رصـــد وتحقيـــق وتفتيـــش
باشر مفتشو الأمم المتحدة واللجنة الدولية للطاقة الدرية أعمالهم في العراق، حيث قاموا بتفقد عدد من المنشآت الصناعية والعلمية.
وتستمر عمليات التفتيش في كنف الهدوء بعيدا عن أي تشنج أو توتر بين السلطات العراقية والمفتشين. لكن العراقيين متخوفون من المستقبل!
بدأ “جيش صغير” من المفتشين الدوليين عمله في العراق في ظل ما يبدو وكأنه مهمة حربية وليست عملية تفتيش. فهناك من ينظر إلى عمليات التفتيش على أنها الفرصة الأخيرة التي أتيحت للعراق لكي يتجنب هجوما أمريكيا بدا دائما وكأنه حتمي، بينما يعتقد كثيرون أنها ليست أكثر من “فخ” دولي نُصب للعراق بهدف توفير ذريعة مشروعة للحرب المحتملة.
ولا يبدو أن المفتشين أنفسهم على يقين مما يمكن أن تؤدي إليه مهمتهم في النهاية. فالجوانب الفنية لعملية التفتيش تتسم بتعقيدات تجعلها تدفع في الاتجاهين، بحيث ستظل احتمالات الحرب رهينة لتوجهات السياسة وليس نتائج التفتيش.
وبداية، فإن من المؤكد أن قبول العراق بشكل غير مشروط لاستئناف عمليات التفتيش الدولي على قدراته العسكرية المفترضة، قد أوقف العد التنازلي المنتظم نحو حرب كانت الغالبية العظمى من الدول قد بدأت تكيف نفسها على أنها قادمة، على الأقل لأن الإدارة الأمريكية كانت قد وصلت في حملتها ضد العراق لمرحلة أصبح فيها من الصعب عليها هي نفسها أن تتراجع عن قرارها.
لكن هناك إدراكا بأن ما تتيحه عمليات التفتيش هو، بلغة كرة السلة، “وقت مستقطع” يتيح التفكير في كيفية تجنب حرب لا تزال احتمالاتها قائمة.
تعاون لا تشوبه شائبة
إن المشكلة هي أن لا أحد يعرف بالضبط كيف يمكن أن تكون عمليات التفتيش وسيلة لتجنب الحرب. فالدكتور محمد البرادعي يشير إلى “أن على العراق أن يتعاون بنسبة 100%، وليس أقل من ذلك مع فرق التفتيش الدولية ليتجنب التعرض لضربة عسكرية”.
وفي ظل إجراءات التفتيش الحادة التي تم اعتمادها كأسلوب لعمل “إنموفيك”، لا يوجد ما يضمن أن تسير الأمور طوال الوقت دون حوادث تعتبرها الولايات المتحدة أسبابا للحرب، في ظل واقع أن نسبة 99% قد لا تكون مقبولة.
كان العراق قادرا في ظل عمليات لجنة أونسكوم السابقة على منع فريق كارين جنسن الكيماوي من دخول وزارة الزراعة لمدة 18 يوما، وإطلاق النار فوق رؤوس المفتشين النوويين أمام مصنع الفالوجة لمنعهم من تصوير سيارات تخرج منها، واحتجاز فريق ديفيد كاي النووي في مرآب سيارات لمدة 4 أيام لإرغامه على تسليم وثائق حصل عليها.
غير أن الأوضاع انقلبت تماما، حيث أن مجرد تأخر دخول أي فريق تفتيش إلى منشأة عراقية لمدة نصف ساعة، قد يعتبر على حد تعبير هانس بليكس، نموذجا للعرقلة.
يضاف إلى ذلك أن المفتشين يتمتعون هذه المرة بصلاحيات توصف بلا محدودة، إذ أن قرار1441 يتيح لهم العمل بصورة غير مقيدة داخل العراق، وكأن العراقيين غير موجودين، على نحو يثير احتمالات الاستفزاز التي يمكن أن يجد النظام العراقي نفسه مخيرا في ظلها بين تقبل “إهانات” تفقده ما تبقى من هيبته الداخلية، أو المخاطرة بالتعرض لهجوم خارجي، أي بين السقوط من الداخل أو من الخارج، خاصة من جانب أعضاء فرق التفتيش الكيماوية والبيولوجية والصاروخية، التي تضم خبراء وفنيين تم اختيارهم من وزارات الدفاع أو مختبرات تطوير الأسلحة، دون أن يتدربوا كمفتشين محترفين غالبا مثل نظرائهم النوويين، وطالما أثاروا مشاكل في مرحلة ما قبل عام 1988.
فقد حاولت إدارة اللجنة بالفعل أن يتم ترتيب أعمال التفتيش على أسس تضمن عدم وقوع مشكلات، كالتفاوض حول التفاصيل الصغيرة مع مسؤولين عراقيين كبار، خاصة بالنسبة للمسائل الحساسة كدخول قصور الرئاسة، مع إقامة خط ساخن مع السلطات العراقية لسرعة تسوية أي مشكلة ميدانية قد تطرأ بشكل مفاجئ، مع الحديث بصراحة عن مراقبة سلوك المفتشين لاستبعاد من يثبت أنه يقوم بالعمل لصالح جهة أخرى غير لجنة “إنموفيك”.
