مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“ستون عاما.. والنكبة مستمرة”

swissinfo.ch

ثلاثة أجيال وخمسة حروب وانتفاضات متتالية شهدتها المنطقة العربية منذ نكبة 1948، ولا تزال القضية الفلسطينية على حالها تنتظر حلا، هو اليوم أبعد منالا من أي وقت مضى رغم كل الوعود والتصريحات.

سويس انفو أجرت بالمناسبة حوارا خاصا مع السيدة فرانسواز فور، النشطة السويسرية المعروفة ورئيسة جمعية سويسرا – فلسطين والعائدة مؤخرا من الأراضي المحتلة.

في هذه السنة، يحتفل الفلسطينيون وأصدقاؤهم بالذكرى الستين لنكبة 1948، (التي نشأت على إثرها الدولة الإسرائيلية وعاش خلالها الفلسطينيون عملية تطهير وتهجير مسّـت 700.000 لاجئ أو أزيد، وارتُـكبت في حقهم 60 مذبحة وأفرغت 420 مدينة من سكانها، ولا تزال الأحداث شاخصة في ذاكرة الأجيال المتتالية)، ويغلب على الجميع شعور بالحسرة والخيبة لِـما آلت إليه أوضاع الشعب الفلسطيني، إحساس يتقاسمه جميع المعنيين بقِـيم العدل والحرية في هذا العالم.

فتطورات الأوضاع لم تترك مجالا للتفاؤل، ما جعل الصحفي السويسري كلود فالون يقول: “التطوّرات المتلاحقة التي شهدتها الأشهر الماضية، تدفعني إلى التساؤل: كيف يمكن الوصول إلى حلٍّ لقضية الشرق الأوسط المعقدة؟ المسألة لم تعُـد تُـحَـل بمجرد إعلان دولة”!

التساؤل نفسه يتردّد على أفواه جميع المتابعين للأوضاع الفلسطينية. فمارتان، الناشط بإحدى الجمعيات المدافعة عن حقوق الفلسطينيين بجنيف، يقول: “أنا متشائم جدا، أولا، لتدهور الأوضاع الإنسانية على الميدان، وثانيا، لتراجع الدعم العالمي للقضية الفلسطينية وللحملات الإعلامية التي صرفت الرأي العام في الغرب عن هذه القضية العادلة”.

ومع ذلك، لا يزال للفلسطينيين أصدقاء أقوياء في سويسرا وغيرها. وللوقوف على نظرة هؤلاء للأوضاع الفلسطينية حاليا ولفهم أسباب مناصرتهم للقضايا العربية، أجرت سويس انفو هذا الحوار مع فرانسواز فور، إحدى الناشطات السويسريات في مجال العمل الإنساني، العائدة مؤخرا من زيارة إلى الأراضي المحتلة، وفيه تقدّم لنا شهادة حيّـة عن الوضع في الأراضي المحتلة وقراءتها الشخصية للأحداث وتطوّراتها.

سويس انفو: متى بدأ اهتمامك بالقضية الفلسطينية، وفي أي سياق كان ذلك؟

فرانسواز فور: يعود اهتمامي بالقضية الفلسطينية إلى كوني أنحدر من عائلة فرنسية عاشت في الجزائر زمن الاستعمار، ولفت هذا نظري مبكّـرا إلى ظاهرة الاحتلال، وكنت أتساءل ما الذي ذهب الفرنسيون لفعله في الجزائر، ثم قادني ذلك إلى المقارنة بين احتلال فرنسا للجزائر والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

وانخرطت مبكرا في مناصرة حركات التحرير. وعلى خلاف الذين اهتموا بالقضية الفلسطينية من خلال تتبع تاريخ اليهود في العصر الحديث ومأساة الهولوكوست، الأمر الذي قادهم في النهاية إلى تبرير ما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين، كانت طريقي مخالفة لذلك.

لم يكن من الصعب إدراك الطابع الاستيطاني للدولة الإسرائيلية، ودور الدول الاستعمارية الغربية في نكبة فلسطين من أجل الحفاظ على مصالحها ونفوذها في المنطقة، وذهبت أول مرة إلى الأراضي المحتلة سنة 1989، أي بعد انطلاق الانتفاضة الأولى بسنة واحدة.

