابات، بحيث يربطون وظيفتهم السياسية بمهنتهم الأصلية.
ولا يجب أن يكون ذلك أمراً سيئاً في حد ذاته. حيث أن تعقد المسائل السياسية حالياً قد يجعل أنه لا مناص من استثمار البرلمانيين لوقت عملهم كله فعلياً في السياسة.
إلا أن الإحتراف له ثمنه أيضاً. فالساسة المحترفون يتعاملون في حياتهم اليومية بصفة متزايدة مع ساسة آخرين، إذ يتعاونون معهم في وضع القوانين. لكن على الجانب الآخر نجد أن صلاتهم مع هؤلاء الأشخاص الذين يشعرون بآثار تلك القوانين في حياتهم اليومية (أي المواطنين)، تكون أقل بكثير. فضلاً عن ذلك فإن الساسة أنفسهم يكونون أقل عرضة لعواقب عملهم السياسي. ونتيجة لذلك أصبحت الحدود الفاصلة بين الساسة والناخبين ـ والتي هي مفتوحة نظرياً ـ أكثر حدة.
سلسلة “صندوق الأدوات”
تعتبر سويسرا مزيجاً من الديمقراطية المباشرة وغير المباشرة. أما الأخيرة فقد توسعت فيها سويسرا، كما لم تفعل أي دولة أخرى. وهذا يتجلى على سبيل المثال في الاقتراعات الفدرالية والتي بلغت حتى الآن 620 اقتراعاً، وهو “رقم قياسي عالمي”.
في إحدى السلاسل التي ننشرها على منصة DearDemocracy# يلقي لوكاس لويتسنغر الضوء على الأدوات والآليات والعمليات الأهم والأكثر تجذراً في الديمقراطية المباشرة السيوسرية.
درس الكاتب العلوم السياسية في جامعة زيورخ. وهو يعمل اليوم كصحفي ويشارك في إدارة المدونة السياسية “Napoleon’s Nightmareرابط خارجي” أو “كابوس نابوليون”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.