رحـيلُ جون قـرنق المفاجئ وتحديـاتـُه
من مفارقات القدر أن يرحل الزعيم الجنوبي القوي جون قرنق بعد فترة وجيزة من الدخول في عملية تطبيق اتفاقات نيفاشا للسلام، وقبل أيام معدودة من إعلان أول حكومة سودانية تشارك فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان.
ومن تلك المفارقات أيضا أن تخلفه شخصية تتمحور خبرتها على الشؤون العسكرية والميدانية وتعرف إعلاميا بالميل إلى انفصال الجنوب.
خلف الزعيم الجنوبي القوي جون قرنق الذي رحل بعد فترة وجيزة من إعادة هيكلة الدولة السودانية، هو سلفا كير الذي تتمحور خبرته على الشؤون العسكرية والميدانية، والذي يعرف إعلاميا بالميل إلى انفصال الجنوب عن الشمال، والتركيز على شؤونه التنموية بدلا من السير في عملية سياسية معقّـدة، وتستهلك الكثير من الوقت بلا فائدة مباشرة على أهل الجنوب، حسب رؤيته الشائعة.
هذه المفارقة القدرية البحتة ترجّـح نظريا حدوث الكثير من الصعوبات أمام تطبيق اتفاقات نيفاشا، التي هي مليئة بالتفاصيل والموازنات والترتيبات والجداول الزمنية في كل المجالات تقريبا، وتحتاج مزيجا من الثقة بين قيادات الشمال والجنوب، والتنازلات المتبادلة، والقدرة العالية للتوصل إلى حلول وسط، إضافة إلى خطة عمل مشتركة لجذب تأييد المواطنين في ربوع البلاد المختلفة لمبدإ السودان الواحد لكل مواطنيه، حسب ما تنص الاتفاقيات نفسها.
ونظرا لشخصية قرنق القيادية وتاريخه في تجسيد هموم وتطلعات الجنوبيين نحو تحسين أوضاعهم وفرصهم في المشاركة في حكم السودان، كان يُـنتظر منه أن يقوم بدور بارز لتجسيد مشروعه الفكري في بناء سودان جديد.
وبالرغم من الهواجس المشروعة التي قد تنتاب قيادات سياسية شمالية، سواء حكومية أو غير حكومية، إزاء نوايا قرنق الحقيقية بالنسبة لوحدة السودان نفسها، فقد اتفق على أنه المؤهل في ظل ظروف الجنوب أن يقوم بدور إيجابى في التمسك بالاتفاقيات باعتبارها الأمل الوحيد الملموس لإحداث تغييرات هيكلية في بنية السودان ككل. أما الجنوبيون أنفسهم، فقد رأوا فيه منقذهم من أوضاع مُـزرية، تاريخيا وواقعيا.
ولذلك، فإن غياب قرنق المفاجئ يجعل أحد أسوأ المشاهد الممكنة، هو أن يصبح الانفصال حقيقة حتمية حتى قبل أن تأخذ عملية السلام مجراها، أما أفضل تلك المشاهد، فهو أن يتعاون القائد الجديد للحركة مع حكومة الخرطوم تعاونا صادقا من أجل بناء سودان جديد، حسب الشعار الذي كان يفضله الراحل جون قرنق.
مشاهد كثيرة
والحق، أن المشاهد الممكنة بين الحدّين الأفضل والأسوأ، كثيرة جدا، ويتوقف البعض منها، ليس على إرادة الأطراف الموقعة على اتفاقيات نيفاشا، بقدر ما يتوقف على حركة الناس العفوية، سواء في الجنوب أو في الشمال، والتي قد تتطور في اتجاهات يصعب السيطرة عليها ما لم تُعالج بالحزم والحكمة معا، جنبا إلى جنب التعاون الصادق بين أطراف اتفاقيات نيفاشا.
وتبدو مؤشرات هذه المشاهد العفوية مُحمّـلة بنذر الخطر. فأحداث العنف التي انطلقت في العاصمة الخرطوم، وبدأها أبناء الجنوب الذين يقدّرون بين 3 و4 مليون جنوبي يعيشون في مدن الصفيح المحيطة بالعاصمة، دلت في جانب منها على تراكم نفسي جماعي هائل مُحمّـل بمشاعر الغُـبن والظلم التاريخي من الشمال، وذلك بالرغم من العيش فيه.
ودلت أيضا على أن هذه الجموع الجنوبية رأت في مجرد رحيل القائد الجنوبى الرمز جون قرنق نوعا من فقدان الأمل في تحسين أوضاعهم، مما استدعى رغبة جماعية عنيفة للتعبير عن رفض هذا الأمر.
ويطرح الأمر على هذا النحو معضلة أكبر كثيرا من مجرّد السيطرة الأمنية على حركة هذه الجموع، سواء كانت جنوبية أو شمالية ردت على عنف الجنوبيين بعنف مضاد، وهي معضلة إعادة إحياء الأمل في نفوسهم عبر التمسك بكل شفافية ممكنة باتفاقيات نيفاشا، والاستمرار في إجراءاتها العملية. وهي عملية تتطلب تعاونا وثيقا بين الحكومة وبين القيادة الجديدة للحركة الشعبية، ممثلة في سليفا كير.
