سي أيلاند: تاريخ قديم بحبر جديد؟
لماذا وضعت قمة الثمان الكبار في سي أيلاند الشرق الأوسط الكبير مع إفريقيا السمراء في سلة واحدة؟
سؤال غاب عن معظم الأذهان، إلا أن هدف الغرب الوحيد من الإصلاحات، يتمثل في “حصر خسائر الدول العربية الفاشلة” في إطارها المحلي، ومنع مضاعفاتها من الوصول إلى الغرب.
لم ينتبه المحللون العرب إلى هذا التطور المهم لسببين: الأول، أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يناقش فيها الثمان الكبار في قممهم مسألة الفقر العالمي، خاصة في إفريقيا غير العربية التي تعتبر أفقر منطقة على وجه البسيطة وأقلها أمنا وإستقرارا.
والثاني، أنهم كانوا مهتمين بمعرفة مصير مبادرة الشرق الأوسط الكبير الأمريكية بعد الحملات العنيفة التي تعرضت لها من جانب حلفائها الأوروبيين كما العرب.
وبالتالي، لم يفكر هؤلاء بالعثور على رابط ما في وضع القضيتين، الإفريقية والشرق أوسطية على طبق واحد في القمة، اللّـهم ربما الصدفة وحدها. لكنهم كانوا مخطئين.
فالثمانية الكبار حين دمجوا القضيتين، كانوا يعرفون ما يريدون، ويريدون ما يعرفون، والدليل واضح: تحويل القمة للمرة الأولى في تاريخها من مؤسسة تسوس الاقتصاد العالمي إلى هيئة تقود الاقتصاد والسياسة العالميين معا، ومن ثم، اقتراح حلول سياسية واقتصادية في آن معا للأفارقة والعرب، تنطلق من مرجعية لا علاقة لها بمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولها كل العلاقة بالتحليل العلمي البارد.
ما طبيعة هذه المرجعية؟
هنا، وأمام هذا السؤال، نجد أنفسنا وجها لوجه مع تطويرات خطيرة في المفاهيم قد تُـسفر عن ولادة نظام سياسي عالمي أخطر. والعنوان الرسمي لهذه التطويرات هو: كيفية مواجهة الدول الثماني الكبار (أو بالأحرى الغرب، لأنه معني أكثر بها) لمعضلة “الدول الفاشلة” في العالم الثالث، ليس لأهداف إنسانية، بل لأن هذه الدول تشكـّل بؤرة ممتازة لترعرع الإرهاب والجريمة المنظمة العالمية، ومواكب الهجرة من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني.
وقد نشر مركز التنمية العالمي الأمريكي مؤخرا تقريرا شاملا حول هذه المسألة، ركـّز فيه على النقاط الرئيسة الآتية:
* “التحديات الكبرى التي تواجه السياسة الخارجية هذه الأيام، وهي الإرهاب، والجريمة العابرة للقوميات، والفقر العالمي، والأزمات الإنسانية معقدة ومنتشرة على نطاق واسع ولها أسباب متباينة. ومع ذلك، هناك خيط يربط بينها: إنها كلها تنشأ في الدول النامية التي تفتقد إلى القدرة، وأحيانا الإرادة على الرد.
* هناك ثلاث “فجوات” في هذه القدرة، تتمثل في الفشل في ضمان الأمن، وتوفير الحاجيات الأساسية للمواطنين، وإقامة شرعية سياسية.
* العديد من الدول تعاني من هذه الفجوات الثلاث معا (أفغانستان، وأنغولا، وبوروندي، وهاييتي، وسيراليون، والصومال، والسودان .. الخ)، فيما تعاني 50 دولة من واحد او اثنين من هذه الفجوات.
وبرغم أن تقرير مركز التنمية لم يضع الدول العربية في خانة هذه الدول الخمسين، إلا أن الإشارة الضمنية إليها كانت واضحة، إذ أن كل هذه الدول، دون استثناء تقريبا، فشلت في توفير الأمن الاقتصادي لمواطنيها، ناهيك بالطبع، بالشرعية السياسية، وبعضها يعاني الآن حتى من العجز عن توفير الأمن. والحل الذي يقترحه المركز ببساطة، هو العمل على “ملء هذه الفجوات”. لكن كيف؟ عبر التدخل الخارجي!
وزارة الاستعمار
هذه المسألة الأخيرة، أي التدخل، هي مدار نقاشات مستفيضة هذه الأيام في الولايات المتحدة، بيد أنها نقاشات نظرية ترقص على إيقاع برامج تنفيذية:
1 – فقد اقترحت وزارة الدفاع الأمريكية تدريب “قوات حفظ سلام” إفريقية (بإشرافها بالتأكيد)، استعدادا للأزمات المستقبلية.
2- وتخطط وزارة الخارجية الأمريكية لإقامة مكتب جديد يهتم بعملية إعادة البناء في فترة ما بعد الصراع (أو ما بعد انتهاء التدخل العسكري الأمريكي)، وهذا اقتراح أطلقه أساسا السيناتور جيمس لوغار والسيناتور جوزف بادين.
3- ويدرس البيت الأبيض إنشاء دائرة وزارية للتعامل مع أزمات ما بعد الصراع.
وحتى الآن، فإن التعاطي الأمريكي مع “الدول الفاشلة” أو “الضعيفة” مبعثر على وزارات وإدارات عدة. فالبنتاغون يقوم بتدريب “قوات السلام”، ووزارة العدل الأمريكية تدرّب ضباط الشرطة، ووزارة المالية الأمريكية ترسل الخبراء الاقتصاديين، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تمّول الحكومات “العالمثالثية” التي تسير على طريق الإصلاحات. وهذا التبعثر، يحفز المسؤولين الأمريكيين على دراسة فكرة توحيد كل هذه الجهود في إدارة أو وزارة واحدة، توفيرا للوقت وزيادة للفاعلية.
