الديمقراطية المحلية في ليبيا حبرٌ على ورق إذا لم تُعط للبلديات الإمكانات اللازمة
اختلف الليبيون المشاركون في ندوة "قراءةٌ لقضايا الادارة المحلية ومسألة شرعية الدولة في ليبيا" التي أقيمت أخيرا في تونس، في شأن اعتماد الديمقراطية المحلية وتوسيع صلاحيات المجالس البلدية المُنتخبة، أو الدعوة إلى تركيز سلطة مركزية قوية قالوا إنها "الكفيلة بالمحافظة على وحدة البلد ومنع التقسيم".
الندوة التي شارك فيها باحثون وإعلاميون من ليبيا وتونس واسبانيا وألمانيا والجزائر والولايات المتحدة وتركيا، أقيمت من طرف معهد الأداء الإستراتيجي Stractegia رابط خارجي(مقره في مدريد)، بدعم من مؤسسة كونراد أديناور رابط خارجيالألمانية يوم 9 ديسمبر الجاري في تونس. وفي مفتتحها، قال الدكتور براء ميكائيل مدير معهد الأداء الاستراتيجي: “إن جزءا من الليبيين يتطلع إلى الدور الإيجابي الذي باستطاعة الادارات المحلية والمجالس البلدية أن تقوم به، بينما يُحبّذ آخرون دور الأفراد والقادة الدينيين أو القبليين”.
ميكائيل أشار إلى أن هناك فئة أخرى ما زالت تؤمن بالدور المحوري لبعض الشخصيات العامة (أمثال فايز السراج وخليفة حفتر)، غير أنه يبقى من الصعب معرفة ما إذا كان هؤلاء يُمثلون رغبة مشتركة عند غالبية الليبيين أم لا؟ وانطلاقا من ملاحظة هذه الضبابية سعت الندوة إلى المساهمة في شرح الأسباب التي يبدو أنها قادت العديد من المواطنين الليبيين إلى الإيمان بأن الادارات المحلية و/ أو القادة المحليين يشكلون “حلا معقولا للتعويض عن تقصير الدولة” في مهامها، في ظرف باتت فيه النزعات الإقليمية الداخلية أمرا واقعا.
في ورقته المقدمة إلى الندوة، عاد الباحث رمزي درويش إلى أصول الإنقسام الذي أعقب انتخاب البرلمان الليبي ورفض “المؤتمر الوطني العام” (المنتخب في 2012 والمنتهية ولايته) نتائج الإقتراع، ثم هجوم قوات “فجر ليبيا” على مطار طرابلس في 23 أغسطس 2015، مما حمل النواب على اتخاذ قرار بنقل مقر البرلمان مؤقتا إلى طبرق (شرق). وهكذا لم يعد الهدف تحقيق الإنتقال الديمقراطي بل عودة الأمن مما جعل العملية السياسية مشلولة منذئذ وانتشار عمليات الخطف والإغتيالات.
من ناحيته، قال عبد الله عبجة: “إن 55 مليون دينار ليبي كانت في مصارف سرت لدى دخول عناصر “داعش” إليها في السنة الماضية قد تبخرت. كما أن 700 مسلح من عناصر التنظيم كانت تتحرك من درنة ومدن أخرى نحو سرت من دون اعتراض سبيلها في البوابات ونقاط التفتيش الكثيرة على الطريق”، مشيرا إلى أن مقاتلي “داعش” في سرت كانوا يُقدرون قبل تحريرها بما بين 5000 و6000 مقاتل.
جهة منظمة وأخرى داعمة
نظم الندوة معهد الأداء الإستراتيجي رابط خارجيStractegia وهي مؤسسة يافعة تأسست في عام 2016 على أيدي الباحث الفرنسي من أصل سوري براء ميكائيل ويوجد مقر المعهد في العاصمة الإسبانية مدريد، وهو يتوفر على شبكة من الخبراء المتخصصين في القضايا الاستراتيجية المعاصرة، التي تتيح له مواكبة الديناميات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي يكون لها تأثير في التغييرات ذات الطابع الإستراتيجي. أما شعار المعهد فهو: “التقدير الدقيق والتحسيس الإستراتيجي والجواب الهادف”.
حظيت الندوة بدعم من طرف مؤسسة كونراد أديناور رابط خارجيKonrad-Adenauer-Stiftung التي تحمل اسم المستشار الألماني كونراد أديناور (1876-1967) الذي قاد مسار إعادة بناء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي مؤسسة قريبة من حزبه “الإتحاد المسيحي الديمقراطي” (CDU) ذي الإتجاه الليبرالي والأطلسي. وتملك المؤسسة مكاتب لدعم الجمعيات والأحزاب السياسية القريبة من اتجاهها في سبعين بلدا عبر العالم، انطلاقا من مبادئها الثلاثة: الحرية والعدالة والتضامن. ومنذ سنوات، يُمولُ مكتبها في تونس مشاريع في كل من الجزائر وتونس ذات صلة بالديمقراطية ودولة القانون والمجتمع المدني واقتصاد السوق الإجتماعي والحوار بين الثقافات.
