تونس بين حكومة بدون حزب حاكم.. وجيش يستعد لمواجهة كل الإحتمالات
رغم أن الأحداث المتسارعة في مصر قد هيْـمنت على المشهد الإعلامي العربي والدولي، وذلك على حساب المشهد التونسي، الذي أخذ يستقر تدريجيا، إلا أن ذلك لم يحجب عن المراقبين التحوّلات الهامة التي تعيشها الثورة التونسية بعد أسابيع قليلة من ميلادها وانتصارها في إزاحة الجنرال بن علي. فكيف يبدو المشهد حاليا؟
تواصل الحكومة المؤقّـتة، برئاسة الوزير الأول محمد الغنوشي، عملها في ظروف صعبة، بعد أن تراجعت الحملة الدّاعية إلى إسقاطها. إنها في صراع مع الزمن من أجل كسب ثقة الشارع والتوصل في أقرب الآجال إلى تنظيم انتخابات رئاسية، يُـفترض بأن تكون مقدّمة أساسية لتحقيق الإنتقال الديمقراطي في البلاد.
في هذا السياق، يتعرّض الوزراء إلى نقْـد شديد من قِـبل النُّـخب السياسية المعارضة. فهُـم من جهة، قد وجدوا أنفسهم أمام كمٍّ خيالي من المطالب، التي عليهم أن يتفرّغوا لتحقيق بعضها على الأقل لإظهار الجدية وكسب المصداقية، لكن في المقابل، يتصاعد الاحتجاج عليهم عندما يتَّـخذون قرارات، هي أقرب إلى السياسات العامة منها إلى الإجراءات الجُـزئية، فيقال عندها بأن الحكومة تنسى أنها مؤقتة وتتصرف وكأنها دائمة.
مع ذلك، يلاحَـظ أن الحكومة قررت تحريك الخُـطى في اتجاهيْـن. أولها، ترسيخ قطيعتها مع المرحلة الماضية، حيث فوجِـئ الجميع بالقرار الذي أعلن عنه وزير الداخلية والقاضي بتجميد حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم سابقا، هذه الخطوة التي هزّت الشارع التونسي وأثارت حالة من الإرتياح في صفوف الرأي العام، نظرا للسرعة التي تمّـت بها، وكذلك نظرا لدلالاتها السياسية وتداعياتها المستقبلية. ومع أن القرار استند على الفصول 2 و18 و19 من قانون تنظيم الأحزاب، إلا أن أهميته لا تكمُـن في طابعه القانوني ولكن في أهميته السياسية. فبعد قرار فصل الحزب عن الدولة وحِـرمانه من مختلف مظاهر الدّعم المالي والإداري والإعلامي، التي كان يتمتع بها، يجد الحزب نفسه معلّـق النشاط وبدون مقرّات وممنوعا من تنظيم أي اجتماع أو جمع أعضائه، أي أنه انتقل بين عشية وضُـحاها من حزب حاكم إلى حزب سِـري أو يكاد.
إن الشروع في حلّ حزب في قوة التجمع الدستوري، الذي حكم البلاد لمدة 55 عاما ونيف وارتبط عضويا بمختلف أجهزة الدولة وانتشر بشكل أخطبوطي في كامل أنحاء البلاد والتصقت هياكله بأجهزة الأمن، التي اخترقته بشكل كلّـي خلال مرحلة حُـكم الرئيس المخلوع بن علي، هو إعلان قوي عن دخول النظام السياسي في مرحلة جديدة، تقطع بدون شك مع آليات الحُـكم الفردي وتفتح المجال لأول مرة أمام مختلف الأطراف السياسية، لتحقيق التداول السِّـلمي على السلطة.
حزب التجمع.. من حاكم إلى ضائع
السؤال المحيِّـر للكثيرين: كيف سيكون ردّ فعل الحزب المجمّـد على هذا القرار؟ خلافا لما يروج هنا وهناك، فإن التجمع الدستوري الديمقراطي يعيش منذ فِـرار رئيسه، حالة من الفوضى وانهيار قياداته. فبعد مغادرة بن علي البلاد، حاولت بعض الشخصيات الفاعلة داخل الحزب أو التي سبق لها أن تعرضت للتهميش، أن تقلل من الأضرار، فسارعت إلى طرد أو تجميد عدد من رموز المرحلة السابقة، وعلى رأسهم بن علي، وأظهرت تفاعُـلا مع التطوّرات الجديدة، وتحدث بعضهم، عن أن بن علي قد قام باختطاف الحزب وتخريبه.
لكن تلك المواقف لم تنجح في تخفيف حدة الرفض الشعبي، حيث تواصلت الضغوط من أجل استبعاد كل الذين عملوا في صفوفه، مهما كانت درجة تورطهم. وما حصل من ردود فعل واسعة النطاق، أدت إلى سقوط خمسة قتلى بمدينة الكاف وحدها، احتجاجا على الوُلاة الجُـدد الذين تمّ تعيينهم مؤخرا، يشكل دليلا على استمرار الاحتقان ضدّ أعضاء هذا الحزب، وهو ما دفع بالحكومة إلى الاستجابة لهذا الضغط والشروع في البحث عن وُلاة (محافظين) جدد.
