سوق “رمادية” للسلاح في سويسرا!
انطلق الجدل مبكرا في سويسرا حول مساعي السلطات الفدرالية للحد من انتشار الأسلحة الشخصية بعد سلسلة من أعمال العنف الخطيرة التي هزت الرأي العام بشدة..
ساكن هلفتسيا حرّ ومسلح! هذا هو لب الأسطورة التي يتغذى منها الخيال الجمعي لأغلبية السويسريين، سكان قطعة الأرض الصغيرة التي تعرف منذ عدة قرون في وسط القارة الأوروبية بـ ” هلفتسيا”، الإسم اللاتيني القديم للكونفدرالية!
هذه الصورة القديمة لم تتبدد مع نشوء الدولة السويسرية الحديثة في منتصف القرن التاسع عشر بل تواصلت في أشكال جديدة، لعل أبرزها يتمثل في انتشار جمعيات الصيادين ونوادي الرماية في كل قرية تقريبا، وفي سهولة اقتناء وتداول الأسلحة الشخصية وتجميعها، إضافة إلى ما تقتضيه صيغة جيش الميليشيات من ضرورة احتفاظ معظم الذكور الذين تقل أعمارهم عن الخامسة والأربعين باسلحتهم في بيوتهم.
لكن بعض بنود قانون جديد اعتمد عام تسعة وتسعين لتنظيم مسك وبيع الأسلحة فتحت ثغرة خطيرة، أدت إلى مسارعة الحكومة الفدرالية إلى إطلاق مراجعة سريعة للقانون خصوصا بعد حوادث مريعة راح ضحيتها العديد من السكان في مناطق متفرقة من البلاد مثل تسوغ ونوشاتيل وزيوريخ.
ويرى المسؤولون الأمنيون أن الخلل الرئيسي في القانون الفدرالي حول الأسلحة يكمن في التخفيف الذي أدخل على عملية انتقال ملكية قطع السلاح بين الخواص. فمن حق أي شخص يملك قطعة سلاح بصفة شرعية أن يحول ملكيتها للغير شريطة تحرير عقد يجب أن يحتفظ به البائع عشرة أعوام.
جرائم بشعة
وقد كشف التطبيق العملي للقانون الجديد أن غياب أي مراقبة إلزامية من طرف السلطات للصفقات التي تتم بين الخواص أدى إلى نمو واسع لما أصبح يلقب بالسوق الرمادية للأسلحة في سويسرا التي لم يعد بالإمكان تحديد ملامحها بدقة أو إحصاء كميات الأسلحة المتداولة فيها. وقد انضافت هذه الظاهرة إلى السوق السوداء الموجودة سابقا والتي تثير بدورها انشغال السلطات الأمنية في الكانتونات.
وفي الوقت الذي كانت فيه لجنة من الخبراء التابعة كلفتهم الحكومة الفدرالية بإعداد جملة من المقترحات الرامية لتفادي ما برز من اختلالات، شهدت سويسرا سلسلة من الجرائم الخطيرة استعملت فيها الأسلحة النارية، بشكل متعمد أو عشوائي، وأسفرت عن سقوط عدد كبير من الضحايا في بيوت شخصية أو في أماكن عمومية مثل الهجوم الذي قتل فيه ثلاثة وزراء وأحد عشر نائبا في برلمان تسوغ المحلي أثناء انعقاد جلسة علنية في شهر سبتمبر الماضي، وهو الحدث الذي هز سويسرا بشدة.
هذه الجرائم البشعة أطلقت مجددا الجدل حول الموضوع بين الأطراف المعنية، لكن المتمسكين بحرية حمل وامتلاك السلاح – الذين يمثلون قوة ضغط فعالة في المجتمع السويسري – اعتبروا أن الأمر لا يتجاوز سوء تطبيق للقوانين القائمة ورفضوا أي محاولة جديدة لضبط انتشار الأسلحة الخفيفة أو منع بعضها.
ويبدو أن اختلاف الممارسة من كانتون لآخر في بلد كونفدرالي مثل سويسرا وتعدد أساليب التعامل مع الموضوع لأسباب تاريخية واجتماعية قد عقّدت مهمة الباحثين عن حلول لهذه المعضلة التي أصبحت تواجه أصحاب القرار محليا ووطنيا.
جبهة الرفض!
وفي الوقت الذي لم تتضح فيه بعد تفاصيل المقترحات التي تعكف لجنة الخبراء على بلورتها، كشفت صحيفة لوتون الصادرة في جنيف عن أهم توجهاتها المتمثلة في تشديد الرقابة على عمليات بيع الأسلحة بين الأفراد ووضع حد لبعض الإستثناءات (مثل تسامح القانون حاليا مع إجراءات نقل ملكية الأسلحة بعد وفاة أصحابها) وإضفاء قدر أكبر من “الترتيب والتنظيم” على وضع أصناف أخرى من الأسلحة مثل الخناجر والنسخ المشابهة جدا للأسلحة المتداولة.
لكن السيد هانس فوست نائب رئيس منظمة برو- تال (Pro-Tell) الذي تضم المدافعين عن حرية تملك السويسريين للسلاح يرفض بشدة اعتماد المزيد من التشريعات للحد من انتشار الأسلحة لدى الأفراد، لكنه يدعو إلى فرض تضييقات على جديدة على الأجانب نظرا لما يعتبره اختلافا في العقليات.
فالسويسريون المجبرون على القيام بالخدمة العسكرية من الثامنة عشرة إلى الخامسة والأربعين من العمر متعودون منذ عدة أجيال على تحمّل مسؤولية السلاح الفردي. فالمواطن، على عكس الأجانب المقيمين في الكونفدرالية، “لا يحمل سلاحه بنفس الأسلوب الذي يحمل فيه السكين” على حد قول نائب رئيس منظمة برو – تيل.
وفي الوقت الذي يقر فيه السيد فوست بوجود بعض النقائص في ما يتعلق بالنسخ المقلدة للمسدسات مثلا، عبر عن خشيته من أن يكون سعي السلطات الفدرالية للتأقلم مع التضييقات المفروضة على تملك وتجارة الأسلحة في فضاء الدول الأوروبية المنضمة إلى اتفاقية شنغن هو الدافع الرئيسي من وراء البحث عن تغيير القانون الحالي.
الجدل سيكون حاميا
وفي انتظار نشر السلطات الفدرالية لتفاصيل التحويرات المرتقبة وانطلاق النقاش البرلماني حولها، ارتفعت المزيد من الأصوات الداعية إلى التعجيل بسن قوانين تمنع الحصول على الأسلحة بعد أن اتضح أن ثلث الأسلحة المتداولة في بعض الكانتونات فحسب مسجل رسميا لدى المصالح الأمنية!
وعلى الرغم من أن سويسرا، التي تشتهر في العالم باستتباب الأمن والهدوء التام، لا تشهد أحداث عنف أو إجرام مشابهة لما تعرفه الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية المجاورة لها مثل ألمانيا أو فرنسا، إلا أن سلسلة الأحداث الدامية التي عرفتها في الآونة الأخيرة وتزايد اللجوء إلى استعمال السلاح لفض النزاعات العائلية أو الشخصية قد تدفع البرلمانيين إلى محاولة طمأنة مواطنيهم دون فقدان تأييد “لوبي الرماة” ذي الصوت المؤثر في المواعيد الإنتخابية!
كمال الضيف – سويس إنفو
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.