“النموذج السويسري يُمكن أن يكون قدوة..”
أما محمد الجارح الباحث في “المجلس الأطلسي” فركز ورقته على “حاجة ليبيا اليوم إلى بناء مؤسسات عسكرية وأمنية في الدرجة الأولى”، وبعد أن وصف ما رآه في مدينته بنغازي من جثث تُلقى في الزبالة قال: “إن عسكرة الصراع بدأت بعد 2011 عندما استولت الميليشيات على الأسلحة، وشدد على أن نفوذ تلك الميليشيات تضخم إلى حد أنها اختطفت رئيس الحكومة علي زيدان من غرفة نومه. في المقابل، انتقد الأمين أبو المجير، المدير الإقليمي للبرنامج الليبي للادماج والتنمية أداء الأحزاب السياسية، مُستدلا بالإشتباكات العنيفة التي اندلعت مؤخرا بين قبيلتي أولاد سليمان والقذاذفة في مدينة سبها، مُشددا على أن “أيّ حزب من الأحزاب القائمة لم يتحرك لمحاولة وقفها”، كما قال، بينما هبّ إليها شيوخ القبائل من مختلف المناطق لحل الإشكال وحقن الدماء. واقترح إدخال تعديلات على الدستور الليبي “بما أن لجنة الستين لم تتقدم في صياغة دستور جديد”، حسب رأيه.
بدوره، أوضح الخبير القانوني يوسف غيث أن المجالس البلدية عانت من الضبابية بسبب الوضع الإنتقالي الراهن. وقال: “إن الادارة المحلية في ليبيا مرت منذ الإستقلال في 1952 بأشكال مختلفة، فمن ثلاث ولايات عند الاستقلال إلى 10 محافظات بعد انقلاب معمر القذافي في 1969 وصولا إلى “الشعبيات” اعتبارا من 2007″. وأكد أن النظام الجديد ينبغي أن يُلبي حاجات الوطن ويستفيد من سلبيات التجارب السابقة، ورأى أن مفهوم الإدارة المحلية يختلف عن نظام الحكم المحلي الذي يعتمد على ثلاثة مقومات هي أولا الشخصية الاعتبارية والإستقلالية عن الإدارة المركزية وثانيا قيام مجالس منتخبة وثالثا التمتع باستقلالية في ممارسة صلاحياتها. واعتبر أن “النموذج السويسري يُمكن أن يكون قدوة في هذا المضمار”.
في السياق، يجدر التذكير بأن نظام الإدارة المحلية في ليبيا انطلق مع القانون رقم 59 الصادر عن “المؤتمر الوطني العام” (برلمان انتقالي) في عام 2012. وفي هذا السياق أصدر مجلس الوزراء جملة من القرارات تم بموجبها إجراء انتخابات أفرزت 118 بلدية ومنطقتين محليتين. غير أن متحدثين آخرين في الندوة انتقدوا عدم إصدار قانون المحافظات. أما الإعلامي محمد الصريط فأشار إلى تعقيد الوضع في بنغازي حيث توجد 102 من القبائل. واعتبر أن المجلس البلدي ببنغازي قدم خدمات اجتماعية كبيرة، لكن دوره تراجع مؤخرا بسبب وجود جسم عسكري يقود المنطقة الشرقية. وأفاد أن بعض مؤسسات المجتمع المدني في بنغازي تُعارض عسكرة المدينة ولكن أصواتها خافتة ولايمكنها أن تدخل في مواجهة مع قوة أكبر منها، و”هنا تكمن خصوصية بنغازي لأن الحرب تدور في داخلها”، كما قال.
لا صلاحيات حقيقية بدون موازنات ملائمة
في مداخلته، انتقد عمر أبوليفة العضو في المجلس الأعلى للدولة معايير تقسيم البلد إلى بلديات، مُشيرا إلى أن عدد سكان بلدية بنغازي على سبيل المثال يبلغ 700 ألف ساكن، بينما هناك بلديات أخرى لا يتجاوز عدد سكانها 7000 نسمة فقط. وقال أبو ليفة: “إن الميزانيات غير موجودة ولذا فإن الصلاحيات الكبيرة الممنوحة للبلديات تصبح حبرا على ورق إذا كانت المجالس البلدية لا تتمتع بالموازنات المناسبة لذلك الدور”. وتعرض لأوضاع المجلس البلدي بمصراتة الذي قال إنه انتخب انتخابا شفافا وديمقراطيا وأن الكل منضو تحته، لكنه لم يُقنع الناس بأنه يُقدم خدمة نوعية لأن الوحدات الإدارية تقوم بعملها بشكل طبيعي وآلي. وأضاف أبو ليفة “نحتاج إلى تطويع قانون الادارة المحلية وإدخال تطويرات عليه، لكن لابد من وضع جميع الخيارات على الطاولة لكي نقوم بإصلاح حقيقي للحكم المحلي”.
