رفض مُـزمـن للإصـلاحات
قد يجد الرفض الذي تواجه به الدول العربية في ما يشبه الإجماع الإصلاحات المفروضة عليها من الخارج بعض المبررات، لكنه يفتقر تماما إلى الجدية والمصداقية.
فهذه الدول لم تنجح منذ عقود في التعامل إيجابيا مع دعوات الإصلاح الداخلية على غرار “الميثاق العربي لحقوق الإنسان” الذي أعده خبراء عرب منذ عام.. 1970!
لقد أدت التحفظات العديدة التي أثارتها الدول العربية حول بنود هذا الميثاق (الذي كان من المتوقع أن يعتمد في قمة تونس المؤجلة)، إلى تشكيك العديد من المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان في جدية التوجه الرسمي للتعاطي معه واحتمال إرجائه إلى قمة الجزائر المحتمل انعقادها في مارس 2005.
من جهة أخرى، قد تجد الأنظمة العربية جهات حزبية ومدنية وشعبية داخلية تساندها في رفض الإصلاحات التي تحاول بعض القوى الدولية فرضها من الخارج، تارة تحت اسم التصور الأمريكي للشرق الأوسط الكبير، وتارة أخرى تحت مسميات أخرى كالورقة الأوربية او الألمانية أو الدانماركية التي كثر الحديث عنها إثر إلغاء الرئيس التونسي للقمة العربية الأخيرة.
وقد تفننت عدة دول عربية، استنادا لما تسرب لحد الآن، في إدخال لمسات على مشاريع الإصلاح الخارجية المعروضة، لجعلها اكثر قابلية للتسويق، وقد اتضح هذا من خلال ما سُـمّـي بالأوراق المصرية والأردنية واليمنية والتونسية.
ومهما تضمنت هذه الأوراق من أفكار عربية صرفة، فإن تقديمها في هذه الظروف لن يبدد الإنطباع السائد بأنها مفروضة من الخارج لذلك تُـواجه بالرفض من قبل البعض لحسابات شخصية أو لاعتبارات أخلاقية ونفسية.
مشروع عربي “غير مرغوب فيه”
ولو أن الأنظمة العربية كانت جادة فعلا في إجراء إصلاحات حقيقية بدون انتظار الضغوط الخارجية لعملت على الإسراع بتبني مشاريع إصلاح وطنية وعربية عديدة اقترحتها النخب والقوى الوطنية في مختلف بلدان المنطقة منذ عدة عقود.
وفي هذا السياق يمثل مشروع “الميثاق العربي لحقوق الإنسان” الذي أطلق منذ عام 1970 وسهر على إعداده خبراء عرب ومندوبون عن حكومات عربية وممثلون عن الجامعة العربية وأسهم في إثرائه ممثلون عن بعض منظمات المجتمع المدني العربي، مثالا صارخا.
فهذا المشروع الذي انطلقت المناقشات بشأنه منذ سبعينات القرن الماضي، لم يتجسد في شكل “ميثاق عربي لحقوق الإنسان” إلا في عام .. 1994، بل لم تُصادق عليه إلا دولة عربية وحيدة، ترزح اليوم تحت نير الإحتلال الأمريكي أي .. العراق!.
وبعد تزايد الضغوط الدولية، شرعت جامعة الدول العربية منذ عامين فيما سُـمـي بعملية “تحديث الميثاق” على مرحلتين. جرت الأولى في شهر يونيو 2003، والثانية في شهر أكتوبر من نفس العام، لكنها لم تتوصل إلى إنجاز ما دعا إليه الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى من ضرورة “العمل على توافق الميثاق العربي المقترح مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان وعدم التناقض معها”.
مشروع عربي .. ولكن!
وفي إطار لمساعدة الدول العربية على صياغة ميثاق عربي لحقوق الإنسان يرقى إلى مستوى المواثيق والمعايير الدولية التي وقعت عليها غالبية الدول العربية (تارة بتحفظات معينة وفي غالب الأحيان بدون تحفظات)، عينت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مجموعة من الخبراء الدوليين في مجال حقوق الإنسان لمساعدة “اللجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان” التابعة للجامعة العربية في مهمة “تحديث الميثاق”.
ويوضح السيد فرج فنيش، المكلف بالعالم العربي في المفوضية السامية لحقوق الإنسان أنه قد “تم اختيار خبراء عرب يشتغلون في ميكانزمات دولية لحقوق الإنسان وذلك لتفادي إعطاء انطباع بتدخل أجنبي من ناحية، ولأن جل الوثائق مدونة باللغة العربية” على حد قوله.
وعلى الرغم من كل الاحتياطات التي اتخذت كي يظل المشروع عربيا بشكل كلي ، إلا أن “اللجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان” التابعة للجامعة العربية اعتمدت في شهر يناير 2004 نصا اعتبرته الكثير من المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان متضمنا للعديد من النقائص رغم اعترافها بالتقدم الكبير الذي يميزه عن الصيغة السابقة للميثاق المعتمدة في عام 1994.
وقد كان من المفترض أن تعرض هذه الصيغة المنقحة للميثاق العربي لحقوق الإنسان أن تعرض على مصادقة القادة العرب في قمة تونس المؤجلة، إلا أن بعض المصادر ألمحت إلى أن الخلاف بشأنها كان من بين الأسباب التي أدت إلى إجهاض القمة.
نقائص .. في الميثاق
وإذا كانت المحافل الدولية والهيئات غير الحكومية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان قد رحبت بالتقدم الكبير الذي مثلته الصيغة الجديدة للميثاق العربي لحقوق الإنسان، فإن الانتقادات الموجهة إليه ظلت عديدة.
