سوريا: الأولوية للاستراتيجية لا للديمقراطية
"لم يعد هناك مكان للديكتاتورية. الديمقراطية هي خيار العصر الحديث لكل الشعوب".
هل هذه كلمات الرئيس الأمريكي جورج بوش، وهو “يهّدد” الزعماء العرب بمقدم عهد الديمقراطية في الشرق الأوسط؟
إنه جزء من خطاب مطّول للرئيس اليمني علي عبد الله صالح أمام مؤتمر لحقوق الإنسان عُـقد مؤخّـرا في صنعاء.
وعلّـقت مجلة ” الايكونوميست” البريطانية على هذه الواقعة بقولها: “لو حذفنا اللغة الحماسية في الخطاب المتعلقة بإدانة إسرائيل وإستقلال العراق، لاعتقدنا أن نصه (الخطاب) كُـتب في واشنطن”.
وبالطبع، لم تكن هذه المجلة البريطانية الرزينة تمزح أو تهزل. فمنذ أن أعلنت الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر، التزامها نشر الديمقراطية في “الشرق الأوسط الكبير”، تتدافع كل الأنظمة العربية، للإثبات لها بأنها استملت الرسالة وقبلت البشارة.
كل الأنظمة؟
ليس تماما. هناك استثناء وحيد، وهو سوريا. فهذه الدولة لا تزال ترفض مجاراة “الثورة الديمقراطية الأمريكية” بثورة ولو لغوية، كما تفعل غالبية الحكومات العربية، التي تقوم الآن بعمليات إصلاح أقل ما يُـقال عنها أنها تجميلية وشكلية بهدف وحيد، هو نيل رضى واشنطن.
وهكذا، وفي مقابلة مع “نيويورك تايمز” في شهر نوفمبر الماضي، قال الرئيس السوري بشار الأسد: “القضية هنا هي ما إذا كان للولايات المتحدة رؤيا لحل المشاكل في العراق، وفي منطقة الشرق الأوسط، أم لا؟ إني آمل بأن نتخذ خطوات أفضل نحو الديمقراطية في بلدنا، لكن هذا يتطلب وقتا. لا أحد في سوريا أو في المنطقة يطلب المساعدة من أي دولة لبناء ديمقراطيته الخاصة”.
مثل هذه الكلام لا يُـسمع في العواصم العربية الأخرى. اللغة الوحيدة المتداولة الآن هي لغة علي عبد الله صالح، اللغة الوحيدة التي تريد واشنطن سماعها. لكن، كيف يُـمكن (ولماذا يسمح) لسوريا أن تسبح على هذا النحو في عكس التيار؟
تطوران بارزان
قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال، لابد من التطرق إلى تطورين بارزين طرآ في بلاد الشام الأسبوع الماضي.
الأول، هو الإفراج عن 122 سجينا سياسيا سوريا، معظمهم ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، فيما الباقي هم أعضاء في حزب التحرير الإسلامي، وحزب البعث العراقي، وبعض المنظمات الشيوعية.
والثاني، عريضة الألف مثقف وكاتب ومحامي سوري، التي طالبوا فيها بإصلاحات سياسية، ورفع حالة الطوارئ المفروضة منذ عام 1963 “التي حاصرت المجتمع وشلّـت حركته وزجت بألوف المواطنين في السجون لأسباب تتعلّـق بآرائهم السياسية”، على حد تعبير العريضة.
وأكّـدت العريضة ضرورة “إلغاء كل المحاكم العرفية والاستثنائية، ووقف الاعتقال التعسّـفي، والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، ومعتقلي الرأي، وتعويض المتضررين، وإعادة الاعتبار للمجردين من حقوقهم المدنية”.
كما شدّدت العريضة، التي قررت لجان الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان في سوريا تقديمها إلى السلطات يوم الأحد 8 فبراير بمناسبة ذكرى تولي البعث السلطة عام 1963، على ضرورة إطلاق الحريات الديمقراطية بما فيها الحق في تأسيس الأحزاب والجمعيات المدنية”.
لقد ربط بعض المراقبين بين خطوة إطلاق السجناء وبين العريضة، ليستنتجوا بأن دمشق، ربما تشهد ربيعا جديدا كالذي عاشته عام 2001، والذي تمثل في إطلاق حرية تأسيس المنتديات الثقافية والفكرية، تمهيدا لتليين عروق المجتمع المدني المتيبسة منذ أكثر من 30 عاما.
بيد أن غالبية المتابعين للشأن السوري شكّـكوا في مدى صحة هذا الربط. فعلى سبيل المثال، سجل سمير قصير، الذي وقّع مع مجموعة يسارية لبنانية بيانا يتّـهم السلطات السورية بقتل 20 شيوعيا لبنانيا في الثمانينيات من القرن الماضي، الملاحظات الآتية:
– أثبت الحكم في سوريا أنه لا يريد التغيير إلا بالقطارة. فلا إصلاح يُـنجز حتى النهاية، ولا تحديث إلا ويتأخر، كما يشهد على ذلك التباطؤ في انفتاح القطاع المصرفي.
