ربيع فلسطيني بارد!
بعد وساطة مصرية، حصل التوافق بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء المكلف محمود عباس على تشكيل الحكومة.
وفي انتظار كشف اللجنة الرباعية عما يُسمّـى “خارطة الطريق”، تنتظر أبو مازن تحديّات جسيمة.
سماء الفلسطينيين ملبدة لا يطيقها نوار نيسان ولا تسمح بانقشاع المشهد عن تداعيات الأزمة التي دفعت حكومة رئيس الوزراء المكلف، محمود عباس أبو مازن، إلى ميقات اللحظة الأخيرة قبل انبعاث الدخان الأبيض.
الدخان الأبيض ذاته، الذي ساهم في إطلاقه مسؤول الأمن الأول في مصر، اللواء عمر سليمان المسلح بتهديدات الإدارة الأمريكية وضغوط دولية، لم ينجل عن موقف واضح واحد، سوى إعلان رسمي بانتهاء المرحلة الأولى من دخول أول حكومة رئيس وزراء فلسطيني حلبة اللعبة الدامية المفتوحة: القضية الفلسطينية.
خلافات الرئيس الفلسطيني ورئيس وزرائه، التي ضج بها أسبوع حافل بالمشاورات والاتصالات والضغوط الدولية، تحمل دلالات عديدة عن الحالة الفلسطينية الراهنة، لكنها أيضا حبلى بما قد تُـسفر عنه تحولات الحقيقة الساكنة.
الموقف العنيد الذي اتخذه كل من عرفات وأبو مازن، أعطى الأزمة مذاقا مألوفا لما تقدمه الأزمة الفلسطينية عموما، لاسيما تطورات القضية التي انطلقت مع شرارة الانتفاضة قبل نحو ثلاثة أعوام.
ها هي الأعوام الثلاثة تمضي قدما، ومؤشر القوة “العرفاتية” في انحدار، وليست جولة الحكومة الفلسطينية بين الردهات الضيقة لمكتب عرفات المدمر ومنزل أبو مازن الأنيق، حيث اعتكف الأخير غضبا حتى لحظة الوساطة المصرية الأخيرة، سوى مهوى” جديد في عملية إضعاف وتحييد الزعيم الفلسطيني، الذي لا تعرف أجيال الفلسطينيين الجديدة سواه.
غير أن الزعيم المخضرم والسياسي المحنك أدار معركة لا بأس بها، خصوصا أن عرفات لم يكن صاحب “الفتكة البكر”، بل أنه تمرس في الدفاع داخل حصاره مدركا، حسب مقربين، أن ما يجري ليس سوى امتداد للحرب المعلنة على سلطته والموقف الفلسطيني المؤيد للانتفاضة عموما.
قائمة تستفز الجميع
بعد مشاورات دامت أكثر من أسبوعين على تكليفه، خرج أبو مازن والدائرة الضيقة المحيطة به باستنتاج مفاده أن التغيير الذي يجب أن تقدمه حكومة أول رئيس وزراء فلسطيني، يجب أن يتعلق بالصلاحيات والقدرة على اتخاذ القرار، أو بمعنى آخر كانت القائمة عبارة عن مناورة مناكفة، هدفها جس النبض ومعرفة نقاط القوة والضعف قبل الانتقال إلى مرحلة الحصول على ثقة المجلس التشريعي.
على هذا النحو، طعمت قائمة الوزارات العديدة بأسماء لا يمكن لها إلا أن تبعث عرفات واقفا على أصابع قدميه مستفزا متطلعا إلى مواجهة. فالأسماء الرئيسية تحمل السير الذاتية لشخصيات لم تخف أبدا موقفها إزاء سياسة عرفات خلال الانتفاضة، بل وأكثر، سياسته بشكل عام وإدارته للقضية الفلسطينية.
