تحالف الحضارات: النموذج السويسري للتعدُّد يواجه تحديات جديدة
إن كانت سويسرا قد نجحت في الماضي في حل نزاعاتها الدينية عبر اعتماد نظام يحول دون هيمنة طرف على الآخر، وتميزت بقدرتها على مصالحة مختلف الثقافات التي تُكون فسيفساءها، فإن التنوع الذي تُحسد عليه في الخارج بات يواجه تحديات جديدة مثل الإدماج الإيجابي للجالية المُسلمة.
هذا هو جوهر الكلمة التي ألقتها وزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كالمي – ري في المحفل الأول لتحالف الحضارات في مدريد أمام قرابة 350 شخصية قادمة من 60 بلدا. ولم تغب مبادرة حظر بناء المآذن في سويسرا (التي أطلقها شخصيات من اليمين المتشدد وأقصى اليمين) من محادثات الوزيرة على هامش أعمال المنتدى.
في مداخلاتها أمام المحفل الأول لتحالف الحضارات الذي استضافته مدريد من 15 إلى 16 يناير الجاري، قدمت الوزيرة ميشلين كالمي – ري سويسرا كنموذج للتعدد الديني والثقافي واللغوي، إذ أبرزت نجاح الكنفدرالية في مصالحة مختلف مكوناتها المجتمعية من خلال “تفضيل نظام يحول دون هيمنة طرف على الآخر”.
لكن وزيرة الخارجية نوهت في المقابل إلى أن المثال السويسري في مجال التعددية والاندماج، “الذي يثير الحسد في الخارج”، بات يواجه تحديات جديدة مثل الإدماج الإيجابي للجالية المُسلمة، مشددة على أن هذا التنوع الثقافي لسويسرا “يتطور وفقا لوتيرة الهجرة” التي تشهدها.
وفي معرض حديثها عن تلك التحديات الجديدة، ذكّرت السيدة كالمي – ري بأن الأجانب الذين جلبوا معهم وفرة من اللغات انضافت إلى اللغات الوطنية الأربع، صاروا يمثلون أكثر من 20% من سكان البلاد، وأن الجالية المسلمة باتت تناهز 5% من مجموع السكان، ممّا حول الإسلام إلى ثاني ديانة في الكنفدرالية. وأقرت الوزيرة في هذا السياق بأن هذا التنوع الجديد أصبح يـُنظر إليه كتهديد من قبل فئة من السكان.
مبادرة حظر المآذن “تتطفل” على مدريد
ولعل أبرز مثال على المخاوف التي يثيرها الإسلام والمسلمون لدى بعض شرائح المجتمع السويسري، إطلاق شخصيات سياسية من اليمين المتشدد وأقصى اليمين في مايو الماضي لمبادرة تدعو إلى تدوين حظر بناء المآذن في الكنفدرالية في الدستور الفدرالي.
ومنذ إطلاق هذه المبادرة المثيرة للجدل، اضطرت العديد من الشخصيات السياسية والدبلوماسية السويسرية للرد على تساؤلات واستيضاحات محاوريها في الخارج – خاصة في البلدان المسلمة – عن نص وأبعاد المبادرة.
وقد أعلنت وزارة الخارجية السويسرية في برن يوم 11 يناير الجاري أنها أجابت مؤخرا على الأسئلة التي سلمتها الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة للسفارة السويسرية في الرياض حول مضمون المبادرة.
وأكد المتحدث باسم الوزارة لارس كنوخل بأن برن أوضحت في الرد الذي بعثته إلى المنظمة يوم 5 يناير الجاري مضمون المبادرة والكيفية التي يطبق فيها حق طرح المبادرات الشعبية في سويسرا التي تتميز بنظام الديمقراطية المباشرة.
وحرصت سويسرا في ردها على استيضاحات منظمة المؤتمر الإسلامي على أن العديد من أعضاء الحكومة الفدرالية، و”عددا مهما” من الأحزاب والمنظمات والخبراء القانونية، قد عبروا عن مواقف منتقدة للمبادرة.
ويذكر أن رئيس الكنفدرالية لعام 2008 ووزير الشؤون الداخلية، باسكال كوشبان، كان قد صرح أن هذه المبادرة ساهمت في إعطاء “صورة مُقلقة عن سويسرا”.