– لكن، وحتى إن توافرت إرادة التغيير، فمن الواضح أن الحكم الجديد لم يعد جديدا، وهو فقد قوة الدفع.
– تعدد مراكز القوى في المنظومة السورية كفيل وحده بنسف إرادة التغيير، هذا إذا ما افترضنا أنها موجودة أصلا.
هل ملاحظات قصير في محلها؟
يبدو أن الأمر كذلك. فجنبا إلى جنب مع إطلاق سراح المعتقلين (الذين يقال أن معظمهم، إما مصاب بمرض عضال أو بأنه أنهى فترة حكمه منذ زمن طويل)، كانت السلطات السورية في مدينة حلب (ثاني أكبر مدن سوريا) تعتقل 14 مواطنا بتهمة الانتماء إلى “منظمة سرّية”، هي المجتمع المدني! هذا، إضافة إلى تهمة “تفريق صفوف الأمة” بسبب شروعهم في حضور محاضرة عن حقوق الإنسان لم تسمح أجهزة الأمن أصلا بإلقائها.
وقد علّق ميشال كيلو، المفكر السوري على هذه الواقعة بقوله: “إن القاضي العسكري الذي يحاكم المعتقلين، لا يعرف معنى المجتمع المدني. وعلى أي حال، ثمة مفارقة كبرى هنا، وهي أن قوات الاحتلال الأمريكية أفرجت مؤخرا عن مقاومين سوريين سقطوا في يدها في العراق وسلاحهم بأيديهم، فيما القضاء الأمني السوري يحاكم 14 مواطنا في حلب لأنهم قصدوا الاستماع إلى محاضرة”.
الرهانات والبعبع..
إذن، إن “ربيع دمشق – 2″، يبدو مستبعدا. فحتى وإن تكرر بشكل أو بآخر، مثلا عبر مؤتمر وطني عام قد يُـعقد قريبا في دمشق كما يقال الآن، فإن نتائجه ستبقى محدودة ومؤقتة. وهذا يعيدنا إلى سؤالنا الأول: كيف يمكن لدمشق السباحة في عكس التيار الديمقراطي؟ الأسباب تبدو متشعبة الرؤوس.
فالنخبة السورية الحاكمة تراهن على أن الهدف الأمريكي الحقيقي ليس نشر الديمقراطية في الداخل السوري، بل تعديل وتغيير سياسات دمشق في الخارج: العراق، وإيران، وفلسطين (دعم حماس والجهاد)، لبنان (مساندة حزب الله)، برامج الأسلحة غير التقليدية، خاصة الكيماوية منها. وهذا رهان يبدو صحيحا.
فقد ذكرت دورية “وورلد تريبيون” أن الإدارة الأمريكية “رفضت كل المناشدات لرعاية معارضة سورية يُـمكن أن تكون بديلا عن نظام الرئيس بشار الأسد”، وهي نسبت إلى مسؤولين ومحللين أمريكيين قولهم أن الإدارة “تعتقد أن البديل الحقيقي الوحيد للنظام السوري، هم الإخوان المسلمين والأصوليين السُـنّـة المرتبطين بتنظيم القاعدة”. وتبعا لذلك، قررت واشنطن الاكتفاء بدعم المنظمات غير الحكومية السورية المطالبة بحقوق الإنسان والأقليات.
وبدوره، يشّدد فلينت ليفيريت، مسؤول كبير سابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي على أن “البديل لنظام الأسد ليس الديمقراطية، بل الأصولية، في حين أن المعارضة السورية الخارجية ليست القاعدة المناسبة لتغيير المناخ السياسي في سوريا”.
وكان قادة المعارضة السورية في الخارج عقدوا خلال عامي 2001 و2003 لقاءات في واشنطن بمبادرة من “حزب الإصلاح السوري” الذي يرأسه مواطن أمريكي من أصل سوري، هو فريد الغادري. وقد أعلن هؤلاء أنهم يريدون إقامة نظام ديمقراطي علماني في سوريا، وأنهم “ينوون الإثبات للإدارة الأمريكية أنه ليس من الضروري أن يكون الإخوان المسلمون هم البديل عن البعثيين”.
بيد أن لائحة المنظمات التي شاركت في هذه المؤتمرات، والتي تراوحت بين الأقليات المسيحية والكردية، وبين منظمات ديمقراطية سنّـية معزولة، لم تستطع ترك أثر كبير على المسؤولين الأمريكيين. هذا على صعيد المعارضة الخارجية.