سويس انفو: أنت تعيشين في سويسرا، بلد متقدم ومستقر، من أين تستمدّين هذا الاندفاع لمناصرة قضية تنتمي إلى فضاء وعالم مختلف نسبيا؟

فرانسواز فور: صحيح أن سويسرا دولة متقدمة ومستقرة، ولكنني أعتقد أنها لا تقوم بدورها على الوجه الأكمل، بصفتها الدولة الراعية لاتفاقية جنيف الرابعة، وكمواطنة سويسرية، أعتقد أنه بإمكانها إسماع صوتها والدفاع عن احترام القانون الإنساني وحماية المدنيين زمن الحرب.

وما يحدث في غزة هذه الأيام، يتجاوز كل القوانين وكل الأعراف الدولية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، على سويسرا مراجعة تعاونها التجاري مع إسرائيل، وخاصة في مجال التسلح العسكري والتعاون التقني، ومنذ زمن طويل مثلت إسرائيل شريكا تجاريا هاما بالنسبة لسويسرا، وهذا مخالف تماما للسلوك الذي يجب أن تتبعه دولة ديمقراطية تجاه سلطة احتلال.

سويس انفو: تنتقدين سياسة سويسرا في الشرق الأوسط، وقبل فترة انتقد السفير الإسرائيلي الخارجية السويسرية بدعوى خروجها عن تقليد الحياد الذي عُـرفت به في القضايا الدولية، فأين الحقيقة؟

فرانسواز فور: تعليقي الأول، هو أن السفير الإسرائيلي سمح لنفسه بتوجيه دروس للحكومة السويسرية، وخرج بذلك عن الأعراف الدبلوماسية في العلاقة بين الدول، وثانيا، جاءت تلك التصريحات في ارتباط بالموقف السويسري من الملف الإيراني والمساعي التي تقوم بها وزارة الخارجية من أجل التوصل إلى حلول لهذه الأزمة، وثالثا، لرفض الحكومة السويسرية قطع علاقاتها بالحكومة الفلسطينية المُـقالة في غزة وتعاملها مع حماس، برغم الموقِـفين، الأوروبي والأمريكي.

في المقابل، أنا أطالب الحكومة السويسرية بمساعدة الشعب الفلسطيني، فبإمكانها مثلا الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي، لإيجاد آلية لضمان احترام أحكام اتفاقية جنيف الرابعة والعمل على ضمان حصول المدنيين على الخدمات الصحية وحرية التنقل وإيقاف الاغتيالات، كذلك، فهي مطالبة بالعمل مع بقية الدول على تنفيذ قرار المحكمة الدولية بشأن الجدار بعد أن اختارتها المحكمة الدولية للإشراف على ذلك.

سويس انفو: خلال مشوار نضالك، الذي يمتد لأكثر من ربع قرن، هل حدثتك نفسك يوما بالانقطاع عن مناصرة القضية الفلسطينية؟

فرانسواز فور: صحيح أن التحديات جسيمة وأن الواقع الفلسطيني والوضع في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة معقدا جدا، وإذا أضفنا إلى ذلك الدور الغربي المتواطئ، الذي ما فتئ يمارس الضغوط على الشعوب وعلى الأنظمة في نفس الوقت. ومقابل ذلك، هناك جهل تام من الرأي العام الأوروبي لحقيقة الأوضاع على الساحة، كل هذه العوامل تجعلني غير متفائلة بقُـرب المرحلة التي يعُـم فيها السلام ربوع تلك المنطقة.

أما الأمر الثاني، فإنه لا يمكن الاستمرار في الحديث عن السلام، في الوقت الذي يُـحرَم فيه الشعب الفلسطيني من أدنى مقوِّمات الحياة ويعيش حصارا دوليا خانقا، وتمارس إسرائيل عمليات قتل يومي خارج القانون، وعِـوض معاقبة المعتدي، يُـكافأ بمزيد من الضغط على الضحية.

سويس انفو: كنت في الأيام الماضية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، اشرحي لنا كيف يعيش الفلسطينيون في غزة ورام الله؟

فرانسواز فور: بالنسبة لغزة، طلبنا السماح بالعبور إليها، لكن رفِـض طلبنا ولا تسمح السلطات العسكرية الإسرائيلية بالدخول إلا للدبلوماسيين، وأما الضفة الغربية، فهي بكل بساطة سِـجنا، والفلسطينيون يعيشون حياة السجناء، غير أن السجين العادي تضمَـن له إدارة السجن الماء والأكل والتدفئة والرعاية الصحية، وهو على الأقل لا يخاف على سلامته الجسدية.

