سويسرا والولايات المتحدة: شقيقتان لكن في الماضي البعيد
في الخامس من نوفمبر 2024، ستنتخب الولايات المتحدة الأمريكية رئيسًا جديدًا أو ربما رئيسة لأوّل مرة. ويصف الطرفان المتنافسان هذه الانتخابات الرئاسية بالمصيرية. وفي الواقع، يمكن أن يكون للنتيجة تأثير دائم على البلاد. وهذا على النقيض تمامًا من الحكومة السويسرية، التي يتعين عليها أن تحسب حسابًا لكثير من قراراتها التي رفضها الشعب في صناديق الاقتراع.
سويسرا بلد صغير محايد يقع في وسط أوروبا، ويتجه النظام السياسي فيه بقوة نحو تحقيق التوازن بين جميع المصالح. وتشكل الأحزاب الخمسة الكبرى معاً الحكومة المكونة من سبعة أعضاء. أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فيتنافس حزبان على الرئاسة والسلطة.
للوهلة الأولى، وحتى للوهلة الثانية، يبدو الأمر سخيفًا تمامًا: الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا ”جمهوريتان شقيقتان“.لكنهما يختلفان في العديد من النواحي.
في الخامس من نوفمبر 2024، سيصوت الأمريكيون والأمريكيات لانتخاب رئيس جديد أو – ولأول مرة – رئيسة جديدة.
وقد أعلنت كامالا هاريس وكذلك دونالد ترامب أن هذه الانتخابات ستكون انتخابات مصيرية لمستقبل النظام السياسي والديمقراطية في البلاد.
لقد ساهمت كل من سويسرا والولايات المتحدة الأمريكية في تشكيل كل واحدة منهما الأخرى، عبر فترات تاريخية عديدة.
في هذا الوقت، قمنا بتحليل التاريخ المشترك للبلدين، ونظرنا في كيفية استمرار تأثير الماضي الأخوي في الحاضر.
يقول المواطن الأمريكي طارق دينيسون في مقابلة مع سويس إنفو (SWI swissinfo.ch): ”ربما يكون بلد يبلغ عدد سكانه 8 ملايين نسمة أقل استقطاباً من بلد يبلغ عدد سكانه 330 مليون نسمة“. وينتمي دينيسون إلى الحزب الجمهوري القوي، ويعيش في سويسرا.
تمتد الولايات المتحدة الأمريكية من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي للقارة. أما سويسرا، بمساحتها البالغة 41300 كيلومتر مربع، لا تزيد عن مساحة ولايتي ماساتشوستس وكونيتيكت الأمريكيتين الصغيرتين مجتمعتين. فلماذا المقارنة بين هذين البلدين إذن ؟
المزيد
ترامب وبايدن والكراهية: كيف يعيش الأفراد من أصل أمريكيّ في سويسرا حال الاستقطاب؟
تتعدّد مظاهر الاختلاف بين سويسرا والولايات المتحدة، لكنهما تتقاسمان جذورا مشتركة في الفكر الليبرالي الذي رأى النور في عصر التنوير. كما يشهد تاريخهما المشترك على تبادل التأثّر والتأثير على مر العصور.
أفكار التنوير المتشابهة
وقد أثّر تشابه مفهومي الدولة والمجتمع، في تأسيس الدولتيْن. فقد تركت النخبة المفكّرة السويسريّة، مثل جان جاك -بورلاماكي من جنيف، بصمتها في تشكيل الأفكار المؤسّسة للدستور الأمريكي.
المزيد
سويسرا والولايات المتّحدة: “جمهوريتان شقيقتان” واتحاد أبدي للصداقة والوفاء
كما احتذت سويسرا حذو النظام البرلماني الأمريكيّ، حين نشأت الدولة الفدرالية عام 1848. وقد خلّفت وفاة أبراهام لينكولن عام 1864، حزنا لدى عشرات الآلاف في سويسرا، وتم تقديم التعازي للولايات المتحدة الأمريكية.
واستمر تأثير هذه الأفكار التاريخية عبر العصور حتى يومنا هذا. فتعود جذور التشابه بين سويسرا، والولايات المتّحدة في الشغف بالأسلحة، إلى فكرة ضرورة تمكين الرجال حصرا آنذاك من الدفاع عن أنفسهم.
المزيد
كيف توائم سويسرا بين الشغف بالأسلحة وضمان الأمن؟
الهجرة السويسرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية
يتجاوز التاريخ المشترك بين البلديْن مجرد الأفكار. فقد شهد القرنان الماضيان هجرة حوالي 460 ألف شخص من سويسرا، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ظاهرة تجاوز تأثيرها الأفراد إلى التراث والثقافة، ما أثّر كثيرا في الوطن الجديد.
ترك بعض هؤلاء بصماتهم.نّ في التاريخ الأمريكي، مثل ألبرت غالاتان، وزير الخزانة الأمريكي الأطول بقاءً في منصبه (من عام 1801 حتى عام 1814)، وهو في الأصل مهاجر من جنيف. وكذلك شأن إليزابيث كوبلر روس، الطبيبة النفسية والخبيرة الروحانية لاحقاً، التي هاجرت عام 1958 من زيورخ، وابتكرت في الولايات المتحدة الأمريكية ما يعرف بنموذج كوبلر روس، أو مراحل الحزن الخمس (في تعامل الإنسان مع المصائب مثل الموت).