وفي محاولة لتلطيف أجواء النقاش الصارمة حول غياب الدولة والجيش من ليبيا، أشار مصطفى الساقزلي، مدير البرنامج الليبي للإدماج والتنمية إلى أن مُحرّري الدستور الأمريكي اضطروا للهروب من المكان الذي كانوا يجتمعون فيه لما هجمت عليهم عناصر الميليشيا. وأكد ايضا أن أمريكا بدأت بتشكيل الحرس الوطني والذي تحول بعد عشر سنوات إلى جيش وطني، كما أن الجيش في الدانمارك تشكل من المقاومين، مثلما كان الأمر في فرنسا حيث تكون الجيش من خلايا المقاومة للجيش النازي، وهذه كلها تجارب ناجحة كما قال.
الساقزلي اعتبر أيضا أن أكبر معضلة حاليا تتمثل في ضرورة تنظيم السلاح ثم تجميعه وقدم أربعة اقتراحات في هذا المعنى منها أولا قيام البلدية بإحصاء الأسلحة فهي تستطيع أن تعرف من هم المسلحون وما هي أماكن وجودهم. وثانيا ضرورة الحوار بين الأمم المتحدة والجماعات المسلحة من خلال المجتمع المحلي الذي أتوا منه، وثالثا تقديم الدعم النفسي والمعنوي للشباب المنضمين إلى الجماعات من خلال مراكز مهنية محلية تقدم لهم الخدمات تمهيدا لإعادة إدماجهم. ورابعا تنظيم عملية إعادة الأسلحة عبر البلديات لأن هؤلاء الشباب لن يقبلوا تسليم سلاحهم لحكومة مركزية أو جيش لا ينتمي إلى منطقتهم. وأضاف أن الإحصاء سيعطي مسحا واضحا عمن يقبل التسليم ومن يرفض، وتوقع أن يقتصر الرافضون لهذه المقترحات على تنظيم الدولة وفروع “القاعدة”.
مؤسسة “القبيلة” لا زالت فعالة
على صعيد آخر، عاد عثمان القاجيجي إلى تجربته على رأس اللجنة المركزية لانتخابات المجالس البلدية ليشير إلى أن 3500 مرشح خاضوا تلك الإنتخابات. وبالرغم من قانون العزل السياسي استطاع 1500 من ضحايا ذلك القانون أن يمروا ولم يستطع أحد أن يستبعدهم. وأوضح أن القانون لا يشترط سوى الجنسية الليبية وتوافر السن القانونية، مُعتبرا ذلك غير كاف. لكنه انتقد أعضاء المجلس البلدي في بنغازي الذين قال إنهم “يجلسون في بيوتهم بينما الحاكم العسكري (في إشارة إلى الجنرال حفتر) يصول ويجول”. أما الباحث محمد الجارح فانتقد عضو المجلس الرئاسي علي القطراني الذي صرح بأن العسكر هم من ينبغي أن يحكموا ليبيا. وقال إن حكومتي علي زيدان وعبد الله الثني وقعتا على اتفاقات مع ميليشيات لصرف 2000 إلى 3000 دينار لكل عنصر من عناصرها، بينما عناصر الجيش التي جُندت في 2010 تتقاضى 700 دينار فقط، ولذا “لم نتمكن من بناء جيش”، على ما قال.
الدكتور أبو عزوم اللافي الأستاذ في جامعة سبها تطرق من ناحيته إلى “طموحات المجتمع المدني في فزان (جنوب) وواقعه” مُشيرا إلى أن هذا المجتمع المدني لم يُولد من عدم، مُستعرضا جميع الأطوار التي مر بها المجتمع المدني لدى تشكله على امتداد القرن الماضي وصولا إلى الحقبة القذافية. وانتقد الجهات الخارجية التي قال “إنها تقدم الدعم لكنها لا تسأل مؤسسات الحكم المحلي عن حاجاتها”، وحثها على “محاورة ممثلي المجتمع المدني قبل وضع برامجها”.
أخيرا، تطرقت ورقة محمد الجارح إلى البنية القبلية في ليبيا مُستعرضا الأدوار الإيجابية التي قامت بها مؤسسة القبيلة مثل حماية ليبيا من انتشار مرض إيبولا بتشديد الرقابة على الحدود الجنوبية. واعتبر أن شيوخ القبائل كانوا أكثر فعالية في فض النزاعات من مؤسسات أخرى، وعزا ذلك إلى أن مؤسسة القبيلة قديمة ولديها بروتوكول تسير عليه، وهي تقوم بدور قضائي أيضا مما جعل الدول تتعامل مع القبائل. غير أنه اعتبر ذلك “خطرا على المؤسسات (السياسية)”. وركز على التهريب باعتباره مصدر الدخل الوحيد في منطقة الكُفرة على سبيل المثال، وأشار إلى أن السلطات المصرية تُعفي سكان طبرق الليبيين من التأشيرة لدى دخولهم مصر.
غير أن الجدل في شأن أولوية إقامة حكم مركزي قوي أم تشجيع اللامركزية ودعم القدرات المحلية مازال قائما وسيظل كذلك على ما يبدو…
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.