إجراءات التقشف وتدهور أسعار صرف العملات “تضرب” جنيف الدولية
تلقي إجراءات التقشُف الحكومية في العديد من بلدان العالم وتقلبات أسعار صرف العملات بظلالها القاتمة على مدينة جنيف، التي تؤوي آلاف الموظفين العاملين في المؤسسات الدولية الكثيرة التي تحتضنها المدينة الواقعة على ضفاف بحيرة ليمان.
وفيما يُقَلِّل بعض المسؤولين السويسريين من أهمية الموجة الأخيرة للتخفيضات المالية وفقدان الوظائَف وَسط العديد من الوكالات الدولية الـ 32 التي تتخذ من المدينة الواقعة غرب سويسرا مقرّاً لها، تراقب السلطات المحلية في الكانتون تطور الأحداث عن كَثب.
وفي الوقت الذي تقترب فيه العديد من هذه المؤسسات من نقطة الإنهيار نتيجة الضغوط المالية الناجمة عن الأزمة الإقتصادية الإخيرة، وَجَهَت نافي بيلّاي مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الانسان مؤخراً نداءً عاطفياً من أجل الحصول على المزيد من الأموال لمواجهة الإرتفاع الكبير في الطلبات على مكتبها في أعقاب اندلاع ثورات الربيع العربي.
و في لقاء جمعها مؤخرا مع صحفيين في مدينة جنيف، قالت المحامية الجنوب إفريقية :”يُهدِّد الوضع بأن يصبح مُزمنا”. ولدى المفوضية حاليا 1000 موظف يعملون في مركزها الرئيسي في هذه المدينة. ويحتاج مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان الى مبلغ 141 مليون دولار (117 مليون فرنك سويسري) على شكل تبرعاتٍ، علاوة على مخصصاته من الأمم المتحدة لهذه السنة. ولكن، وحسب بيلاي، فإنَّ المانحين مُستعدون لتقديم مبلغ يتراوح بين 98,7 و 103,4 مليون دولار فقط.
وفي شهر مايو 2011، أعلنت منظمة الصحة العالمية عن خفضها مبلغ 1 مليار دولار من ميزانيتها للسنتين الماليتين 2012 – 2013، وإلغائِها 300 وظيفة في مقرِّها الكائن في جنيف، بسبب القيود المالية في الدول المانحة.
و تعاني منظمات أخرى تتخذ من جنيف مقراً لها من صعوبات مالية أيضاً، كما هو حال اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي قامت بِقَطع مبلغ 85 مليون دولار من ميزانيتها البالغة 1 مليار دولار للعام الحالي 2011، كما ألغت 32 وظيفة، في وقتٍ وصلت فيه الطلبات على المساعدات الإنسانية الى مستوى غير مَسبوق.
ووفقا لجوسي هانهيماكي، الخبير في الأمم المتحدة، قد تكون هناك إعلانات مُماثلة في طريقها للصدور. و كما قال الأستاذ في معهد الدراسات الدولية العليا والتنمية في تصريح لـ swissinfo.ch: “من المُرَجَّح أن تكون هناك المزيد من التخفيضات”، مضيفا أنه “من المُحتَمَل جداً أن نسمع شيئاً من المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين خلال الأشهر الستة أو الثمانية المقبِلة، و لكن ربما ليس بِحَجم التخفيضات التي شهدتها منظمة الصحة العالمية”. واستطرد ليشير إلى أنه “هذا النوع من الإتجاه الذي لا يمكن تلافيه منذ عام 2008”.
ميزانيات واقعية
منظمة الأمم المتحدة التي تحتفظ بمقرها الأوروبي في مدينة جنيف، ليست مُستثناة من هذه الظروف، إذ تمر هي الأخرى بأوقاتٍ صعبة. وقد طلب بان كي مون الأمين العام للمنظمة من المسؤولين إعداد ميزانية تقِّل ب 3% عن الميزانية الحالية البالغة 5,4 مليون دولار للفترة 2012 – 2013.
