التنوع السياسي والدِّيني والمذهبي في العالم العربي في خطر
ورد في مقدمة تقرير جديد أصدرته اللجنة الإقتصادية والإجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة (إسكوا)، أن "الخلافات التي كانت تقتصر في السابق على النخب الحاكمة، غزت نسيج بعض المجتمعات العربية التي اخترقتها التوترات الإثنية والمذهبية والنزاعات الإنفصالية، حتى أصبح قبول الآخر استثناء، بعد أن كان تقدير الآخر والإحتفاء بالتنوع الثري هو الأصل والقاعدة".
حقا، لقد أصبحت إدارة التنوّع في معظم الدول العربية، إحدى التحديات الرّاهنة التي فرضت نفسها على الجميع ودفعت بأصحاب الفكر والقرار وكذلك حركات المجتمع المدني إلى جانب المؤسسات الدولية، إلى تكثيف المبادرات من أجل الوعْي بخطورة هذه المسألة والإستعداد لمعالجة تداعياتها، كخطوة أساسية نحو احتوائها.
التنوع أو التعدّد، ليس بالظاهرة الجديدة في العالم العربي والإسلامي، بل هو جزء من البنية الإجتماعية والتاريخية لهذه المِنطقة الإستراتيجية. لقد حدثت في الماضي بعض المشكلات والصعوبات، لكن ذلك لم يكن مبرّرا للتفكير في احتمال استئصال الأقليات أو منع مظاهر التعدّد المختلفة في هذه المجتمعات، بل على العكس من ذلك، حمَى الإسلام والدولة حق الإختلاف، وذلك من خلال الإقرار بحرية الدين والتديُّـن.
ويكفي أن يتنقل المرء في مختلف المجتمعات والأقطار التي وحَّدها الإسلام، حتى يلمس أن التنوّع الديني والعِرقي والثقافي، مزروع بعُمق في معظم هذه المساحة الشاسعة التي تمتد من “طنجة إلى جاكرتا”، حسب تعبير المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي. وخلافا لما يُشاع أحيانا، فإن الخلافة العثمانية قد حمت هذا التنوّع، رغم خوضها لصراعات مريرة مع العالم المسيحي على مدى قرون.
إشكالية أقدم من “الربيع العربي”
في الواقع، لا يمكن ربط أزمة التنوّع باندلاع الثورات العربية قبل ثلاث سنوات، بل يؤكد المتابعون لمجريات الأمور في المنطقة أن الحديث عن هذه الظاهرة أخذ يتصاعد قبل ذلك بسنوات طويلة.
وتكفي الإشارة في هذا السياق، إلى المؤتمر الذي دعا إليه سعد الدين إبراهيم، رئيس مركز ابن خلدون حول الأقليات في العالم العربي خلال عام 1994، وهي التظاهرة التي أثارت ضجّة واسعة واتهم صاحبها بـ “التآمر والعمل على تفجير المِنطقة”، بل جعله عُرضة لهجوم ما لا يقل عن 300 مثقّف عربي من مختلف الجنسيات، كان من بينهم حسنين هيكل، انتقدوا فكرة المؤتمر بشدّة وشككوا في خلفِياتها وأهدافها.
ورغم الضجّة التي هزّت الوجدان العام للنُّخب، إلا أن ذلك لم يثن صاحب المبادرة عن إصدار كتاب ضخم وموسوعي تحت عنوان مثير مستوحى من كتابات السابقين “الملل والنحل والأعراق: هموم الأقليات في الوطن العربي”.
31 أكتوبر 2010: قامت مجموعة تنتمي إلى منظمة دولة العراق الإسلاميةباقتحام كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك بحي الكرادة في بغداد أثناء أداء مراسيم القداس. انتهت الحادثة بتفجير المسلحين لأنفسهم وقتل وجرح العشرات ممن كانوا بداخل الكنيسة.
28 ديسمبر 2013: اشتباكات جديدة بين السنة المالكية في مدينة غرداية في الجنوب الجزائري تخلف وراءها عشرات الجرحى، وقد سبق أن اندلع الصراع بينهما خلال مارس 2008 حين شبت مواجهات بين الغالبية المالكية والأقلية الأباضية، أسفرت عن مقتل شخصين، وإجهاض سيدة حامل، إلى جانب عمليات تخريب واسعة للمحلات والممتلكات الخاصة.
في عام 2013، تصاعدت وتيرة الصراع الطائفي بين الشيعة والسنة، وتعتبر هذه المشكلة في مقدمة التحديات التي تواجه العراق اليوم.
23 فبراير 2014 : مقتل سبعة عمال مصريين أقباط بإحدى القرى التابعة لمدينة بنغازي شرق ليبيا. تم ذلك على أيدي عناصر مسلحة قامت بإطلاق النار على الضحايا بعد أن تأكدت بأنهم غير مسلمين وثبوت كونهم مسيحيين.
26 فبراير 2014: طلبت جماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) القريبة من القاعدة من المسيحيين فى مدينة “الرقة ” السورية التي تسيطر عليها دفع الجزية ذهبًا وعدم إظهار ما يشير إلى دينهم مقابل “عهد أمان“.
الدولة الكاتمة للتنوع
لسائل أن يسأل: ما الذي كان يجري قبل هذا الحراك الإحتجاجي الذي انطلق من تونس وأدخل المنطقة في مرحلة جديدة؟ أو بكلمة أخرى: كيف كانت تُدار العلاقة مع ظاهرة التنوع في المنطقة العربية؟
من أبرز الأحداث التي حصلت بعد انهيار الخلافة العثمانية في عام 1923، ظهور الدولة الحديثة، والتي عادة ما تُطلق عليها تسمية “الدولة الوطنية” أو “القومية”. هذا الكيان الجديد قرّر أن يوحّد المجتمع (الذي أصبح تحت إدارته) حوله. ولذلك تمّ العمل على إدماج الجميع في الكيان الوطني المشترك، وهو ما أدّى، عمليا، إلى طمْس كل الخلافات الفرعية وجعل التعدّدية، إما خطرا على الدولة – الأمة، أو في خدمة أهدافها ورموزها.
