ستراسبورغ تـدعـم حرية التعبـير في سويـسرا
نشرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ يوم الخميس 21 سبتمبر قرارا يؤيد صحفيا تعرض لرقابة السلطات السويسرية.
وكان الصحفي دانييل مونا، من القناة السويسرية الروماندية، قد أنجز شريطا وثائقيا عن دور سويسرا خلال الحرب العالمية الثانية. وهو تحقيق مُنع من إعادة البث من طرف السلطة المستقلة لبحث الشكاوى في مجال الإذاعة والتلفزيون.
“إن سويسرا بلد بـمستوى دون المتوسط في مجال حرية التعبير”. هذا الرأي جاء على لسان شارل بونسي، محامي الصحفي دانييل مونات.
وتابع النائب السابق في مجلس النواب السويسري: “لسنا بعيدين عن نظام استبدادي. صحيح أن الصحفيين لا يوضعون في السجن، لكن نـنـقضُّ عليهم بأسلوب دنيء. (…) إذا كان لديك رأي مزعج، أو كنت شخصا مختلفا بعض الشيء، فإن النظام يجتهد من أجل إغلاق فمك”.
وكان التحقيق الذي خصصه صحفي قناة سويسرا الروماندية، دانييل مونات، لدور سويسرا خلال الحرب العالمية الثانية، قد بـُث مرتين في عام 1997، وأثار ردود فعل واسعة في الكنفدرالية.
ففي خضم أزمة ودائع اليهود في المصارف السويسرية خلال الحقبة النازية، التي وضعت برن في موقع حرج على المستوى الدولي، جاء التحقيق الذي يحمل عنوان “شرف سويسرا المفقود” ليكسر أسطورة البلاد كبلد قاوم ألمانيا النازية كرجل واحد وبنزاهة.
انتهـاك المادة رقم 10
وبعد شكوى تـقـدّم بها ممثلون عن فرع جنيف لحزب الشـعب السـويسري اليميني المتشدد، قامت “السلطة المستقلة لبحث الشكاوى في مجال الإذاعة والتلفزيون” بحسم المسألة وإدانة البرنامج، إذ اعتبرت أن التحقيق يقدم معلومات بشكل أحادي الجانب.
ولقي هذا الحكم تـأييد المحكمة الفدرالية – أعلى سلطة قضائية في الكنفدرالية – التي رأت أن التحقيق لم يحترم عـُهدة هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية (القطاع العام) التي تفرض تقديم الأحداث بشكل وفـيّ للوقائع. وكانت النتيجة منع الشريط الوثائقي.
وبعد استنفاذ كافة طرق الطعن، قرر دانييل مونا، رفقة محاميه شارل بونسي، عرض هذه الحالة أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، بغرض كسب القضية.
واعتبرت المحكمة الأوروبية أن قرار السلطات السويسرية انتهك المادة 10 من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تضمن حرية التعبير.
“اعـتراف بالجـودة”
قرار المحكمة الأوروبية الصادر يوم الخميس 21 في ستراسبورغ، والذي كانت قد أعلنت قناة سويسرا الروماندية عن مضمونه يوم السبت الماضي 16 سبتمبر، قوبـِل بإشادة كلود تواراسينتا، أبرز وجوه الصحافة الروماندية (المتحدثة بالفرنسية)، والرئيس السابق لقسم الأخبار في قناة سويسرا الروماندية.
واعتبر توراسينتا أن قرار المحكمة “يشدد على جودة عمل دانييل مونا”. أما هذا الأخير، فشعر وكأن المحكمة “غـسـلته” بإزاحة الانتقادات التي صـدرت عن جدية أبحاثه ومِهـنيته.
ويرى كلود توراسينتا أيضا في قرار المحكمة الأوروبية “إعادةَ تأكيدٍ على أهمية حرية التعبير في مجتمع ديمقراطي. فهذا النوع من القرارات يمكن أن يكبح المحاولات – غير العديدة – الهادفة إلى الحد من عمل الصحافيين في سويسرا”.
وتأتي هذه التطورات بعد أيام قليلة فقط من الضغوط التي مُورست على قناة سويسرا الروماندية من قبل وزير العدل والشرطة كريستوف بلوخر، من حزب الشعب السويسري، كي تـُسحب رسوم كاريكاتورية من برنامج حواري شارك فيه.
“كـفى الآن !”
كلود توراسينتا، الذي ألـّف أيضا شريطا حول سويسرا والحرب العالمية الثانية، يرفض استخدام مصطلح “الرقابة السياسية” لوصف ما تعرض له دانييل مونا، إذ يعتقد أنه مصطلح قاس جدا، لكنه شدد على الأجواء العاطفية التي كانت تسود في سويسرا خلال اندلاع أزمة ودائع اليهود مصارف الكنفدرالية خلال الحقبة النازية.
ففي عام 1997، كان يحيط مناخٌ من نوع “كفى الآن!” بالصحفيين الذين كانوا يحفرون في الماضي المشوش لفترات الحرب. وكانت إعادة النظر في دور سويسرا خلال تلك الحقبة مرة تلو الأخرى تثير الانزعاج.
ويعتقد كلود توراسينتا أن “شكوى حزب الشعب السويسري كان لها جانب أيديولوجي، إذ أن الاعتراض تجاوز البرنامج نفسه. لم يكن يجب الحديث عن المسألة، بأي طريقة كانت”.