شريكتان في الديمقراطية المباشرة
وانضمّ إلى الزمرة الباحثة عن مستقبل أفضل في “العالم الجديد”، كارل بوركلي، عالم الاجتماع، والرائد النقابي السويسري، في منتصف القرن التاسع عشر.
المزيد
كارل بُركلي… السويسري الذي علّم الديمقراطيّةَ المباشرة للولايات المتّحدة الأمريكيّة
حقق كتاب بُركلي الذي طرح من خلاله رؤيته إلى الديمقراطية المباشرة، نجاحا كبيرا في الولايات المتحدة، ما ساهم في نشأة الحراك الذي أدى إلى تبني العديد من الولايات الأمريكية لآليتيْ المبادرات والاستفتاءات عام 1900.
وتعد الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، إلى جانب سويسرا، من أكثر الدول ممارسة للاقتراعات الشعبية، رغم عدم تنظيمها على المستوى الوطني. وقد تناول الخبير السياسيّ جوليان جاكيه، أصيل جنيف، بالبحث هذا الموضوع في كتابه “قوة الشعب السياسية في جمهوريتيّ الديمقراطية المباشرة الشقيقتين”.
وتوصل جاكيه إلى وجود تلاعب في كثير من الاقتراعات الشعبيّة التي تجريها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، عبر تعديل الدوائر الانتخابية، بما يضمن فوز أحد الحزبيْن. ويعرف ذلك بـما يُطلق عليه “الجيريمانديرية”، مع وجود اختلافات أيديولوجية بين طرفي الانتخابات.
كما يشرح جاكيه في حديثه مع سويس إنفو، كيفية مواجهة الاستقطاب المتنامي عبر اعتماد نظام انتخابي جديد. فبالتوازي مع الانتخابات الرئاسية، تقترع ثلاث ولايات حول اعتماد هذا النظام الانتخابي؛ بينما حصل ذلك فعلا في ثلاث ولايات أخرى.
المزيد
ما هو التأثير الذي قد تخلّفه الولايات المتحدة على السياسة السويسرية في الشرق الأوسط؟
ما تبقى من تقارب بين البلديْن؟
تأسست العلاقات بين سويسرا المحايدة، والولايات المتحدة الأمريكية، متّبعتيْ سياسة عدم التدخل، على مفاهيم سياسية مشتركةرابط خارجي. فقد ساهمت الولايات المتحدة فعلا في وقت من الأوقات في بروز سويسرا، أو بالأحرى جنيف، على الساحة الدولية.
المزيد
كيف ساعدت الولايات المتحدة في نشأة جنيف الدولية؟
لكن سرعان ما تغيّر هذا الوضع. فرغم تدخّل سويسرا جزئيا، كوسيط لصالح الولايات المتحدة، مثلما حصل عند تفويضها للتحادث مع إيران مثلا، اتّسمت التطورات الحاسمة في السياسة الخارجية خلال القرن الماضي، بالصراع. فطالبت الولايات المتحدة سويسرا عام 1941، بفرض عقوبات على ألمانيا النازية.
وبعد مرور حوالي 50 عاماً، تفجرت فضيحة ما عُرف بالأصول المالية النائمة (الخاصة بضحايا المحرقة).
المزيد
خمسة أحداث رئيسية أثّرت في العلاقات السويسرية الأمريكية المعاصرة
يمثّل الحنين إلى الولايات المتحدة الأمريكية اليوم بعضا من الثقافة السويسرية الشعبية. فبينما تحتفل بعض البلديات الأمريكية ذات التاريخ السويسري العريق بالكرنفال التقليدي، يتجمّع حوالي 45 ألف شخص يعشق الغرب الأميركي، في مرتفعات برنر أوبرلاند السويسرية لحضور “مهرجان سائقي الشاحنات وموسيقى الريف الأمريكي”.
المزيد
”الأمن هنا والحرية هناك“… انطباعات من مهرجان الشاحنات الأمريكي في سويسرا
وتواجه الديمقراطيّة حاليا، في البلدين تحديات تفرضها العولمة الرقمية: فتنتشر فيديوهات كثيرة، وأخبار مزيّفة قُبَيْل الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في الولايات المتحدة في شهر نوفمبر المقبل، مما اضطر20 ولاية أمريكية إلى اتخاذ بعض الإجراءات. كما حذرت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية، من استخدام الذكاء الصناعي لتقويضها. وعلى الجانب الآخر، تتعرض سويسرا أيضا، إلى خطر التزييف باستخدام الذكاء الاصطناعي، خاصةً في ظل كثرة الاقتراعات الشعبية.
المزيد
وسائل التواصل الاجتماعي ونشر التضليل : الوضع في سويسرا والولايات المتحدة
لقد أثّر البلدان في بعضهما البعض في الماضي. هل تعتقد أن بإمكانهما الاستمرار في التعلم من بعضهما البعض؟ شارك في نقاشنا:
المزيد
تحرير: دافيد أوغستير
ترجمة: هالة فرّاج
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"