تبعا لذلك، تمّت السيطرة على هذه المجتمعات من قِبل زعامات، اعتبرت نفسها التجسيد الأرقى لهذه الوِحدة الإفتراضية، وعملت على محاربة التعددية السياسية والأيديولوجية، كما مارست ضغوطا شتى على التعددية الدِّينية والمذهبية، لتجعلها محصورة في نِطاق ضيِّق جدا، وذلك بحجّة “تحقيق الإستقرار والتنمية”.
تعقيدات إضافية
عندما بلغ الضغط أشُـدّه، انفجرت الأوضاع في أكثر من بلد، فانهارت الأنظمة السابقة أو سقطت منها شظايا رئيسية، فإذا بالتعددية تظهر بسرعة ويتعاظم شأنها وتتنوع تشكيلاتها ومظاهرها، وتتحوّل إلى كيانات متفاوِتة الحجْم والقوّة، لكن لكلٍّ منها حقوق ظاهِرة يطالب باستعادَتها ومصالح مختلفة يريد الدِّفاع عنها.
لقد بدا واضحا وجليا أنه كلّما كانت الدولة أضعف، كلّما جاء التعبير عن هذه الإحتياجات أقوى، وكلّما كانت المواقف متباعِدة ومتداخِلة مع المسائل الدِّينية والأيديولوجية، إلا وارتبط بها في الغالب نزوع قوي نحو استعمال العُنف كأداة للحسْم وكبديل عن تدخل الدولة ودورها.
ومما زاد في تعقيد هذه الأوضاع، وجود عامليْن أسهما بقوّة في تراجُع منسوب التسامح مع الآخر المختلف عرقيا أو دينيا. أولهما، ضعف الثقافة السياسية المؤمنة فعلا بنسبية الحقيقة، خاصة في المجال السياسي، وهو ضعف لا يشكو منه طرف دون آخر، بما في ذلك أوساط اليسار أو العائلات الديمقراطية، ذات التوجه اللّيبرالي. فعلى سبيل المثال، أثبتت الوقائع في أكثر من بلد، أن القبول بالإسلاميين كشريك في الوطن والمنافسة السياسية، لا يزال ضعيفا ومُلغّما، وهو ما جعل التعايُش بين الطّرف الذي يُطلَق عليه عادة بالعِلمانيين وبين الإسلاميين عموما، مختلاّ وفي حاجة مُلحّة للدعم وتوفير الشروط اللاّزمة له حتى يحقِّق أغراضه.
في مقابل ذلك، لا تزال أوساط الإسلاميين تفتقِر للخطاب الذي يميِّز بين مجالات الإيمان بالعقيدة وبين بناء تصوّرات وعلاقات لها صلة بالواقع المتغيِّـر. وبالرغم من أن جهودا كبيرة قد بُذِلت في العشريتين الماضيتين من أجل تجسير العلاقة بين الطرفيْن، إلا أن الهُـوّة لا تزال عميقة بين ممثلي التيارين في معظم البلدان العربية.
أسباب ظاهرة وأخرى خفية
العامل الثاني يتعلق بصعود الجماعات السلفية الراديكالية التي زادت من خلخلة العلاقات التاريخية بين الأديان والمذاهب في المنطقة. فصعود هذه الجماعات خلال السنوات الأخيرة، والذي له أسبابه وظروفه الخاصة، أدّى إلى استفحال ظاهرة العنف الموجّه إلى المختلفين، دِينيا ومذهبيا، بشكل اكتسب طابَعا تراجيديا في بعض الحالات. وقد بلغ أوْجَه في حالتيْ العراق والآن سوريا، التي أسفرت عن هروبٍ جماعي للمسيحيين من المُدن التي سيطرت عليها بعض التنظيمات المتشدّدة، مثل تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام “داعش” المُوالي للقاعدة، بسبب محاولة إخضاعهم لأنظمة أهْل الذمّة التقليدية، بما في ذلك مطالبتهم بدفع الجِزية أو التضييق على حرياتهم الدِّينية. فهذه التنظيمات لا تعترف بمنظومة حقوق الإنسان عموما، بل لا تُـقِرّ بشرعية التطورات الهامة التي حصلت داخل الفِقْه الإسلامي خلال القرنيْن الأخيرين.
رغم هذه المؤشرات المهدّدة للعمران البشري في المنطقة، إلا أن التأمّل الواقعي والرّصين، يكشف إلى حدٍّ كبير أن مُعظم الصراعات التي تندلِع من حين لآخر، مثل تجدّد الخلافات بين المالكية والأباضية في الجزائر، أو بين السُنّة والشيعة في أكثر من دولة، لا يعود إلى أسباب دِينية لاهُـوتية، بقدر ما أن دوافعه كانت بالأساس ولا تزال سياسية أو اقتصادية اجتماعية، ثم يقع إلباسها بغِلاف ديني أو مذهبي، وهو ما يعني أنه كلّما ضعفت آليات التحكيم الديمقراطي ولم تحترم الحريات الفردية والجماعية ولم تبنِ السياسيات والأوطان على العدل والعدالة الإجتماعية القائمة على حُسن توزيع الثروات الوطنية، فإن هذه الإختلافات ستبقى قائمة وقد تزداد تعقيدا، وربما تخرج في “لحظة ما” عن دائرة السيْطرة، وتُصبح سفينة المجتمع برمتها مهدّدة بالتخريب والغَرَق.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.