ضمت القائمة على وجه التحديد، إضافة إلى أبو مازن، أسماء نبيل عمرو، وحكمت زيد، وحمدان عاشور، وحكم بلعاوي، ونصر يوسف، وهم جميعا الشخصيات الأساسية التي التقت في اجتماعات في رام الله في شهر سبتمبر الماضي ودعت إلى تعيين قائم بأعمال الرئاسة الفلسطينية، بينما كانت النيران الإسرائيلية وجرافات جيش ارييل شارون تدك مقر عرفات.
“كانت تشكيلة اشتباك”، هكذا وصف أحد قياديي حركة فتح من الجيل الثاني التشكيلة التي قدمها أبو مازن لرئيسه ياسر عرفات قبل نحو أسبوعين. أبو عمار، كما روى شهود، لم يملك نفسه إلا وألقى بالقائمة تحت قدميه وولج إلى غرفة نومه الضيقة.
ضمت القائمة بشكل خاص، العقيد محمد دحلان، رئيس جهاز الأمن الوقائي السابق في قطاع غزة، وأحد المقربين السابقين من عرفات حتى انفراط العقد بينهما صيف العام الماضي، عندما رفض الرئيس الفلسطيني منح القيادي الشاب اللامع والطموح منصب مستشار الأمن الوقائي الفلسطيني.
حكومة من؟
ظهر دحلان هذه المرة وبعد فترة صمت نسبية على لائحة أبو مازن كوزير دولة لشؤون الأمن الداخلي، بينما احتفظ رئيس الوزراء المكلف لنفسه بمنصب وزير الداخلية الحساس المسؤول عن ملف الأمن في الأراضي الفلسطينية.
لم تحرك تلك القائمة سوى مخاوف لدى عرفات، ولم تترك مجالا أمام الزعيم الفلسطيني الوحيد، إلا أن يتحسس ما بقي لديه من مواطن الضعف والقوة: ها هي فكرة رئيس الوزراء تتحول إلى حقيقة، بعد أن تخلى عن سيطرة المال عندما وافق على تولي الوزير المستقل سلام فياض منصب وزارة المالية، وبتولي دحلان شؤون الأمن ومعه أبو مازن في الداخلية وشؤون الأمن، لن يبقى للرجل القوي من أدوات كافية لممارسة نفوذه.
يحذر عدد من المراقبين أن يُـطلَـق على التشكيلة الجديدة لرئيس الوزراء المكلف، بأنها حكومة دحلان، مذكرين بالضغط المتواصل والمكثف الذي مارسه الأمريكيون والأوروبيون والمصريون من أجل أن يتولى العقيد الشاب ملف الأمن.
تتعلق الأجندة الرئيسية لحكومة أبو مازن باستعادة الأمن تحت سيطرة الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية من أجل الحصول على الاستحقاق الأمريكي في خارطة الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005، والشرط الأساسي لذلك هو تحييد المقاومة بمفهومها الإسلامي والوطني.
وتفيد المعلومات أن دحلان قطع شوطا طويلا في وضع خطة أمنية يكون هدفها الأساسي استعادة زمام الأمن تحت سيطرة فلسطينية. وعلى هذا الأساس، هناك أيضا دورات مكثفة يقوم بها ضباط أجانب، لاسيما أمريكيون، بإعطائها لضباط وكوادر أمنية فلسطينية جديدة لتولي المهمة.
كان الرئيس ياسر عرفات يدرك أن التراكمات تقود إلى طريق واحد، هدفه تقديم شكل جديد من القيادة الفلسطينية غير مرتبط بالقيادة التقليدية. ولهذا، هزمت اللجنة المركزية في اختبارها الأخير في معركة وزارة أبو مازن، التي لا يتوقع أن تدوم طويلا قبل أن تمهد إلى حكومة وقيادة أكثر شبابا.
ربما تكون الأزمة انتهت، بيد أن المصاعب ما لبثت تتوالى، وألغام الدرب الموحشة لا تشعر بها سوى الأقدام العارفة والعيون النافذة بتعقيدات المسألة الفلسطينية التي لا تنفك تغدو وتجيء على كل شاكلة وسبيل.
هشام عبد الله – رام الله
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.