فهل تكون هذه الوزارة نسخة غير منقحة عن وزارة “الخدمة الاستعمارية البريطانية” السابقة؟
جيفري غارتن، عميد كلية الإدارة في جامعة يال واحد كبار مساعدي هنري كيسنجر، وسايروس فانس، لا يرى حرجا في ذلك، وكتب في مجلة “فورين بوليسي” الشهيرة: “يجب تشكيل وكالة دائمة لمعالجة أوضاع ما بعد التدخلات العسكرية الأمريكية في الدول الأخرى. ومثل هذا المسعى يعترف بالحقيقة بأن أمتنا ستكون مُـجبرة على التدخل عسكريا في العديد من الدول الأخرى خلال العقود المقبلة، وبأن نجاح هذا التدخل يعتمد على قدرتنا على إقامة الحد الأدنى من الاستقرار ووضع أسس التقدم الاقتصادي والسياسي اللاحق”
ويخلص جيفري غارتن إلى القول: “باختصار، وبوصفها إمبراطورية في كل شيء إلا الاسم، يتّعين على الولايات المتحدة أن تنشئ مؤسسة تشبه بحرفيتها (بكسر الحاء وفتح الراء) وتركيزها ومواهبها لدائرة الخدمة الاستعمارية البريطانية”.
وثيقتان وهدف واحد
هل اتضحت الرسالة الأمريكية؟ يفترض ذلك. على أي حال، المضمون الحقيقي (أو ال karnel ، كما يقول الأمريكيون) لوثيقتي “سي أيلاند”: “الشراكة من أجل التقدم والمستقبل المشترك في الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا”، و”مجموعة الثماني لدعم الإصلاح”، جاء ليشير إلى هذه المعالجات لـ “الدول الفاشلة” العربية، بدون استخدام هذا التعبير.
فالوثيقتان أسقطتا هدف “الثورة الديمقراطية” الأمريكي السابق، وعادتا إلى شعار “الاستقرار” الذي ضمن للاستبداد العربي الاستمرار والازدهار طيلة السنوات الستين الماضية. والآن، سيكون هدف الغرب الوحيد من الإصلاحات، هو ضرب البيئة الفكرية والثقافية للإرهاب بدون المرور بمرحلة التغيير السياسي الديمقراطي، وهذا يحقق هدف مجموعة الثماني في “حصر خسائر الدول العربية الفاشلة” في إطارها المحلي، ومنع مضاعفاتها من الوصول إلى الغرب.
والوثيقتان منحتا النخب الحاكمة العربية، الفاسدة في معظمها، شرعية جديدة، حين وضعتا برامج تنفيذية لخلق نخب متوسطة (100 ألف مدرّس، 250 ألف رجل أعمال صغير ومتوسط.. الخ) تعمل تحت إشرافها.
حاولت وثيقة “الشراكة من أجل التقدم” التغطية على هذه الحقيقة، حين قالت إنها ستتعامل على قدم المساواة مع الأطراف الثلاثة الرئيسية في المجتمعات العربية، وهي الحكومات ورجال الأعمال والمجتمع المدني. بيد أن واضعي الوثيقة يعرفون أكثر من غيرهم أن القطاع الخاص العربي، لا هو قادر ولا هو راغب في لعب دور تاريخي لتحديث بلدانه، وأن المجتمع المدني العربي هو الآن (وحتى إشعار آخر) يتخبّـط في أولوياته بين حريات شخصية يريدها من أنظمته، وبين تحرر وطني وقومي يريده من الغرب نفسه.
وفي مثل هذه الأوضاع، ليس من الضروري التساؤل عمّـن سينال حصة الأسد من جهود مجموعة الثماني التغييرية والمالية: إنها “الدول الفاشلة” نفسها، طالما أنها قادرة على توفير الأمن، وأيضا على إجراء بعض الإصلاحات التجميلية.
وأخيرا، تعاطت الوثيقتان مع المنطقة العربية بالمفرق لا بالجملة. فهي ركّـزت على تطويرات اقتصادية واجتماعية هامشية في كل بلد عربي على حدة، وأغفلت الموضوع الرئيسي، وهو حاجة هذه المنطقة إلى تطوير سوق عربي إقليمي كبير، قادر على المنافسة والاستمرار في صراع البقاء الاقتصادي الدولي. وهذه بالطبع لم تكن صدفة أو سقطة فكرية.
فأمريكا، وربما أوروبا أيضا، لا تزال تعتبر التوحد العربي الخطر الاستراتيجي الرئيسي عليها، كما أنها لا تزال تطل على هذه الرقعة الحضارية العريقة من العالم بصفتها مجرد كم “جغرافي – بشري” ملقى على ضفتي نهر التاريخ: الضفة الأولى تحتوي على النفط، والضفة الثانية تعسكر فيها إسرائيل.
وبالتالي، ركّـزت الوثيقتان على ما يهم الغرب في المنطقة: مساعدة “الدول العربية الفاشلة” على البقاء مع بعض التحسينات في مجال سد “فجوات القدرات” في إطار ما تقرره إدارة “الخدمة الاستعمارية” الجديدة.
الشرق الأوسط الكبير وإفريقيا في سلة واحدة؟ أليست هذه إعادة كتابة تاريخ قديم بحبر جديد؟
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.