وأما في حالة الفلسطينية، فيجب تصوّر غياب كل هذه الضمانات، فالدولة الإسرائيلية تسرق الموارد المائية ولا تسمح للفلسطينيين بري زراعاتهم، وللحصول على الماء، يدفع الفلسطيني ثلاث أضعاف ما يدفعه المستعمر اليهودي.

وبالنسبة لحرية التنقل، على الفلسطيني الذي يريد أن يلتحق بالجامعات أو المدارس أو بحقول الزراعة، الحصول مُـسبقا على تصريح من السلطات العسكرية الإسرائيلية، ولهذه الأخيرة مطلق الحرية في منح ذلك التصريح أو حجبه، ويحلو لها من حين لآخر فرض حظر التنقل على الجميع أو على فئة عمرية بعينها، كما أنه “حفاظا على أمن المستوطنين”، لا يسمح للفلسطينيين سلوك الطرق الرئيسية وعليهم استخدام طرق ملتوية.

أضف إلى كل ذلك، الرحلات الطويلة للانتظار أمام الحواجز العسكرية وما يرافقه من إهانة للكرامة الإنسانية واستخفاف بالذات البشرية، وهو وضع يذكِّـرنا بما عاشه آباؤنا في ظل الاحتلال النازي في فرنسا. وبسبب هذه الممارسات، لم يقض الاحتلال على المشروع الوطني الفلسطيني فحسب، بل قضى أيضا على كل أمل لحياة عادية كريمة بالنسبة لكل فرد من أفراد الشعب الفلسطيني.

سويس انفو: أشرت في مناسبة سابقة إلى الضغوط التي تمارسها الجهات المانحة على المجتمع المدني الفلسطيني، ما خطورة هذه الضغوط على المدى البعيد؟

فرانسواز فور: خلال زيارتي الأخيرة إلى المناطق المحتلة، حصل لديّ انطباع أن الدعم الذي تقدمه الجهات المانحة، دولا ومنظمات غير حكومية، هو في الحقيقة دعم غير مباشر لسلطة الاحتلال. فعوض أن تطالب تلك الجهات بإنهاء محنة اللاجئين في الداخل وفي الشتات، كرّست الحالة التي نشأت عقب حربيْ 1948 و1967.

وميدانيا، وبدعوى “عدم استغلال المساعدات الدولية لدعم الإرهاب”، و”تجاوز الفساد المالي والإداري للسلطة الذاتية الفلسطينية”، أسّست هذه المنظمات الحكومية وغير الحكومية، شبكات ومؤسسات خاصة لإيصال مساعداتها مباشرة إلى العائلات الفلسطينية، فأدّى هذا إلى إضعاف مؤسسات المجتمع الفلسطيني.

هذه المؤسسات التي أثبتت فعاليتها في دعم المقاومة الوطنية أثناء الانتفاضة الأولى، أضف إلى ذلك أن هذه المساعدات، وبتوجهها للأفراد مباشرة، خلقت مجتمعا متفككا مرتهنا وتابعا إلى الخارج في كل مقومات بقائه، مما سهّل بعد ذلك على تلك الجهات وعلى إسرائيل التحكّم فيه وابتزازه، وهو ما يمارسونه بطريقتين مختلفين اليوم، في كل من غزة والضفة.

سويس انفو: بعد انتهاء مؤتمر أنابوليس مباشرة، انتظر العالم خطوات إيجابية من إسرائيل، لكنها أعلنت استئناف الاستيطان على مشارف القدس، هل تعكس خطوة مثل هذه جدية في البحث عن السلام؟

فرانسواز فور: أعتقد أن ما تحتكم إليه العقلية الإسرائيلية، ليس متطلبات عملية السلام المستندة منذ مؤتمر مدريد إلى مبدإ “الأرض مقابل السلام”، بل إلى رؤية تلمودية دينية ترى أن أرض إسرائيل تمتد من البحر إلى النهر، وهذا بغض النظر عمّـن يحكم في تل أبيب، حزب العمل أو حزب الليكود، السياسة كانت دائما واحدة، سياسة توسعية تقوم على نهب الأراضي وبناء المستوطنات ورفض عودة اللاجئين، وبالتالي، فالإسرائيليون عندما يتحدثون عن السلام، يتحدثون عن سلامِـهم هم ومن منظور مصلحتهم هم فقط.