فقد اعتبرت لجنة الخبراء العرب التابعة للمفوضية السامية لحقوق الإنسان، أن مشروع الميثاق العربي الذي أقرته الجامعة، يتضمن نقائص في اكثر من عشرين بندا من بنوده.
وخص خبراء اللجنة بالذكر اقتران المادة السابعة التي تنص على “منع تنفيذ عقوبة الإعدام في حق أشخاص دون الثامنة عشرة”، بعبارة “ما لم تنص التشريعات النافذة وقت ارتكاب الجريمة على خلاف ذلك”، ورأوا فيها تعارضا مع أحكام معاهدة الأمم المتحدة لحقوق الطفل التي صادقت عليها جل الدول العربية.
كما انتقد الخبراء بعض النقائص والتحديدات المتعلقة بمنع ممارسة التعذيب، أو التضييقات المفروضة على بعض الحريات الأساسية كحق الانتخاب والترشح، وحرية تكوين الجمعيات بالنسبة للمواطنين والأجانب المقيمين في البلدان العربية.
ورأى الخبراء في اقتران البند المتعلق بحرية الفكر والعقيدة والدين بشرط يربطهابـ “ما ينص عليه التشريع النافذ” تفضيلا للقوانين الداخلية للبلدان العربية على المعايير الدولية. ولفتت لجنة الخبراء العرب التابعة للمفوضية السامية لحقوق الإنسان الانتباه إلى ما رأت فيه تمييزا بين المواطنين والعمال الأجانب وإلى إهمال الحديث عن ضرورة منع ختان البنات في بعض البلدان.
من جانبها، اعتبرت اللجنة الدولية للحقوقيين في معرض تعليقها على الصيغة النهائية للميثاق العربي لحقوق الإنسان أن “الإشارة إلى الصهيونية وإلى إعلان حقوق الإنسان في الإسلام يمثل مشكلة”. وأوضحت السيدة حاج صحراوي، ممثلة اللجنة الدولية للحقوقيين، أن إدراج هاتين الإشارتين في الميثاق قد تكون لهما مبررات سياسية بالنظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلا أنه “لا مبرر لهما من الناحية القانونية” على حد تعبيرها.
كما أعربت اللجنة الدولية للحقوقيين عن تحفظها فيما يتعلق بالإشارة إلى الشريعة الإسلامية عند تطرق الميثاق إلى “إقرار تساوي الرجل والمرأة في الكرامة الإنسانية والحقوق والواجبات في ظل التمييز الإيجابي الذي أقرته الشريعة الإسلامية” ورأت أن ذلك يترك المجال لـ “تأويلات غامضة” حسب رأيها.
من جهتها، عبرت منظمة العفو الدولية عن قلقها بخصوص العديد من النقاط الأخرى كالحق في الحياة، والانتقاص من بعض الحقوق وتقييدها والتعذيب واستقلالية القضاء وحقوق المرأة والطفل وحرية التعبير والفكر والدين.
أين الديمقراطية؟
أما المنظمة العربية لحقوق الإنسان (وهي منظمة غير حكومية تتخذ من القاهرة مقرا لها) فقد اعتبرت أن من نقائص مشروع الميثاق العربي لحقوق الإنسان، إسقاط فقرة تنص على التزام الدول الأطراف بالقضاء على التمييز ضد المرأة دون إبطاء، وعبرت عن الأسف لعدم الأخذ بتوصية الخبراء القاضية بعدم جواز الحكم بالإعدام في الجرائم السياسية وهو ما مثل تراجعا عما ورد في نص الميثاق الذي أعـد في عام 1994.
كما وجهت المنظمة انتقادات شتى إلى مشروع الميثاق تتعلق ببنود مناهضة التعذيب وبتكوين الجمعيات والانتماء إليها، وبالمساواة بين الرجل والمرأة وبين المواطن والعامل الأجنبي.
ونوهت المنظمة العربية لحقوق الإنسان إلى أن النص الجديد للميثاق استبعد الإشارة إلى “مجتمع ديمقراطي” واستبدله بعبارة “مجتمع يحترم الحريات وحقوق الإنسان”، وهو ما يجعل الوثيقة العربية لا تشير في أي من بنودها إلى لفظ الديمقراطية.
وفي ظاهرة ملفتة يُـجـمـع منتقدو مشروع الميثاق العربي لحقوق الإنسان على أنه يفتقر إلى آليات مستقلة للإشراف على تنفيذ بنوده، وعلى خُـلـوه من إمكانية سماح الدول لمواطنيها بحق التشكي بصورة فردية لدى انتهاك بنوده.
ومن السلبيات الأخرى المسجلة، القيود المفروضة على ممثلي المنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان للمشاركة في أي نقاش داخل الجامعة العربية في مجال حقوق الإنسان باستثناء المنظمات المعترف بها وأغلبها منظمات حكومية أو مؤيدة للسلطات.
وبالنظر إلى التردد الذي أبدته الأنظمة العربية لفترة تزيد عن ثلث قرن لاعتماد مشروع عربي لميثاق يقر حقوق المواطن العربي في محيطه الجغرافي والثقافي بصورة طوعية، يتساءل كثيرون: هل ستفلح الضغوط الخارجية أخيرا في اعتماد هذه الإصلاحات؟ وإذا ما اعتمدت بشكل أو بـآخر هل ستكون لصالح المواطن العربي أم لفائدة من؟..
محمد شريف – سويس إنفو – جنيف
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.