وإن كان السيد كوشبان قد “أفلت” خلال زيارته الرسمية الأخيرة إلى كل من المغرب ومصر (من 7 إلى 14 يناير) من وجوب الرد على أسئلة مرتبطة بمبادرة حظر المآذن بما أنها لم تُطرح عليه أصلا رغم تناوله لقضايا التعايش بين الديانات في مصر مثلا، فإن زميلته كالمي – ري لم تنعم بذلك “الحظ” خلال زيارتها لمدريد، بحيث أجرت، على هامش المحفل الأول لتحالف الحضارات، لقاء استغرق نصف ساعة مع الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلو، بناء على طلب من هذا الأخير.
وأعرب السيد أوغلو خلال استقباله للوزيرة السويسرية من قلق المنظمة من المبادرة، مما دفع السيدة كالمي – ري إلى تقديم الشروح الضرورية لطمأنة محُاورها.
فقد أوضح المتحدث باسم وزارة الخارجية السويسرية، رافاييل سابوريت، يوم الثلاثاء 15 يناير الجاري، أن الوزيرة أشارت خلال لقاءها بالسيد أوغلو إلى أن الحكومة الفدرالية “تأخذ على محمل الجد” تلك المبادرة، كما ذكّرته بنظام الديمقراطية المباشرة الذي تشتهر به سويسرا، ثم دعته إلى الابتعاد عن التهويل بخصوص المبادرة، معربة عن ثقتها في قدرة الشعب السويسري على التمييز؛ شعبٌ “أحسن دائما رد الفعل على المبالغات الواردة في بعض المبادرات”، حسب ما نقلته صحيفة لوتون الصادرة بالفرنسية في جنيف يوم الأربعاء 16 يناير عن الوزيرة السويسرية.
المزيد
المبادرة الشعبية
سبعة وزراء وصوت واحد
وفي هذا الصدد، ذكرت اليومية التي تصدر باللغة الفرنسية في جنيف، بأن الوزراء السبعة في الحكومة السويسرية باتوا يَدْعون اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى التهدئة والحوار، خاصة بعد إطاحة البرلمان الفدرالي يوم 12 ديسمبر الماضي بوزير العدل والشرطة السابق، كريستوف بلوخر الذي ينتمي لحزب الشعب (يمين متشدد)، وهو الحزب الذي أطلق بعض نوابه مبادرة حظر تشييد المآذن إلى جانب شخصيات سياسية من الاتحاد الديمقراطي الفدرالي (أقصى اليمين).
أما الوزيران اللذان يمثلان حاليا حزب الشعب في الحكومة، وزير الدفاع وحماية السكان والرياضة سامويل شميد، ووزيرة العدل والشرطة إيفلين فيدمر – شلومبف، فقد ابتعدا بوضوح عن هذه المبادرة التي نجحت لحد الآن في تجميع أكثر من 80 ألف توقيع، والتي كان قد قال عنها السيد شميد في حديث مع صحيفة “سونتاغزتسايتونغ بأنها “تسلك طريقا خطأ”.
لذلك اعتبرت صحيفة لوتون بأن السيدة كالمي – ري أدلت في مدريد بتصريحات تـُعبر عن رأي يشاطره كافة أعضاء الحكومة الفدرالية، سواء أمام ممثل منظمة المؤتمر الإسلامي أو المؤتمر الصحفي.
ونوهت اليومية أن الحكومة ستقوم بتحرير رسالتها إلى البرلمان فور تسليم اليمين المتشدد وأقصى اليمين لنص المبادرة إلى المستشارية الفدرالية في برن، وبالتالي “ستتمكن (الحكومة) من الحديث بصوت واحد عن موضوع بهذه الحساسية”، على حد تعبير صحيفة لوتون.
مشاريع سويسرية ودولية
وزيرة الخارجية ميشلين كالمي – ري، التي لم تحضر اليوم الثاني من محفل تحالف الحضارات (إذ عادت إلى برن لحضور أول اجتماع للحكومة السويسرية في العام الجديد) دعت المحفل الأول لتحالف الحضارات في مدريد إلى الانتقال من القول إلى الفعل على الميدان.
