العلاقة مع أوروبا وليس الاقتصاد هي من سيُقرر المآل السياسي لسويسرا
في كل مكان في العالم تقريبًا، يُنظر إلى حالة الاقتصاد على أنها العامل الحاسم في تحديد نتائج الانتخابات. أما في سويسرا فالأمر ليس على هذه الشاكلة، لأن ساحة المعركة الرئيسية هي العلاقات الثنائية مع الاتحاد الأوروبي.
“إنه الاقتصاد، يا غبي” يبدو أن العبارة الشهيرة، التي صيغت أثناء الحملة الانتخابية التي سبقت رئاسيات عام 1992 في الولايات المتحدة، بدت تظهر كحقيقة أساسية في السياسة عموما.
ففي أوقات تمتاز فيها الدولة بالصحة الاقتصادية، عادة ما تحتفظ الأحزاب الحاكمة بشعبيتها. وإذا كانت الأوقات عصيبة، تحتل المعارضة المقدمة في صناديق الاقتراع، وبشكل عام تعتبر التحولات المفاجئة في الاقتصاد عمومًا تفسيرات مقبولة للتغيير على المستوى السياسي.
أما الأزمات المصرفية فلا تتسبب فقط في تغيير الحكومة، ولكنها تؤدي أيضًا إلى تآكل ثقة المواطنين في المؤسسات السياسية، كما أنها تلعب دورًا فعالًا في إثارة الاحتجاجات المدنية.
جاءت التحولات السياسية الأخيرة في أوروبا على عكس مسار تراجع الأزمة المالية العالمية، التي بدأت في عام 2008. فقد ظهرت حركات شعبوية، من اليمين واليسار على حد سواء، واستهدفت في الوقت نفسه سياسات الهجرة وخفض الإنفاق الحكومي.
وعلى الرغم من انخفاض أرقام البطالة في الاتحاد الأوروبي، إلا أنه ليس من الواضح بعدُ ما إذا كان وضع الأحزاب التقليدية قد وصل إلى الحضيض أم لا. وقد يأتي الجواب مع الانتخابات المقررة ليوم 26 مايو الجاري لتجديد البرلمان الأوروبيرابط خارجي.
سويسرا كاستثناء
مع ذلك، فإن هذا المنظور الاقتصادي الأوروبي لا يساعد بشكل كبير في فهم التغييرات الدراماتيكية للنظام السياسي الحزبي في سويسرا على مدى العقود الثلاثة الماضية.
في الواقع، لم تكن نقطة التحول هي بداية الأزمة المالية في عام 2007، بل كان التصويت في عام 1992 على انضمام البلاد إلى المجال الاقتصادي الأوروبي، وهو يعني أن تكون سويسرا في منتصف الطريق إلى العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي.
حينها قاد حزب الشعب السويسري اليميني المعركة ضد الفكرة وفاز بها، ونتيجة لذلك ازدادت شعبيته ليصبح أكبر حزب سياسي في سويسرا مع حصوله على أقل بقليل من 30% من الأصوات في انتخابات مجلس النواب (الغرفة السفلى للبرلمان الفدرالي) في عام 2015.
في الوقت نفسه، ظهرت حركة مضادة، مؤلفة من الأحزاب اليسارية والأحزاب المدافعة عن البيئة، وأحياناً الجماعات الوسطية، في المدن الكبرى، ولا سيما في الجزء الناطق باللغة الألمانية من البلاد.
مع هذا التطور المسجل في المناطق الحضرية، أصبحت المناقشات السياسية أكثر استقطابا. ومنذ عام 1992، أصبح من الاستثناء النادر أن يبحث اليسار واليمين عن أرضية مشتركة حول القضايا الأساسية، وتبعا لذلك أصبح الاستقطاب الأيديولوجي الوضع العادي الجديد.
رد فعل ثقافي
هل تقع جذور القضية السويسرية في شيء آخر أكبر؟ ربما. منذ حوالي شهر، نشر الباحثان الأمريكيان بيبا نوريس ورونالد إنغلهارت كتابهما الجديد، “رد فعل ثقافي” (Cultural Backclash)، الذي يتضمن بعض الأفكار الرائدة.
وفقًا للمؤلفين، بدأ كل شيء بالازدهار الاقتصادي المطول خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، ذلك إلى جانب ثورة التعليم في الستينيات، وظهرت أجيال جديدة تختلف قيمها عن قيم والديهم اختلافًا كبيرًا.
أدى هذا إلى حصول تطور ثقافي أساسي اتسم بصبغة “ليبرالية اجتماعية”، على حد تعبير الباحثين. وهي حركة تتميز بالمطالبة بحقوق المرأة، والمراعاة اليومية للبيئة، والتنمية الذاتية في مجتمعات لم تعد تُعرّف نفسها بأنها محلية وقائمة بذاتها.
مع ذلك، تأتي “ردود الفعل الثقافية” كاستجابة لمثل هذه التغييرات الجذرية: فالمجموعات التي كانت مهيمنة في السابق، والتي تدرك أن تمتعها بالأغلبية في خطر، تشن حركة معارضة اجتماعية محافظة.