أما في الداخل، فإن النظام السوري نجح على مدى ثلاثة عقود في ضرب بنية الأحزاب السورية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي الذي كان في مرحلة ما القوة السياسية الرئيسية في البلاد. لكنه الآن، ومثله مثل الأحزاب الأخرى، سواء الممثلة في السلطة عبر الجبهة الوطنية القومية أو في المعارضة، مشرذم ومبعثر، ومصيره مرتبط بقرار من حزب البعث الحاكم.
الطرف الوحيد الذي لا يزال يمتلك قدرات تنظيمية، هم الإخوان المسلمين. لكن معظم كوادر هذا التنظيم اضطرت إلى الهجرة إلى الخارج بعد أحداث حماه الدموية.
هذه المعارضات الداخلية والخارجية الضعيفة، مضاف إليها “بعبع” الإخوان المسلمين، هي التي تتحكّـم الآن بسياسات واشنطن إزاء دمشق.
غــيــر كافية..
بيد أن هذا لا يعني أن الوضع مُـريح بالنسبة للنظام السوري. صحيح أن الولايات المتحدة لا ترفع شعار تغيير النظام في سوريا، كما فعلت في العراق، وصحيح أنها ترفض الاعتراف بالمعارضة السورية كبديل للنظام، إلا أن الصحيح أيضا أن مطالبها الإقليمية من سوريا حقيقية وجدّية، وهذا أمر يعتبره النظام السوري خطرا على وجوده بسبب الرابط الكبير والقوي بين الدور الإقليمي لسوريا، وبين مبرر وجود النظام وشرعيته.
وعلى سبيل المثال، إذا ما رضخت دمشق للمطالب الأمريكية بسحب قوات حزب الله من جنوب لبنان وجرّدته من سلاحه، فإنها بذلك ستخسر ورقتها الاستراتيجية الرئيسية في العلاقة مع إسرائيل. وإذا ما أغلقت الأبواب في وجه المنظمات الفلسطينية، ستخسر شرعيتها الأيديولوجية القومية أمام شعبها، ثم إنها إذا ما حذت حذو ليبيا، كما تطالبها واشنطن الآن، وتخلّت عن أسلحتها الكيماوية، فستقف حينذاك عارية في بلاط “الإمبراطورية الإسرائيلية” المتمددة.
دمشق تعرف كل ذلك. لكنها تعرف أيضا بأنها مطّوقة ومعزولة، ولا تستطيع أن تصمُـد طويلا في وجه الضغوطات الأمريكية. ولذلك، قررت مؤخرا الهرب إلى الأمام من خلال اللجوء إلى الحضن التركي (عبر أول زيارة يقوم بها رئيس سوري إلى الأناضول في التاريخ الحديث، برغم قضية لواء الإسكندرون)، ومن خلال عروض السلام المتجددة مع إسرئيل، وبالطبع من خلال مواصلة التعاون الكامل مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية حول الإرهاب. لكن، لا يبدو أن هذه المبادرات كافية.
فقد استبعد كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي قبل أيام رفع إسم سوريا من قائمة الإرهاب، مؤكدا أنها “باتت أبعد مما كانت عليه العام الماضي بعدما أخفقت في الرد على ما أوضحته خلال محادثاتي مع الرئيس الأسد”.
وفي الوقت ذاته، كانت مجلة “نيويورك تايمز” تنسب إلى مسؤولين أمريكيين اتهامهم لسوريا بنقل أسلحة من إيران إلى حزب الله وحماس، وتهديدهم بفرض عقوبات عليها وفق “قانون محاسبة سوريا” الذي أقره الكونغرس العام الماضي.
قد تكون الخطوة الأولى..
ماذا يمكن أن تعني كل هذه التطورات بالنسبة لمستقبل الديمقراطية في سوريا؟ إنها تعني أمرين أساسيين اثنين:
الأول، أن نشر الديمقراطية في سوريا ليس على جدول الأعمال الأمريكي المباشر، برغم كل “صيحات الحرب الديمقراطية” الأمريكية. فأولويات واشنطن في بلاد الشام لا تزال أمنية واستراتيجية بالدرجة الأولى.
والثاني، أن فرض الديمقراطية على جداول أعمال مختلف الأطراف بات رهنا بالقوى الديمقراطية السورية نفسها، وبمدى استعدادها لخوض المجابهات لتحقيق ذلك.
وإلى حدّ الآن، لا تبدو “نضالية” الديمقراطيين السوريين واضحة. لكن، إذا ما كان صحيحا ما يقال أن عريضة الألف مثقف سوري أعّدت بشكل مستقل عن السلطات السورية، فهذه قد تكون الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو البديل الديمقراطي في بلاد الأمويين.
قد تكون هذه أيضا الخطوة الأولى نحو تمّدد لغة علي عبد الله صالح إلى القاموس السياسي السوري.
سعد محيو- بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.