رحـيلُ سياسي يمني يخـلف غصة شعبية
خلّف رحيل سفير اليمن لدى الكنفدرالية السويسرية، الدكتور فرج بن غانم، حزنا كبيرا في الأوساط اليمنية لما له من بصمات متميزة في مسيرة الإدارة اليمنية وبما سجله من مواقف منحازة لبناء الدولة اليمنية.
فعقب إعلان وفاة بن غانم في سويسرا، هيمن الوجوم على الشارع اليمني، وتناقل الناس الخبر بغصة أليمة امتزجت بقساوة الظروف الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها اليمنيون هذه الأيام بسبب ارتفاع الأسعار.
أعادت هذه الظروف للأذهان محاولات الرجل إعطاء فعالية مختلفة لأداء الحكومة عندما تولى رئاستها عام 1997، إلا أنه اصطدم بتقاليد راسخة لتسيير الإدارة العمومية لم تتقبل مشروعه الطموح لمأسسة التدبير العمومي وعقلنته، ما اضطره كتكنوقراطي إلى تقديم استقالته بعد أشهر قليلة من تعينيه على رأس حكومة حزب الأغلبية مع أنه لا ينتمي إليه ولا لغيره من الأحزاب السياسية. فالرجل هجر التنظيم الأيديولوجي مبكرا وكرس انتمائه إلى التنظيم الإداري منذ إجلاء الاستعمار البريطاني عن الشطر الجنوبي من البلاد.
وعلى الرغم من أنه صُنف سياسيا بقربه من حزب البعث العربي الاشتراكي خلال المد القوي للتيارات القومية وتنامي حركات التحرر في العالم الثالث خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلا أنه سرعان ما تخلى عن النشاط الحزبي بمجرد انخراطه في الوظيفية العمومية آنذاك، تاركا في مسيرته الوظيفية هالة من التقدير والإعجاب، حتى من رفاقه المنتمين للحزب الاشتراكي الذي حكم الجنوب برؤية ماركسية وشغل في ظل فترات حكمه العديد من المناصب دون أن يضطره عمله للانتماء للحزب.
الشارع اليمني، وهو يستذكر مناقب وخصائص هذه الشخصية السياسية، حوّل موته إلى موضوع نقاشه الرئيس. فعلى مدار الأيام الماضية، استعاد اليمنيون هذه التجربة الوطنية التي استحوذت على تقدير وإعجاب الجميع، واعتُبرت نموذجا يستحق كل هذا الزخم الشعبي.
آثـر الإستقالة
وفي تفسيره لذلك لزخم الذي يحيط برحيل الرجل، قال الصحافي والمحلل السياسي اليمني حمدي البكاري لـ”سويس انفو”: “بن غانم شخصية تمكنت بفعل مواقفها الجريئة من امتلاك حيز كبير من الذاكرة الشعبية اليمنية، وستبقى لأجيال قادمة”.
ويعزو البكاري التقدير الكبير لابن غانم لارتباط اسمه بنظرة الشعب له كـ”منقذ من الضلال” انتظروه طويلا حتى إذا ما عين رئيسا للحكومة انتعشت الآمال الشعبية بمجيئه، إلا أنه سرعان ما غادر معلنا استقالته بلا ضجيج ليتحول في رأي الناس إلى “الرجل الشجاع”.
وبجرأته تلك غير المعهودة في تاريخ الساسة اليمنيين، عرف الناس موطن الخلل، فترك وراءه تقديرا كبيرا. ولهذا يقول البكاري : “من الطبيعي أن يخلف رحيله حسرة كبيرة لأسباب عديدة ميزت الرجل، ولعل أهمها أن الناس بقوا على أمل عودته. وقد تردد اسمه كمرشح للمعارضة عند كل استشارة شعبية، ومنها الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت العام الماضي. وكثيرا ما ردد اسمه متظاهرون على ارتفاع الأسعار خلال الاحتجاجات التي جرت غير مرة.
ويعتقد المراقبون أن الكـلف بالشخصيات لدى اليمنيين، كما في البلدان المماثلة، يرجع إلى غياب المؤسسة وسوء الإدارة وانتشار الفساد، مما يجعل من أصحاب المواقف المميزة محل تقدير خاص عندما يتحلون بالشجاعة والصرامة مثل هذا الرجل الذي ذاع صيته كواحد من الذين لا يساومون على مبادئهم، ولا يقايضون مواقفهم.
وتاريخ الرجل حافل بالنزاهة والصدق في جو موبوء بالفساد أراد اجتثاثه كشرط لعمله كرئيس للحكومة، لكن ذلك الوباء كان أشد قوة منه فغادر الحكومة بعد إحدى عشر شهرا نتيجة لإدراكه أنه لن يقدر على تحقيق الوعود التي بشر بها، فآثر الاستقالة على أن يسجل له أنه نكث بوعوده التي جاءت في برنامجه الحكومي أمام السلطة التشريعية في مايو 1997.