وفي حديث أدلت به إلى صحيفة لوتون (Le Temps) الصادرة بالفرنسية في جنيف، قالت كورين مومال- فانيان الناطقة باسم الأمم المتحدة في جنيف: “علينا أن نكون واقعيين، فحتى أغنى دول العالم تقوم بإتباع سياسة تقشف و تُخفض ميزانيتها. وعلى منظمة الأمم المتحدة أن لا تكون أقل إنضباطاً”. وأضافت: “سوف تؤدي هذه التخفيضات في الميزانية إلى فقدان عدد من الوظائف في نيويورك وجنيف وأماكن أخرى”.
و حَسْب مومال- فافيان، فأنَّه من المُبَكِّر جداً التكهن بعدد الوظائف المُعَرَّضة للخطر، حيث لن يتم إعتماد ميزانية السنتين الماليتين 2012- 2013 إلّا في شهر ديسمبر القادم. و لكن، و كما تقول: “سوف تكون الخسائر أقل أهمية من تلك التي أعلنت عنها منظمة الصحة العالمية”.
وبدورها، تراقب المنظمات غير الحكومية التي تتخذ من جنيف مقرّاً لها الوضع بقلق، وخاصة تلك التي تَحصَل على تمويلها من الحكومات. غير أنَّ معاناة هذه المنظمات تختلف من واحدة لأخرى. فقد قامت منظمة العمل الدولية بِخَفض ميزانيتها للسنتين الماليتين 2012 – 2013 بنسبة 5% لتصل الى 745 مليون دولار، و لكنها لا تُخَطِطُ لخَفض عدد الوظائف.
و يتسم الوضع المالي بالإستقرار كذلك في المنظمة الأوروبية للبحوث النووية (Cern)، ومنظمة التجارة العالمية، والمنظمة العالمية للملكية الفكرية. وهو ما يمكن أن يُقال أيضاً بالنسبة لمنظمة العالمية للأرصاد الجوية.
الفرنك القوي
وفي الواقع، تعتبر مسألة الفرنك السويسري القوي إحدى القضايا غير العادية التي يتوجب على المنظمات التي تتخذ من جنيف مقرا لها التعامل معها. حيث ارتفعت قيمة الفرنك بمعدل 25% مقابل اليورو والدولارعلى مدى السنوات الأربع الماضية.
ويتم إحتساب العديد من الميزانيات والتبرعات باليورو أو بالدولار الأمريكي، في الوقت الذي يتوجب فيه على هذه المنظمات تحمُّل الكثير من التكاليف الجارية مثل رواتب موظفيها بالفرنك السويسري.
ومثلما أوضح دانتي مارتينيلي، السفير السويسري لدى الأمم المتحدة في جنيف، فقد عانت البعثات الدبلوماسية الدائمة الـ 168 لدى الأمم المتحدة في جنيف من “ضربة خاصة من قِبَل الفرنك السويسري القوي”، ذلك أنَّ تمويل هذه البعثات من قِبَل حكوماتها يتمّ إمّا بعُملتها المحلية أو بالدولار.
مع ذلك، يبقى الدبلوماسي السويسري متفائِلاً حول المستقبل الطويل الأجل لمدينة جنيف كمركزٍ لهذه المنظمات. وهو رأي يشاطره اوليفييه كوتو، مندوب الكانتون المسؤول عن العلاقات الدولية للمدينة الذي قال: “لدَي إنطباع بأن الأمر ليس جديداَ تماماً. نحن نمر بِمرحلةٍ صعبة، وهناك حاجة للتوفير، كما أن هناك وظائف مُهددة. ولكن نظرةً على المدى الطويل تُبَيِّن لنا أن قابلية الجذب التي تتمتع بها مدينة جنيف تبقى قوية جداً”.
كما أضاف:”لم يكن لدينا أبداً مثل هذا العدد من مُمَثلي المنظمات الدولية. كما أنَّ هناك مؤشرٌ آخر يتمثل بالبناء، حيث تَستَثمر مُنظمات مثل منظمة التجارة العالمية، والمنظمة العالمية للملكية الفكرية، و اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمنظمة الأوروبية للبحوث النووية جميعها في البُنى التحتية”.
المراقبة عن كثب
السلطات المحلية تراقب هذه التطورات عن كثب، لاسيما وأنَّ العائدات الإقتصادية التي يجنيها الكانتون من “جنيف الدولية” تبلغ حوالي 3 مليار فرنك سنوياً.
وفي هذا السياق، قال بيار – فرانسوا أونغر، وزير إقتصاد كانتون جنيف لصحيفة “لوتون” Le Temps الصادرة بالفرنسية في نفس الكانتون، بأنَّ القيود المفروضة على الميزانية و خَفْض الوظائِف “تُقلِق الحكومة ولكنها لم تكن مفاجِئة”، وبِأنَّها مجرد “صعوبات عابِرة”.
و لكن دافيد هيلَر الذي يشغل منصب وزير مالية الكانتون كان أكثر حذراً حيث قال:” إذا كانت الأزمة الإقتصادية المُقبِلة المُتوقعة في عام 2015 وفقاً للدورات الزمنية للإقتصاد العالمي عنيفة جداً، وأدَّت إلى هبوطٍ في الدولار، فقد يُلقي هذا بظلالٍ من الشك على جنيف الدولية”.
تقع مدينة جنيف (عاصمة كانتون جنيف) الناطقة بالفرنسية في الطرف الغربي لبحيرة ليمان (يُسميها البعض أيضاً بحيرة جنيف)، تحيطها فرنسا من جميع الأطراف تقريباً.
يبلغ طول حدود كانتون جنيف مع جارته الفرنسية 103 كيلومترات، في حين لا تزيد حدودها مع باقي سويسرا عن 4,5 كيلومترات فقط.
يناهز عدد سكان مدينة جنيف 185,000 نسمة، في حين يبلغ العدد الإجمالي لسكان الكانتون 453,439 نسمة (حسب إحصاء عام 2008).
يغطي التجمع الحضري لمدينة جنيف (الذي يشمل 9 مدن أخرى) أكثر مساحة الكانتون، وينتشر الى داخل فرنسا (بعدد سكان يبلغ 730,000 نسمة). ويشكل الأجانب نحو 40% من سكان جنيف.
تشتهر مدينة جنيف، باحتضان المقر الأوروبي للأمم المتحدة وبأنها مقرّ لـ 32 منظمة دولية من بينها منظمة الصحة العالمية، ومنظمة التجارة العالمية، واللجنة الدولية للصليب الأحمر. وتوفر “جنيف الدولية” كما يُطلَق عليها، عائدات إقتصادية سنوية للكانتون تقدر بحوالي 3 مليار فرنك سويسري.
إجمالا، يقطن نحو 40,000 شخص من الدبلوماسيين الدوليين وموظفي الخدمة المدنية في مدينة جنيف. بالإضافة الى ذلك، يوجد حوالي 2400 موظف من العاملين في منظمات غير حكومية. ويعمل حوالي 8,500 موظف ضمن أسرة منظمة الأمم المتحدة في جنيف، والتي تعتبر أكبر تجمع لموظفي المنظمة الأممية في العالم. كما توجد أيضاً 168 بعثة دبلوماسية دائِمة لدى الأمم المتحدة.
في بداية يوليو 2011، رَفَعَت الحكومة السويسرية دعمها المالي لمساعدة المنظمات العاملة في مدينة جنيف وكذلك المؤتمرات الدولية بِمِقدار 54 مليون فرنك سويسري، ليَصل الى 118 مليون فرنك.
تواجه مدينة جنيف منذ عدة أعوام مُنافسة قوية لإستقطاب المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية من مُدن عدة مثل فيينا، وكوبنهاغن ولاهاي وبون وبودابست ومدريد، بالإضافة إلى أطراف فاعلة جديدة مثل سنغافورة، وأبو ظبي، ودبي، والدوحة وسيول.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.