لكن الجميع يواجه، حسب تقدير أحد المفتشين السابقين، موقفا جديدا تماما ولا أحد يُدرك بدقة ما الذي يمكن أن يحدث في إطاره. ولكي تسير عملية التفتيش في هذه الأجواء التي لا تتيح إمكانية حدوث خطأ واحد كبير دون أن تؤدى إلى نشوب حرب، تتطلب الأوضاع الحالية مستوى استثنائيا يوجد شك في توافره من حسن التقدير وحسن النوايا، سواء فيما يتعلق بالاستيعاب العراقي لواقع العالم الجديد، إلى درجة تنهي مجرد فكرة اختبار إرادة الطرف الآخر، أو فيما يتعلق “بالتفهم الأمريكي” الذي يوجد شك في إمكانية توافره أيضا دون حدوث تحول حقيقي تجاه الحكومة العراقية الحالية، وهي كلها أمور تتطلب تغييرات جوهرية في التوجهات السياسية للطرفين.
نتائج غير مؤكدة
لكن، حتى وإن تمت عمليات التفتيش برمتها في كنف الانضباط والتفاهم، فلا أحد يعلم إن كانت النتائج التي ستتوصل إليها فرق التفتيش في النهاية، ستصبح بمثابة خط فاصل تُعتبر الأزمة بعده منتهية، بفعل عدة اعتبارات أهمها:
· أن خبرة عمليات التفتيش في الماضي تشير إلى أنه لا يوجد شيء اسمه “إغلاق الملفات”. فدائما ما تكون هناك شكوك حول شيء ما، كما أن طبيعة عملية التفتيش تتضمن رقابة طويلة المدى لضمان عدم عودة العراق إلى تنشيط برامجه التسليحية، وبالتالي لا يوجد حد زمني لنهاية العملية، إذ تشير بعض مصادر الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أن العملية قد تمتد لسنوات.
· أنه لا يوجد مفتش دولي يمكنه لأسباب فنية أن يؤكد في تقرير رسمي أن العراق قد اصبح خاليا من أسلحة الدمار الشامل. فالتقارير تتضمن دائما فكرة الاحتمالات غير المؤكدة مع تفاوتها من مجال لآخر. فإذا كانت “البصمة النووية” قوية بدرجة تتيح الحكم بأن دولة ما لا تمتلك قدرات نووية بنسبة 95%، فإن نسب التأكد المعتادة بالنسبة للأسلحة الكيميائية لا تتجاوز عادة 50%، والأهم أن مثيلاتها بالنسبة للقدرات البيولوجية التي يمكن إنتاجها في أي مختبر صغير لا تتجاوز 25%.
· أن مشكلة المعلومات تمثل كارثة حقيقية في الحالة العراقية. فقد كانت عمليات التفتيش الأخيرة قبل ديسمبر 1988 تتركز في الأساس حول ما قد يكون العراق أخفاه من معلومات (وثائق)، وليس ما قد يكون لديه من معدات أو مواد. وقد تفجرت هذه المشكلة مبكرا هذه المرة. فالإدارة الأمريكية ترى أن مجرد إخفاء العراق معلومات، وكان ذلك ممارسة معتادة مع أونسكوم، قد يكون مبررا للحرب.
وما يمكن استنتاجه من هذه المعطيات هو أنه من المستبعد جدا، إن لم يكن من المستحيل على المدى المتوسط، صدور تقرير في مدى زمني يمكن تصوره، يؤكد أن العراق لم يعد يخفى شيئا، وأن برامجه العسكرية قد وصلت إلى درجة الصفر، وأنه يجب أن تنتهي عمليات التفتيش بشكلها المعتاد، وإذا حدث ذلك، لا يوجد ضمان بأن لا تنفجر، إذا استمرت التوجهات السياسية القائمة على ما هي عليه، ملفات أخرى في وجه الحكومة العراقية كحقوق الإنسان أو جرائم الحرب أو دعم الإرهاب، بما يحول مسألة أسباب الحرب برمتها إلى مجال آخر.
اللعبة
وفى الواقع، فإن المسألة هي أن هناك مصلحة حقيقية لكل من واشنطن وبغداد في إتمام عمليات التفتيش. فعلى الرغم مما بدا دائما من الإدارة الأمريكية قد حسمت قرارها الخاص بضرب العراق، كانت أسوأ كوابيس البنتاغون ترتبط باحتمالات أن تكون لدى العراق بقايا قدرات تدمير شامل في ظل تقديرات بأن القيادة العراقية التي تواجه تهديد بقاء، سوف تستخدمها يقينا إذا ما بدأت الحرب، وسوف توفر تلك العملية بالصورة التي تم ترتيبها بها أداة فعالة للتعامل مع تلك المشكلة مع عدم مصادرتها، بفعل العوامل السابقة، لإمكانية شن حرب وقت الضرورة.
ولم يكن لدى الحكومة العراقية خيار حقيقي لرفض أعمال التفتيش، حتى لو كانت تدرك، وهى تدرك ذلك بالفعل، أنها لن تؤدي في النهاية إلى إنهاء احتمالات الحرب. فالقيادة العراقية ليس أمامها سوى ممارسة لعبة البقاء، مع تطوير تلك العملية في اتجاه محاولة إقناع الإدارة الأمريكية بأنها مستعدة لإصلاح نفسها بشرط أن تبقى.
فاللعبة العراقية هي “شراء الوقت” عن طريق التفتيش، وإرسال إشارات متواصلة، كتصفية أبو نضال، وفرملة عدي صدام، ولقاء المعارضة، وتغيير الدستور، وصولا إلى ما لا يمكن تصوره حاليا.
فالمسألة لا تزال في بدايتها، وعمليات التفتيش توفر فقط الفرصة للطرفين للتفكير فيما سيفعله كل منهما مع الطرف الآخر في الفترة القادمة دون أن تصادر خياراتهما الحالية.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
أنشئت لجنة UNMOVIC بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1284 الصادر في 17 ديسمبر 1999
حلّت UNMOVIC محل اللجنة السابقة UNSCOM
كلف الأمين العام للامم المتحدة كوفي انان هانس بليكس ليكون الرئيس التنفيذي للجنة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.