حزن لاستعادة الأمل
من جهته، أرجع الكاتب الصحفي عزت مصطفى في حديثه لـ”سويس انفو” مكانة الرجل في الأوساط الشعبية المتزايد إلى أسباب عميقة في اللاوعي الجمعي موضحا ذلك بقوله: “الشعب الذي ركن إلى اليأس من صعوبة أي محاولة للتغيير، ما يلبث أن يتحفز الأمل داخله كلما صدمته شخصية استثنائية تكسر القاعدة التي تطبع عليها. وبالتالي فإن بن غانم جسد في وجدانه صور لشخصيات يستطيع الوثوق بها والركون إليها في قيادة التغيير، إذ من الصعب عليه أن يعطي الثقة لأي كان مع حالة الإحباط التي استحوذت عليه إلا لشخصيات تستطيع الدخول إلى أعماقه وتهزه من الداخل، خاصة وأن المعارضة اليمنية بقياداتها عززت ما طبعت السلطة الناس عليه، وثبتت من ناحيتها قاعدة فساد الشخصيات العامة، أو على الأقل عدم استحقاقها لتولي زمام قيادة التغيير”.
ويستطرد مصطفى قائلا: “إن الحزن الذي يلف اليمينيين برحيل الدكتور فرج بن غانم، ما هو إلا محاولة لاستعادة الأمل بشخصية يسيرون خلفها لمواصلة رحلة الحياة، متخطين المقبرة صوب آفاق من الإنعتاق والحرية والكرامة مبديا أسفه لأن اليمنيين، على حد تعبيره، خرجوا غير مرة هاتفين خلف غير واحد من الشخصيات، إلا أن خروجهم في كل مرة كان لمواراتهم في رحلتهم الدنيوية الأخيرة.
الواضح أن الرجل بما تحلى به من قيم الشرف والصدق مع النفس ومع شعبه، وبما أبداه من مواقف منحازة لبناء الدولة اليمنية، ومقارنة كل ذلك بغيره قد اكسبه شعبية واسعة وصيتا طيبا في كل مناطق البلاد، مما جعل سيرته جارية على كل لسان حتى إذا ما غيبه الموت، وخاصة في ظل الاختلالات المهيمنة على الإدارة اليمنية ترك حزنا ملؤه الحنين إلى هذا الصنف النفيس من الرجال القلائل.
الخلاصة أن العبرة المستنتجة من إكبار الرجل وتبجيله وسط شعبه إلى هذا الحد الصريح ينطوي بالمقابل على موقف مضمر تجاه أعضاء الحكومة، وتجاه مراكز القوى الذين لم يتحل كثير منهم بصفات الراحل ولا يقاسمونه تطلعات بناء الدولة الوطنية الموعودة، لذلك هناك من لا يتردد عن القول بأن من يبكون بن غانم هم في واقع الأمر يبكون مشروعا أحلام نادى بها، إلا أن الموت غيبه فغاب معه ذلك المشروع مما خلف غصة شعبية مريرة.
عبد الكريم سلام – صنعاء
من مواليد غيل باوزير في حضرموت في 1 ديسمبر 1937.
درس الابتدائيـة والمتوسطة فـي غيل باوزير والثانويـة فـي السودان.
حصل علـى تخصص اقتصاد مـن جامعـة الخرطـوم عـام 1964 مع مرتبة الشرف، وعلى ماجستير في المدرسة المركزية للتخطيط والإحصاء عام 1975، وعلى دكتوراه في الإحصاء عام1978 (من بولندا).
قام بدورات في الاقتصاد والإحصاء بواشنطن، والحسابات العامة والتنمية في لندن.
كان سكرتيراً دائماً في وزارة المالية في الفترة من سبتمبر 1969 إلى يوليو 1970.
ونائباً لوزير التخطيط من يوليو 1970 إلى أغسطس 1979.
وزيراً للتخطيط من أغسطس 1979 الى 1989.
عضواً في مجلس الشعب الأعلى 1978.
عضواً في مجلس النواب للجمهورية اليمنية 1990.
وزيراً للتخطيط في أول حكومة لدولة الوحدة 24 مايو 1990.
مندوب اليمن لدى المقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف منتصف 1994.
رئيساً للوزراء في 15 مايو 1997، حتى 29 أبريل 1998 حين قدم استقالته.
سفيراً ومندوباً دائماً للجمهورية اليمنية لدى المقر الأوروبي للأمم المتحدة بجنيف في 17 فبراير 2002.
سفيراً فوق العادة ومفوضاً للجمهورية اليمنية لدى الكنفدرالية السويسرية في 15 يوليو 2002.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.