وقدمت للمشاركين في ملتقى مدريد مثالين يجسدان هذه الدعوة البراغماتية بحيث عرضت على الحضور المبادرات السويسرية الرامية إلى تسهيل الحوار بين الأديان في مناطق النزاع، وذلك في إطار سياستها المرتبطة بتعزيز السلام. وذكرت الوزيرة في هذا السياق مشروعا تربويا تدعمه سويسرا منذ عام 2002 في المدارس القرآنية في طادجكستان، ويساعد على تسهيل ودعم الحوار بين النخب العلمانية والإسلامية في تلك البلاد.
كما تحدثت السيدة كالمي – ري عن “مبادرة مونترو” التي أطلقتها وزارة الخارجية السويسرية في عام 2005 بهدف تعزيز الشفافية على المنظمات الخيرية الإسلامية، خاصة في مجال التدفقات المالية، من أجل مساعدتها على محاربة الأحكام المسبقة التي تسقط ضحية لها في الغرب، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
يذكر في الأخير إلى أن أكثر من 70 دولة ومنظمة انضمت إلى “تحالف الحضارات” الذي يتوفر على أمانة في نيويورك في إطار الأمم المتحدة. وكانت الولايات المتحدة وإسرائيل من أبرز المتغيبين عن المحفل الأول لتحالف الحضارات في مدريد.
ولئن كانت الولايات المتحدة قد أعلنت في وقت سابق اهتمامها بالمبادرة، فإنها لم تنضم رسميا للتحالف، مفضلة انتظار مشاريع ملموسة لتقديم دعمها. غير أن وزير الخارجية الاسباني ميغيل انخيل موراتينوس أعلن مساء الثلاثاء 15 يناير الجاري عن تمويل أمريكي لمشروع في مجال التربية في المغرب.
وتميزت المشاريع التي أعلنت عنها الجهات العربية بطرحها من قبل سيدتين، الملكة نور، أرملة العاهل الأردني الراحل الملك حسين بن طلال والشيخة موزة بن ناصر المسند؛ وهما مشروعان بقيمة إجمالية بلغت 200 مليون دولار، أولهما يهدف إلى تمويل أفلام للنهوض الوئام بين الإسلام والغرب، وثانيهما يساعد الشباب العربي على ولوج سوق العمل. (أنظر التفاصيل في المواد المتعلقة يسار الصفحة)
المزيد
الديمقراطية المباشرة
سويس انفو – إصلاح بخات
قُدمت أربع مبادرات في المحفل الأول لتحالف الحضارات في مدريد:
الملكة نور، أرملة العاهل الاردني الراحل الحسين بن طلال أعلنت عن تأسيس صندوق تدعمه عدة شركات من هوليود لإنتاج أفلام تنهض بالوئام بين العالم الإسلامي والغرب.
الشيخة موزة بن ناصر المسند، زوجة أمير قطر، أعلنت عن “تمويل خاص” بقيمة 100 مليون دورلار ستخصص لإنشاء شبكة لتشغيل الشباب العرب. وأوضحت الشيخة موزة أن دور الشبكة التي تحمل اسم “صلتك” سيتمثل في “وصل الشباب بأرباب العمل وتخصيص رؤوس أموال تُستثمر في إنشاء شركات من قبل الشباب” في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
تطلق الأمم المتحدة قاعدة بيانات إلكترونية ستوفر المعلومات عن “من يقوم بماذا” في مجال التفاهم بين الثقافات، كما ستطلق منبرا إلكترونيا مخصصا لوسائل الإعلام لتمكينهم من الحصول على تعليقات المتخصصين “في حال اندلاع الأزمات في مجال الحوار بين الثقافات”.
حصل التحالف في عام 2007 على تمويل من قبل 11 بلدا عضوا بمبلغ إجماعي بقيمة 6,9 مليون يورو، دفعت منهم إسبانيا مليون يورو.
سويسرا دعمت “تحالف الحضارات” منذ بداياته، وساهمت بـ300 ألف فرنك في هذا المشروع.
يتوقع أن تستضيف تركيا المنتدى الثاني في تاريخ لم يُحدد بعد، حسب مصدر حكومي إسباني.
