رســالة أردوغـان .. هل وصلت؟
للمرة الأولى منذ وصوله إلى السلطة قبل عامين ونصف العام، قام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بزيارة إلى إسرائيل في الأول من شهر مايو الحالي.
الزيارة أثارت الكثير من اللغط والتساؤلات حول أبعادها لكنها لا تمثل تغييرا جوهريا في مسار أردوغان.
مجرد حصول الزيارة يمنحها أهمية من زاوية العلاقة الثنائية بين قوتين كبيرتين في الشرق الأوسط، أما الوفد الكبير من رجال الأعمال والوزراء الذي رافق أردوغان، فيعطي إنطباعاً بأن العلاقات بين البلدين تتجه إلى مرحلة جديدة بعد التوتر الذي سادها خلال السنتين الأخيرتين.
أولاً، من المفيد الإشارة إلى أن العلاقات العسكرية والاقتصادية بين أنقرة وتل أبيب لا ترتبط عضوياً بتغيّر السلطة السياسية في تركيا. فسواء كانت الحكومات إسلامية أم علمانية، تتسّم هذه العلاقات بإستمرارية يحكمها عاملان:
الأول، أن بنية التسلح للجيش التركي، محكومة بالنمط الأمريكي الذي لا تتوفر مستلزماته إلا من الولايات المتحدة وإسرائيل،
والثاني، أن النخبة العلمانية المتشددة والمعادية للتوجهات الإسلامية لا تزال تشكل “دولة داخل الدولة” وتتحكم بمسارات أساسية في السياسة الخارجية، ولاسيما مع إسرائيل. وفي هذا السياق، عرفت تركيا إحدى أكبر صفقات تحديث السلاح مع إسرائيل عام 1996 في ظل حكومة الإسلامي نجم الدين أربكان.
اليوم، يتكرر السيناريو نفسه مع توقيع اتفاقات لشراء تركيا طائرات تجسس إسرائيلية من دون طيار بقيمة 183 مليون دولار، و48 طائرة هاروب من دون طيار تستخدم لقصف مواقع حربية من ارتفاع 150 كلم، واستمرار عملية تحديث طائرات ودبابات بقيمة مليار دولار.
العودة إلى الأوراق القديمة
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن حجم التجارة بين البلدين يتطور بإستمرار وهو يقارب الآن مليار وأربعمائة مليون دولار، فضلاً عن وجود اتفاقات طاقة واستثمارات اسرائيلية في مشروع “غاب” وتزويد تركيا إسرائيل بالمياه.
وتقول التقديرات بأنه تعمل في تركيا 2500 شركة إسرائيلية، وأن ثلاثمائة ألف سائح إسرائيلي يزورون تركيا سنوياً. مع ذلك، يمكن القول أن الأتراك لم يذهبوا إلى إسرائيل بمشاريع محددة، لا على الصعيد الاقتصادي، ولا على الصعيد… السياسي، وهذا يطرح تساؤلاً حول طبيعة ومغزى الزيارة التي قام بها أردوغان إلى إسرائيل وفي هذا التوقيت بالذات.
لقد عرض أردوغان في أوقات سابقة جملة مواقف حادة من إسرائيل، فوصف ممارسات ارييل شارون بإرهاب الدولة ورفض استقباله في أنقرة، كما رفض اردوغان دعوةً لزيارة إسرائيل، إنطلاقاً من قناعات ايديولوجية من جهة، ومن الرغبة في مراعاة مشاعر الرأي العام التركي المعادي عموماً لإسرائيل.
وفي الوقت نفسه، كانت علاقات حزب العدالة والتنمية مع الإدارة الأمريكية تنتقل من سيء إلى أسوأ في ظل انزعاج أمريكي من موقف انقرة من الوضع في العراق والعلاقات مع سوريا وإيران، ومسألة قاعدة اينجيرليك، واتهام واشنطن حكومة اردوغان بتغذية المشاعر المعادية لأمريكا والتي وصلت نسبتها (طبقا لأحدث استطلاعات الرأي) إلى 82% لدى الرأي العام التركي.