سويس انفو: في ضوء هذه الأوضاع الصعبة التي تحدثتم عنها، كيف تقيِّـمين سلوك الأنظمة العربية تُـجاه الفلسطينيين؟

فرانسواز فور: أنا أميّـز بين الأنظمة العربية والسياسات الغربية في المنطقة، وإن كانت هذه السياسات في الحقيقة تحدّد مواقف الدول العربية تُـجاه الشعب الفلسطيني وحرية اتخاذ القرار بالنسبة لهذه الأنظمة محدودا جدا.

ويكفي التذكير هنا بالعقوبات والحصار المفروض على العديد من الدول في المنطقة، بسبب رفضها الانخراط في المشروع الأمريكي الإسرائيلي. وفي المرحلة الراهنة، أأسف للمشاركة الواسعة للأنظمة العربية في مؤتمر أنابوليس الأخير، برغم رفض المنظمين للمؤتمر القبول بالمشروع العربي المشترك، الذي أقرّته القمة العربية في بيروت قبل أربع سنوات، والمتمثل في الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة سنة 1967، قبل أي تطبيع مع إسرائيل، في حين أن المشاركين في مؤتمر أنابوليس قد خضعوا للإرادة الإسرائيلية في ربط التطبيع بمستوى التقدم في المفاوضات بين الطرفين المعنيين.

لكن الشرط الذي تضعه إسرائيل لتقدم المفاوضات، هو “القضاء على الإرهاب ونزع أسلحة الفصائل الفلسطينية”، ويعرف الإسرائيليون أنه ليس بإمكان سلطة عباس فرض سيطرتها على الضفة والقطاع، إلا بالدخول في صراع دَمَـوي مع فصائل أخرى، كالجهاد وحماس وغيرها.. صراع يُـطلب فيه من الأنظمة العربية تقديم دعمها إلى سلطة رام الله، وهكذا تضمن إسرائيل التخلّـص من المقاومة الفلسطينية، بجهود فلسطينية وعربية، وتضمن في نفس الوقت التطبيع مع جيرانها، من دون تقديم أي شيء.

سويس انفو: ما تأثير القطيعة بين غزة ورام الله على الوضع السياسي والمعنوي للشعب الفلسطيني؟

فرانسواز فور: بعد الانتخابات العامة، أصبح المشهد السياسي الفلسطيني أكثر مأساوية.

من ناحية، حماس الفائزة بالانتخابات والتي لا تعترف بالعملية السلمية، مثلما رسمت آلياتها اتفاقات أوسلو وخطة خريطة الطريق، واتخذ هذا مبررا لمحاصرتها وإفشال سلطتها وسحب ورقة فوزها عبر الحصار واعتقال نوابها بالمجلس التشريعي.

ومن ناحية ثانية، عملية تفاوضية يتمسّـك بها عباس وفريقه، جعلت الشرط الأساسي للتقدم فيها خنق المقاومة وتحويل السلطة الذاتية الفلسطينية حارس لأمن إسرائيل، إنه قانون المحتل، وأعتقد أنه ما لم يحصل تغيير في هذه المعادلة، سيظل الوضع الفلسطيني، صعبا جدا، فلا السلطة قادرة على خوض عملية تفاوضية ناجحة، ولا قوى المقاومة قادرة على كسر الحصار، ورد آلة القتل الإسرائيلية.

أجرى الحوار عبد الحفيظ العبدلي

تنحدر فرانسواز فور من أصول فرنسية، وهي سويسرية الجنسية، معروفة بانخراطها في الدفاع عن القضايا العادلة ومناصرة كل ضحايا الظلم والاضطهاد والقمع والاحتلال.

وهي أم لثلاثة أطفال وزوجة لمُـزارع سويسري كبير في مدينة نيون بكانتون فو بسويسرا الناطقة بالفرنسية.

وترجع السيدة فور تمسّـكها بالأرض ومناهضة الاستعمار، لانشغالها مع زوجها بالزراعة.

عملت لسنوات عدة في صفوف النقابات السويسرية، وهي من أنصار قضايا المرأة.

تشغل رئيسة لجمعية “سويسرا – فلسطين”، التي تهتم بمناصرة القضايا الفلسطينية وتقديم الدعم للأطفال المحتاجين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

قامت بالعديد من الزيارات للأراضي المحتلة في إطار العمل الإنساني، وكانت أوّل زيارة لها سنة 1989 وآخر زيارة في ديسمبر 2007.

وهي عضو نشط في “Urgence Palestine”، وهو تحالف يضم أكثر من 15 منظمة وجمعية سويسرية داعمة لقضية فلسطين.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية