البرلمان السويسري يُحبط محاولة جديدة لإضفاء الشفافية على تمويل الأحزاب
تعد سويسرا واحدة من البلدان الديمقراطية القليلة التي لا تتوفّر فيها شفافية في طرق تمويل الأحزاب السياسية، وهو ما جعلها عرضة لإنتقادات دولية. ولقد جوبهت آخر محاولة لتصحيح هذا الوضع برفض قوي من البرلمان الفدرالي.
وتشير مارتينا كاروني، أستاذة القانون العام والخبيرة في القانون الدولي بجامعة لوتسرن إلى أن سويسرا، ومعها السويد “هما بمثابة جزيرتيْن معزولتيْن في أوروبا في هذا المجال. وإذا كانت الأحزاب في السويد على الأقل، تحترم بعض القواعد التنظيمية، فإنه في سويسرا لا يتوفّر الحد الأدنى من الشفافية: الوضع يشبه الصندوق الأسود الكبير”.
لقد تضاعفت منذ الستينات المحاولات الهادفة إلى إضفاء الشفافية في هذا المجال، ولكن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل إلى حد الآن: ولا يزال الغموض سيد الموقف، ليس فقط بشأن تمويل الأحزاب، بل وايضا في ما يتعلّق بالأموال التي تجمعها لجان الدعم لمساندة هذا المقترح المقدم لإستفتاء عام أو لمعارضته، وأيضا الأموال التي يتبرّع بها بعض السياسيين بشكل فردي.
نجد في طليعة المعترضين على اعتماد أي قواعد تنظيمية في هذا المجال، وبشكل دائم الأحزاب الرئيسية الثلاث المنتمية إلى الوسط واليمين: الحزب الديمقراطي المسيحي، والحزب الليبرالي الراديكالي، وحزب الشعب. ولا غرابة في الأمر، خاصة بالنسبة لحزب الشعب (يمين محافظ وشعبوي)، فهذه الأحزاب من المعروف انها هي التي تستلم الاموال الطائلة من الشركات ومن الخواص.
“لم تعد بلادنا واحة للفضيلة”
تلاحظ مارتينا كاروني بأنه “وعلى خلاف ما يحدث في بلدان أخرى، لا نحبّذ في سويسرا الحديث عن المال، او عن الموارد والمداخيل: لا يفضّل المواطن السويسري التصريح بما يكسب. وحتى الآن، ترفض الأحزاب البرجوازية كل المحاولات الرامية إلى تحقيق الشفافية مبررة موقفها بأنه لا يجب أن نتحدث عن المال في المجال السياسي”.
وتضيف هذه الخبيرة: “لا تزال تسود في سويسرا صورة عامة على أن كل شيء يسير على ما يرام، وأن الجميع يحترم الضوابط الاخلاقية، وليس هناك حاجة إذن إلى اعتماد قواعد تنظيمية. ولكن، ومثلما رأينا في القطاعيْن المالي والإقتصادي، تغيّرت الأمور في سويسرا كذلك، لم تعد بلادنا واحة للفضيلة”.
ومن الاسباب التي يتم اللجوء إليها في رفض الشفافية، أنها سوف تدفع العديد من المتبرعين إلى خفض إسهاماتهم وربما سحب دعمهم بالكامل. ولكن مارتينا كاروني تشدد على ان التجارب التي شهدتها بلدان اخرى تبيّن أن هذه المخاوف لا أساس لها من الصحة.
ووفقا لاستاذة القانون، غياب الشفافية ينتهك المبادئ المنصوص عليها في الدستور الفدرالي، والذي يحمي في المادة 34 “حرية إعلام المواطنين، والتعبير المخلص والموثوق به عن إرادتهم”. وتتابع كاروني قائلة: “لكي تتشكل أراؤهم بحرية، يجب أن تكون جميع المعلومات متاحة امام الناخبين. ومن المهم جدا ان يعرف هؤلاء من يقف وراء هذا الحزب، ومن يموّله”.
انتقادات من الخارج
لفت هذا الإفتقار إلى الشفافية اهتمام العديد من المنظمات الدولية بعد ان كان موضع انتقاد من الأحزاب اليسارية في الداخل. فقد تعرضت سويسرا التي تقدم نفسها نموذجا للديمقراطية إلى انتقادات كل من منظمة الامن والتعاون في اوروبا ومجموعة الدول المناهضة للفساد مباشرة عقب اجراء الإنتخابات الفدرالية في شهر اكتوبر 2011، كما تتعرض سويسرا بأستمرار إلى انتقادات منظمة الشفافية الدولية الغير الحكومية.
ويردّ كريستيان فاسرفالن، النائب البرلماني عن الحزب الليبرالي الراديكالي بالقول: “إذا قررنا تغيير شيء ما، فإن ذلك لن يكون بالتأكيد تحت ضغط من الخارج، بل إذا كانت هناك رغبة مشتركة في الداخل. وبحسب رأيي في ظل نظام توافقي مثل النظام الذي نحتكم إليه، والذي تشارك في الحكومة فيه الأحزاب الرئيسية، لا أرى ان هناك حاجة ملحة لتغيير ما جرت العادة عليه. اما في البلدان التي يوجد فيها جزب واحد مهيمن، يكون من المهم معرفة الطريقة التي يحصل بها على تمويلاته”.
ويضيف هذا النائب: “في انتخابات 2011، كان حزب الشعب يمتلك ميزانية أكبر من ميزانية الأحزاب الأخرى، ورغم ذلك تراجعت نتائجه بنسبة 3%. وهذا يبرهن على أن المال ليس العنصر الحاسم، وأن السويسريين لا يرغبون في رؤية حزب واحد مهيمن على الساحة”. ويواصل هذا النائب أن الأولوية تكمن في توفر الشفافية بالنسبة لمداخيل النواب البرلمانيين.
ارتفاع تكلفة الحملات الانتخابية
دفع صعود نجم حزب الشعب خلال العشرين سنة الأخيرة العديد من النواب من الحزب الليبرالي الراديكالي والحزب الديمقراطي المسيحي إلى المطالبة بالشفافية بشأن طرق تمويل الحملات الإنتخابية في شهر أكتوبر 2011، ولكن بعد تراجع نتائج حزب الشعب، أصبحت مطالبتهم بذلك أقل إلحاحا.
وقد ساهم هذان الحزبان (يمين الوسط) في شهر مارس الماضي في إحباط آخر محاولة في هذا المجال تقدم بها أورش فالاّر (من الحزب الديمقراطي المسيحي) والذي دعا في التماسه ذلك إلى اعتماد الشفافية في إدارة وتمويل الحملات الإنتخابية.
وبالنسبة لمارتينا كارولي: “كان ذلك قرارا خاطئا. والنظام السياسي برمته شهد تغيّرا عميقا خلال العقود الاخيرة. وأصبحت الحملات الإنتخابية تلتجأ إلى استخدام طرق إشهار وتسويق مكلفة جدا، وباتت التكلفة أكثر اهميّة، وزادت الحاجة إلى الشفافية”.
ويشير هيلمار غيرنت، الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي المسيحي، ومؤلف كتاب يدعو فيه إلى الشفافية في تمويل الاحزاب، ومشاركة الدولة في ذلك إلى أنه “في الماضي، كان تمويل هذه الهيئات يتم في المقام الأوّل عبر تبرعات أعضائها، ولكن منذ عدة سنوات، ضعفت روابط الأحزاب بأعضائها، وأصبحت هذه الأخيرة تعتمد أكثر فاكثر على الدعم من خارجها”.
رفض مثير للأستغراب
يؤكد هيلمار غيرنت أن “الوضعية الحالية لا يرتضيها أي طرف. لا ترتضيها الأحزاب التي تحصل على المال من تحت الطاولة، وبالتالي تفتقد المصداقية، وليست مريحة بالنسبة للمؤسسات، التي بافتقادها للشفافية، يمكن أن تواجه اتهامات بالفساد، وأخيرا ليست مريحة للمواطنين الذين يجب ان يكونوا على علم بالطريقة التي تحصل بها تلك القوى السياسية على التمويل”.
ويمثل رفض البرلمان لإضفاء الشفافية على تمويل الحملات الإنتخابية مفارقة في حد ذاته، إذ نعلم أن أغلب الأحزاب السويسرية تنوي دفع البنوك إلى اعتماد المزيد من الشفافية في معاملاتها، وتؤيد في أغلبها خطة الأموال النظيفة التي اقترحتها الحكومة.
وفي الآونة الأخيرة، اتخذ مصرفان سويسريان قرارا فاجأ الجميع، فقد قرّر مصرف رايفايزن، بمبادرة من هيلمار غيرنت، العضو في مجلس إدارته، ومصرف “كريدي سويس” تقديم الدعم المالي إلى أهم الأحزاب السياسية في البلاد ولكن بطريقة شفافة، أي الإعلان رسميا عن حجم المبالغ المقدمة إليها (متناسبة مع حجم الأصوات التي تحصلت عليها في الإنتخابات العامة).
وفيما يتوقع مراقبون أن تنسج مؤسسات مالية أخرى على نفس المنوال، وضعت الخطوة التي أقدم عليها المصرفان الاحزاب السياسية في حرج، وهو ما دفع غرينت إلى التعليق على ذلك بالقول: “لقد أصبح العالم رأسا على عقب”!.
في سويسرا، لا يخضع تمويل الأحزاب إلى أي نوع من القوانين سواء على المستوى الفدرالي او المحلي، باستثناء كانتوني جنيف والتيتشينو، حيث توجد بعض القوانين.
تعتزم سيمونيتا سوماروغا، وزيرة العدل والشرطة، والعضو بالحزب الإشتراكي تقديم مقترح قانون خلال السنة الجارية لضمان الشفافية على المستوى الفدرالي. وتمهيدا لذلك، طالبت من معاونيها إنجاز دراسة، وقد فرغت منها اخيرا جامعة زيورخ.
وفقا لهذه الدراسة، يعود 40% من النفقات على الحملات الإنتخابية خلال الفترة 2007 – 2011 إلى حزب الشعب، أما حجم نفقات الحزب الليبرالي الراديكالي فقد بلغ 25%، وبالنسبة للحزب الديمقراطي المسيحي 16%، وبالنسبة للحزب الإشتراكي 13%. أما 6% المتبقية فقد توزعت على بقية الأحزاب السياسية.
أطلق مواطنون ينتمون إلى احزاب مختلفة مبادرة شعبية تدعو إلى إضفاء الشفافية على مداخيل النواب البرلمانيين.
هيمن على الساحة السياسية في سويسرا لأكثر من قرن أربعة احزاب حكومية تمثل في اجماله 80% من أصوات الناخبين، وهي على التوالي: حزب الشعب (يمين شعبوي)، والحزب الإشتراكي (وسط يسار)، والحزب الليبرالي الراديكالي (يمين وسط) والحزب الديمقراطي المسيحي (وسط محافظ).
شهد عقد الثمانينات صعود تيار جديد: حزب الخضر، وقد حصل خلال انتخابات 2011 على نسبة قدرها 8.4% من الأصوات في انتخابات 2011. وقد عجز الخضر حتى الآن في الحصول على تمثيل لهم داخل الحكومة الفدرالية.
في السنوات الأخيرة تمكّن حزبان حديثا النشأة من فرض وجودهما في المشهد السياسي، وفازا بما يزيد عن 5% من أصوات الناخبين في الإنتخابات الفدرالية: حزب الخضر اليبراليين (انفصلوا عن حزب الخضر سنة 2004)، والحزب البرجوازي الديمقراطي (انفصل عن حزب الشعب سنة 2008).
تسجّل اربعة احزاب أخرى صغرى حضورها على مستوى البرلمان الفدرالي، وتمثل في مجموعها 5% من الكتلة الإنتخابية، وهي: الحزب الإنجليكاني، والحزب المسحي الإجتماعي، ورابطة التيتشينو، وحركة المواطنة بجنيف.
(نقله من الفرنسية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.