وأكد الصحفي أن “دانييل مونا كان على حق عندما ذهب إلى ستراسبورغ، لأن قرار المحكمة الفدرالية والسلطة المستقلة للشكاوى (في مجال الإذاعة والتلفزيون) فـُهم منهما أن هنالك أشياء لا يمكن القيام بها. وكان ذلك بمثابة تبرير رفض إلقاء نظرة انتقادية جدا على فترة الحرب”.
الـيـقـظة ضرورية
لكن لكل حرية حدودها بطبيعة الحال. فالقانون الجنائي (وخاصة في مجال القذف)، والحواجز القانونية، ومبادئ الأخلاقيات الصحافية، أدوات تؤطر ممارسة حرية التعبير.
كلود توراسينتا يـُذكّر بهذه الحدود، لكنه ينوه إلى أن “البعض يود أن تكون أكثر تقييدا. (…) يوجد دائما توتر بين الأوساط السياسية والنقابية والمهنية والمؤسساتية والجمعياتية والصحفيين”.
هذا التوتر “عادي وديمقراطي” في رأي الصحفي توراسينتا. لكنه يستدعي اليقظة أيضا من طرف الصحفيين الذين يـُنتظر منهم الالتزام بالدقة واحترام القواعد الأخلاقية.
سويس انفو – بيير فرانسوا بيسون
(ترجمته من الفرنسية وعالجته: إصلاح بخات)
صادقت سويسرا في عام 1974 على المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تضمن جملة من الحقوق الأساسية.
بعد استنفاذ كل وسائل الطعن داخل النظام القضائي السويسري، يحق للمواطن تقديم إلتماس حول انتهاك هذه المعاهدة، أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
قرارات المحكمة مُلزمة وتجبر على تصحيح الضرر المحتمل وأحيانا على دفع تعويضات.
ما بين 1974 و2003، قبلت المحكمة 105 شكوى رُفعت ضد سويسرا وأدانت الكنفدرالية 41 مرة.
مارس 1997: أول بث للشريط الوثائقي “شرف سويسرا المفقود” للصحفي دانييل مونا في إطار برنامج “Temps Présent” على قناة سويسرا الروماندية الأولى (TSR).
يونيو 1997: قدم أعضاء من فرع جنيف لحزب الشعب السويسري (اليميني المتشدد) دعوى قضائية ضد الشريط.
أكتوبر 1997: أدانت السلطة المستقلة لبحث الشكاوى في مجال الإذاعة والتلفزيون (AIEP) البرنامج.
أغسطس 1999: أكدت نفس السلطة قرارها.
ديسمبر 2000: أكدت المحكمة الفدرالية (أعلى هيئة قضائية في سويسرا) قرار AIEP، وتم منع الشريط الوثائقي.
2001: قرر دانييل مونا رفع القضية إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ.
سبتمبر 2006: صدر حكم المحكمة الأوروبية لصالح مونا. وبالتالي كسب مبدأ بث الشريط الوثائقي من جديد على قناة سويسرا الروماندية.
حكمت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، في القرار الذي نشرته يوم الخميس 21 سبتمبر 2006 في قضية الصحفي السويسري دانييل مونا، على سويسرا بدفع مبلغ 3500 يورو للصحفي لتعويضه عن التكاليف والنفقات.
لكن المحكمة لم تأمر بأي تعويض معنوي لصالح الصحفي العامل بقناة سويسرا الروماندية، معتبرة أن استنتاجها أن سويسرا انتهكت حرية تعبير الصحفي هو بمثابة تعويض كاف.
وكانت قناة سويسرا الروماندية قد أعلنت قرار المحكمة يوم السبت الماضي 16 سبتمبر. وفي اليوم الموالي، أشادت هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية (SRG SSR idée suisse) بقرار ستراسبورغ.
ورأى القضاة الأوروبيون أن قبول شكاوى المُُشاهدين من طرف السلطات السويسرية المُختصة، بعد بث تحقيق “شرف سويسرا المفقود”، لم يمنع في الحقيقة دانييل مونا من التعبير عن آرائه، لكن حثته على عدم إصدار انتقادات من ذلك النوع.
في إطار النقاش حول موضوع يحظى باهتمام عام كبير، تشدد ستراسبورغ على أن عقوبة من النوع الذي فـُرض على الصحفي مونا قد تـثـني الصحفيين عن المساهمة في النقاش العام لقضايا تهم حياة المجتمع. وبالتالي فإنها عقوبة “من شأنها عرقلة وسائل الإعلام في أداء مهمة الإعلام والمراقبة المنوطة بهم”.
وأشارت المحكمة أيضا إلى أن الأحداث التاريخية التي أثارها برنامج “Temps Présent”، كانت قد وقعت قبل خمسين عاما من تاريخ البث.
ولئن كانت تصريحات الصحفي من النوع الذي يغذي الجدل في المجتمع، فإن الفارق الزمني يقتضي قدرا أقل من الصرامة، حسب القضاة الأوروبيين الذين يرون أن “ذلك يساهم في الجهود التي يجب أن يبذلها كل بلد للتناقش بشكل مفتوح وهادئ حول تاريخه الخاص”.
وفيما يتعلق بالطبيعة “الجادة” لتحقيق الصحفي دانييل مونا والأبحاث التي استند إليها، فليسا محل شك في نظر المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وبعد الأخذ بعين الاعتبار كافة هذه المعطيات، استنتجت المحكمة انتهاكَ المادة 10 للمعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تضمن حرية التعبير.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.