وتتمثل الأولوية القصوى لهذه المجموعات المحافظة في العودة إلى نظام يقوم فيه النجاح الفردي على أساس الإنجاز الاقتصادي، وهو شيء يرتبط بالمثال الأسري التقليدي، والفصل الكلاسيكي للأدوار بين الرجال والنساء، وأهمية الزواج كمؤسسة.
عموما، يحتقر المحافظون الاجتماعيون طائفة من الثقافات التي يرون أنها تهدد امتيازات أغلبية المجتمع. إنهم يريدون أن يقود رجال أقوياء المعركة ضد الثقافات المختلطة، حتى وإن أدى ذلك للحد من الحقوق الديمقراطية.
نظرية تناسب سويسرا
هذه هي النظرية وفقًا لنوريس وإنغلهارت. لكن هل تنطبق على سويسرا؟
أجل وبكل وضوح!
دعنا نعود للحظة إلى الانتخابات البرلمانية عام 1991 لشرح ما حدث.
انتظرت الحكومة يوما واحدا بعد الانتخابات ثم أعلنت عن سعيها للحصول على عضوية سويسرية في المجال الاقتصادي الأوروبي، وهي منظمة وصفتها لاحقًا بـ “معسكر تدريبي للحصول على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي”.
تسبّب الإعلان في غضب المعارضين المحافظين، وهو ما أدى إلى إثارة جدل حاد في الحملة التي سبقت التصويت في نهاية عام 1992 على معاهدة المجال الاقتصادي الأوروبي وبدء الصدع الذي استمر بكثافة غير عادية حتى يوم الناس هذا.
ولدت حركتان منفصلتان: واحدة متفائلة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والأخرى مشككة فيه، وكلاهما عالق في مأزق سياسي. وبعبارة أدق، فإن سياسات الحكومة السويسرية مؤيدة في الغالب للاتحاد الأوروبي، في حين أن المزاج السائد بين السكان معارض له.
ومنذ ذلك الحين، كما ذُكِر سابقًا، أصبح الاستقطاب السياسي والثقافي للبلاد جغرافياً، حيث تقف المناطق الحضرية الليبرالية الاجتماعية (بشكل أساسي في غرب البلاد) ضد المناطق الريفية المحافظة اجتماعيًا (بشكل رئيسي في الشرق).
وفي السنوات الأخيرة، أكدت الإنتخابات المحلية على مستوى الكانتونات وجود الفجوة التي لا تتعلق بالاقتصاد، فسويسرا غنية بما يكفي للبحث عن حل وسط بشأن مثل هذه القضايا، أما الانقسام فهو ثقافي.
ماذا بعد؟
إلى أين ستحمل انتخابات أكتوبر البرلمانية سويسرا؟
على المستوى العالمي، يبدو أن نزعة المحافظة الاجتماعية سوف تسود على الأقل طالما ظل دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. كما أنّه من غير المرجح أن تؤدي انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو الجاري إلى تحول كبير باتجاه الأحزاب والسياسات الاجتماعية الليبرالية التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
تقييمي لسويسرا يظل مفتوحا. لقد دفع انتخاب امرأتين في الحكومة الفدرالية في ديسمبر الماضي السياسات الليبرالية اجتماعيًا بشكل جيّد داخل معسكر يمين الوسط. وفي ضوء ذلك، يمكن أيضاً رؤية عودة الحيوية للحركات البيئية في أعقاب سلسلة من الاحتجاجات المتعلقة بالمناخ.
لكنها لن تقرر بأي حال مصير الانتخابات العامة في أكتوبر.
إن علاقات سويسرا مع بروكسل – وهي القضية التي لم تُحلّ بعدُ – لا زالت مطروحة على جدول الأعمال. فقد أدت هذه القضية إلى ظهور ردة الفعل الثقافية في عام 1992. ومن المرجّح أن تستمر كعامل رئيسي (في الانتخابات المقبلة أيضا).
نبذة عن حياة الكاتب
كلود لونشان هو واحد من أبرز الخبراء والمحللين في مجال العلوم السياسية وأكثرهم شهرة في سويسرا.
قام بتأسيس معهد gfs.bern للأبحاث وسبر الآراء، وبقي مديراً له حتى سن التقاعد، ولا يزال يترأس مجلس إدارته إلى اليوم. وهو يقوم منذ ثلاثين عاماً بالتعليق على الإستفتاءات والإنتخابات السويسرية وتحليلها على القناة الألمانية للتلفزيون العمومي السويسري SRF.
من خلال منصة #DearDemocracy التي تخصصها swissinfo.ch لشؤون الديمقراطية المباشرة، يقوم لونشان دوريا بتحرير عمود حول الإنتخابات الفدرالية لعام 2019.
بالإضافة لكونه خبيرا سياسيا ومؤرخا، فهو صاحب مُدونتين الكترونيتين: zoonpoliticonرابط خارجي المُخصّصة للدراسات السياسية وstadtwanderer المُكرّسة للتاريخ.
(نقله إلى العربية وعالجه: ثائر السعدي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.