مدريد (رويترز) – قالت هيئة تدعمها الأمم المتحدة تعمل في مجال التعريف بالحضارات يوم الثلاثاء 15 يناير 2008 إنها ستنشئ صندوقا برأس مال قدره 100 مليون دولار لانتاج أفلام للنهوض بالوئام بين الغرب والبلدان الإسلامية.
وكانت إسبانيا وتركيا أسستا الهيئة التي أطلق عليها تحالف الحضارات بعد عام من تفجيرات قطارات مدريد (11 مارس 2004) للارتقاء بالحوار بين الحضارات والأديان، لكن التحالف تعرض لانتقادات وصفته بأنه لا يفعل شيئا عدا الكلام.
وقال التحالف في أول اجتماع يعقده منذ إنشائه في عام 2005، إنه ينتقل من الكلام إلى العمل من خلال إنشاء صندوق لتمويل إنتاج وتوزيع أفلام تسعى للنهوض بالتفاهم والاحترام بين الحضارات.
وقالت الملكة نور أرملة العاهل الاردني الراحل الملك حسين إن الصندوق جمع بالفعل عشرة ملايين دولار، وأنه سيحظى بدعم هيئات وأفراد من بينهم رجل الاعمال البريطاني ريتشارد برانسون، وموقع يوتيوب لتبادل ملفات الفيديو على الانترنت، والشركة التي أنتجت فيلم ال غور التسجيلي “حقيقة مزعجة”.
وقالت الملكة نور “يقال ان ما ندركه هو الواقع واننا نصدق ما نراه. لذا فلنكتشف طريقة لنر الناس شيئا يغير مفاهيمهم ومن ثم أفعالهم.”
لكن بعض المندوبين في التحالف الذي يضم أكثر من 80 عضوا ويعمل تحت رعاية الامم المتحدة عبروا عن شكوك بشأن مدى التأثير الذي قد تحدثه الجماعة من خلال التركيز على الثقافة وحدها.
وقال خافيير سولانا، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي “الصراعات تاريخيا كانت دائما بسبب المياه والأرض والموارد الطبيعية والفقر… لا يمكننا حل الصراعات من خلال النقاش والحوار الثقافيين.”
ورأى آخرون أن تغيير السياسة الخارجية الأمريكية وإتاحة مجال أوسع لنجاح مساعي تركيا للانضمام للاتحاد الاوروبي من شأنهما أن يكونا أكثر فعالية في النهوض بالوئام بين الاسلام والغرب من أي أفلام تتسم بحسن النية.
وقال وزير الخارجية الاسباني ميجيل أنخيل موراتينوس “للأمم المتحدة ركيزة تتعلق بالسلام والأمن، وأخرى خاصة بالتنمية الاقتصادية، وثالثة معنية بحقوق الانسان لكنها تحتاج أيضا ومنذ فترة طويلة لركيزة ثقافية تقوم على الحوار والتسامح ويمكننا توفير تلك الركيزة.”
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 15 يناير 2008)
تأسس عام 2005، بمبادرة من حكومتي إسبانيا وتركيا، وتحت رعاية الأمم المتحدة.
تم تشكيل فريق رفيع المستوى من قبل الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي أنان، لاستكشاف جذور الاستقطاب بين مجتمعات وثقافات اليوم، وللتوصية ببرنامج عمل فعال للتعامل مع هذه المسألة. وقدم تقرير المجموعة تحليلا للأوضاع كما قدم توصيات عملية تشـكل الأساس لتنفيذ مبادرة تحالف الحضارات.
في أبريل 2007، تم تعيين الرئيس السابق للبرتغال، خورخي سامبايو، ممثلا أعلى لتحالف الحضارات من قبل الأمين العام للأمم المتحدة بان – جي مون لقيادة المرحلة التنفيذية للتحالف.
وتعمل أمانة تحالف الحضارات، التي يوحد مقرها بنيويورك، بالشراكة مع الدول والمنظمات الدولية والإقليمية ومجموعات المجتمع المدني، والمؤسسات والقطاع الخاص، من أجل تعبئة الجهود المتضافرة لتعزيز العلاقات بين الثقافات بين مختلف الأمم والمجتمعات.
(المصدر: موقع تحالف الحضارات)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.