كان يمكن لحكومة أردوغان أن تواصل “صمودها” تجاه المطالب الأمريكية، بما في ذلك ذروة التحدي مع زيارة الرئيس التركي أحمد نجدت سيزير إلى دمشق، لكن الإدارة الأمريكية التي ضاقت ذرعاً من عدم تجاوب حكومة اردوغان معها في سياساتها الشرق أوسطية، عادت لاستخدام أوراقها “القديمة” وترميم الجسور مع المؤسسة العسكرية التركية التي “انقطعت” مع العدوان على العراق بعد اتهام واشنطن العسكر التركي بأنه يقف خلف عدم مشاركة أنقرة في الحرب لإسقاط صدام حسين.
اشتداد الـطـوق
كان يمكن لأردوغان الصمود لو بقيت “اللعبة” في إطارها “الخارجي”، لكن دخول “الداخل” على خط التطورات، قلب الحسابات وأشعر أردوغان أن الضغوط الأمريكية من بوابة “الداخل” التركي قد لامست الخطوط الحمر.
فخلال شهر أبريل فقط، توالت في ما يشبه العملية المنظمة، خطابات لرئيس الأركان ورئيس الجمهورية ورئيس المحكمة الدستورية ومدعي عام الدولة، تركّز على “الخطر الرجعي” الإسلامي الذي تمثله محاولات “أسلمة” الإدارات التركية في عهد حكومة العدالة والتنمية.
فضلاً عن ذلك، سجل استخفاف رئيس الأركان بوجود سلطة سياسية، عندما قام بالدور الذي يقوم به عادة رئيس الجمهورية في الولايات المتحدة، وإطلاق خطاب من 45 صفحة في العشرين من أبريل الماضي حول “حال الإتحاد” التركي، مع أن الدستور يحصر ذلك برئيس الحكومة، في خطوة أثارت شكوكاً كبيرة، فيما إذا كانت الإصلاحات السياسية المعلنة لا تزال مجرد حبر على ورق.
إن اشتداد الطوق على أردوغان، بما يذكّر بآخر أيام أربكان عام 1997، ألجأه للقيام بخطوات دفاعية متعددة شملت توقيع اتفاق مع واشنطن بقيمة مليار ومائة مليون دولار لتحديث 117 طائرة آف – 16، وتجديد تفويض استخدام قاعدة اينجيرليك، (وربما موسّعة هذه المرة) من جانب الولايات المتحدة، ثم جاءت الخطوة الأكثر تأثيراً، وهي القيام بزيارة إسرائيل بما يمثّل تراجعاً عن مواقفه السابقة.
وبما أن إسرائيل لم تتغيّر، فإن أردوغان هو الذي تغيّر إذن. ومجرد حصول الزيارة، كان بالنسبة لشارون، اعتذاراً اردوغانياً عن كل الفترة السلبية السابقة (!)..
الرسالة .. هل وصلت؟
مع ذلك، لا يمكن اعتبار زيارة اردوغان إلى إسرائيل تغيّراً استراتيجياً. فهو لم يذهب إلى هناك بأي مشاريع محددة. حتى “الوساطة” في عملية السلام كانت تفتقر إلى أية ملامح ورؤية واضحة، بل إن اردوغان هو الذي طلب من شارون أن يقول له ما الذي يمكن لتركيا فعله في هذه العملية. فضلاً عن أن إسرائيل ترفض الوساطة التركية، ليس لأنها غير مجدية، بل لأن اسرائيل هي التي لا تريد في هذه المرحلة تفعيل عملية السلام.
ذهب اردوغان إلى إسرائيل باعتبارها “محطة” يُطلق من خلالها رسالته المباشرة إلى واشنطن، علّه يحدث ثغرة كبيرة في جدار الضغوط الأمريكية عليه. فالانطباع الراسخ في تركيا أن أية سلطة لا يمكن أن تستمر في حال صدور “فرمان” العزل من “الباب العالي” في واشنطن، وكل التجارب التاريخية الحديثة تؤكد ذلك، حتى لو كان الحزب الحاكم يحظى بإرادة شعبية كاسحة.
يبقى السؤال قائما: هل نجح اردوغان في إيصال رسالته؟ هذا سيتضح من خلال مراقبة سلوك “القوى المتجذرة” في الداخل التركي في الأيام والأسابيع المقبلة، وما إذا كان أردوغان سينال موعداً للقاء جورج بوش في نهاية شهر مايو الجاري أو مطلع يونيو المقبل.
د. محمد نور الدين – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.