وربما يتغير الوضع نسبيا بعد أن يقسم الأخير قسم النائب الأول لرئيس الجمهورية، وبما يدل على أن الاتفاقيات ما زالت مفعمة بالحياة، وأن تطبيقها لن يتأثر أحد مهندسيها والموقعين عليها.
نحو سياسة تعبوية جديدة
إن استمرار إحياء الأمل لدى الجنوبيين لا يقل أهمية عن إحياء الأمل نفسه لدى الشماليين الذين يعيشون في الجنوب، والذين تعرضوا بدورهم لمشاعر غضب وأعمال عنف غير مبررة، ودفعت الكثيرين منهم إلى مغادرة بيوتهم ومناطقهم التي يعيشون فيها منذ فترة طويلة، وتلك بدورها اختبار مهمّ لقُـدرة الحركة الشعبية المُـسيطرة فعليا على الأوضاع في الجنوب لإظهار مدى تماسكها وإرادتها في ضبط حركة مناصريها.
التحركات العفوية المضادة لمعنى التعايش السلمي بين الشماليين والجنوبيين تطرح بدورها قضية التعايش والتعبئة الشعبية الخاطئة التي مورست في سنوات سابقة، وبما يتطلب تطبيق سياسة إعلامية جديدة لكل أطراف اتفاقيات نيفاشا، تؤكد على هذا المعنى، وإلا كيف يمكن السّـير لمدة ست سنوات في حكم مشترك، وكل طرف يعبئ مناصريه ومواطنيه ضد الطرف الآخر؟
وحدة الحركة الشعبية..موضعُ تساؤل
ثمة بُـعد آخر بدأ يطرح نفسه بكل قوة، يتعلّـق بمدى وِحدة الحركة الشعبية في ظل قيادتها الجديدة. فالمعروف أن سيلفا كير يمثل الجناح العسكري في الحركة، وكل خبرته تعود إلى التعامل مع ميادين القتال والعمل الاستخباري.
في المقابل، هناك أجنحة سياسية تضم جنوبيين وشماليين، كانوا يرون في قرنق زعيما يجسّـد فكر الحركة الشعبية نحو بناء سودان جديد قِـوامه المواطنة، وتأمين حقوق المهمّـشين والديمقراطية.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن، يتعلق بمدى استمرار وحدة الحركة تحت قيادة سيلفا كير، وهنا تطرح احتمالات عدّة، من بينها أن تقبل الأجنحة السياسية زعامة كير، ذو الخلفية العسكرية، ولو كمرحلة انتقالية، إلى أن يحسم الأمر في اجتماعات مؤسسات الحركة لاحقا.
وإما أن يقوم بعض الرموز السياسيين في الحركة بتعطيل قيادة سيلفا كير، وبما يؤثر على قدرة الحركة في تطبيق اتفاقيات نيفاشا، ويبرر لاحقا تغيير قيادة سيلفا نفسه.
والواضح أن الاحتمالات كثيرة بالنسبة لمستقبل الحركة الشعبية، وأيضا بالنسبة لمستقبل عملية السلام نفسها. غير أن أحد الرهانات يذهب إلى ترجيح أن يتمكن سيلفا كير بحكم منصبه الدستوري كنائب أول لرئيس الجمهورية، ورئيس لحكومة الجنوب، ورئيس جيش الحركة الشعبية، وأيضا بحكم علاقاته الميدانية مع قيادات قبلية جنوبية، سواء من الدينكا أو الشيلك أو النوير، وبحكم الدعم الذى يُـفترض أن تقدمه الحكومة المركزية في الخرطوم إلى قيادته، وكذلك بحكم الدعم السياسي الذي ستقدمه أطراف دولية، على رأسها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، أن يقيم نوعا من التحالف الجنوبي العريض الذي يسهم في تطبيق اتفاقية نيفاشا بقدر أكبر من السهولة.
خلف لا يُشبه السلف
وهنا، يمكن النظر إلى أن افتقاره إلى خبرات المراوغة السياسية التي كان يتمتع بها جون قرنق، قد تكون عاملا مساعدا في التزامه الحرفي باتفاقيات نيفاشا. لكن يظل هناك عاملا سلبيا، وهو أن افتقار الخبرات القيادية السياسية لدى كير، قد لا تساعده في جمع الحشد والتأييد من المواطنين الجنوبيين الذين اعتبروا قرنق بمثابة المخلص والمنقذ، والقائد الذي سيجلب لهم حُـكم البلاد لاحقا.
ولا يخلو رحيل قرنق المفاجئ من إشكاليات بالنسبة لحكومة الخرطوم أيضا، والتي عرفت طريقة تفكير قرنق وأسلوبه في العمل السياسي والعسكري، وكانت تراهن على أن فترة التفاوض قد أثمرت قدرا من الثقة المتبادلة معه، وأن قيادته الطاغية كفيلة بأن تيسر الوصول إلى حلول وسط للعديد من المشكلات التطبيقية المتصورة والمنتظرة بالفعل، وهي اعتبارات غائبة تماما بالنسبة للتعامل مع شخصية سيلفا كير، والتي تفرض التطورات، التعامل الشخصي معه من نقطة الصفر تقريبا.
وربما كان عامل الخلفية العسكرية لكل من الرئيس عمر البشير ونائبه الجنوبى الجديد كير، مساعدا في تحقيق تواصل ايجابي في وقت محدود نسبيا، يُـسهم بدوره في تجاوز المعوّقات المنتظرة، وهي كثيرة جدا.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.