يمكن القول بأن التجمع الدستوري قد تحوّل إلى فلول ضائعة، لا يجمع بينها رابط ولا يملك قيادة قوية وقادرة على توحيد صفوفه وتحمُّـل مسؤولية الدّفاع عن “شرعيته”. وما صمْـتُ الأغلبية الساحقة من البرلمانيين التجمّـعيين وعدم مقاومتهم وتصويتهم (يوم 7 فبراير) لصالح تعليق نشاط مجلس النواب، إلا مؤشرا على حالة العجز التي أصبح عليها الحزب الحاكم سابقا، وهو ما دفع بعدد من رموزه السابقة، مثل محمد جغام وكمال مرجان، إلى توسيع المشاورات من أجل الإعلان عن تأسيس أحزاب جديدة، تحمل أسماء مغايرة وتعمل على تأطير عشرات الآلاف من “الدستوريين”، الذين لا يزالون يرغبون في مواصلة النشاط السياسي، رغم هذا الزلزال الذي غيَّـر البلاد والعِـباد، أي أن الحزب الحاكم أصبح محلولا عمَـليا، رغم امتلاكه لعدد ضخم من الكوادر المدرّبة.
الأزمة الدستورية ما بعد الثورة
التمشي الثاني، الذي انتهجته الحكومة المؤقّـتة في عملية ترتيب البيت الداخلي، يتعلّـق بمحاولتها الحفاظ على الطابع الدستوري الهشّ لعملية الإنتقال الديمقراطي. فقد استندت الفتوى القانونية التي تبنّـتها الحكومة، على دفع مجلس النواب ومجلس المستشارين نحو اتِّـخاذ قرار بتفويض الرئيس المؤقت، صلاحية اتخاذ مراسيم تشمل 17 مجالا تخُـص مختلف القطاعات الحيوية بالبلاد، وهذا يعني تجميدا مؤقتا لهذين المجلسين التشريعيين وحصر العلاقة بين الحكومة والرئيس المؤقت، حيث ستتولى الأولى عرض مشاريع القوانين، ويتولى هو إضفاء الشرعية عليها بتحويلها إلى مراسيم، قبل أن تُـعرض جمليا في جلسة أخيرة على البرلمان والغرفة الثانية لإقرارها نهائيا من الناحية الشكلية.
رغم اعتراض بعض المختصِّـين في القانون الدستوري على هذه الصيغة، إلى جانب عديد الأطراف السياسية، إلا أن ما حصل قد يشكِّـل المخرج الأقل سوءً من هذه الأزمة الدستورية، التي تمر بها تونس ما بعد الثورة.
الإنتقال الديمقراطي.. بين الأمل والقلق
الوجه الآخر من الصورة، يتعلق بالملف الأمني الذي لا يزال يشغل الحكومة والتونسيين، رغم التحسينات الهشّـة التي سجّـلت خلال الأيام القادمة. فبعد الإنقلاب الأمني، الذي قامت به الحكومة والجيش على القادة السابقين لمختلف الأجهزة الأمنية (عددهم 42) والذي أرفق بعدد من الإجراءات المادية والمعنوية لصالح أعضاء الشرطة، ارتكبت الحكومة خطأً من الحجم الثقيل، عندما قامت بتعيين ما بين 18 أو 19 من مُـجمل 24 واليا (محافظا) عمِـلوا في صفوف الحزب الحاكم السابق، وهو القرار الذي أثار الغضب من جديد وأعاد تحريك الشارع في عديد الولايات، مما أدّى إلى اشتباكات مع قوى الأمن وسقوط ضحايا.
فإذا أضفنا إلى ذلك التداعيات الأمنية، التي يمكن أن يُـسفر عنها قرار تجميد التجمع الدستوري الديمقراطي، وهو التجميد الذي برّره وزير الداخلية بــ “صبغة التأكد القصوى وتفادي الإخلال بالنظام العام والحفاظ على المصلحة العليا للبلاد”، يمكن حينها فهْـم خلفيات قرار القيادة العسكرية استدعاء “ضباط الصف ورجال الجيش التابعين لجيش البحر وجيش الطيران الذين أحيلوا على التقاعد، للإلتحاق بالمراكز الجهوية للتجنيد والتعبئة”.
هذه الدعوة التي تخَـوَّف منها البعض، ظنا منهم بأنها تستبطن استعدادا من الجيش لاستلام السلطة، وهو ما نفته مصادر قريبة من الجنرال عمّـار، تعكس جانبا من المخاطر التي لا تزال تهدِّد البلاد في هذه المرحلة الدقيقة من مسارها الانتقالي.
بين مخلَّـفات نظام أمني متشعّـب وعدائي وبين حكومة مؤقتة تخضع لضغوط شديدة من جهات متعددة وتفتقر للخبرات السياسية بحُـكم تركيبتها ووظيفتها، تستمر جموع التونسيين في المطالبة بإصلاح كل شيء وفي وقت قياسي. لقد رحل بن علي بدون رجعة، لكن الإنتقال الديمقراطي في أجواء ثورية لا يزال يمُـرّ بمرحلة صعبة، يمتزج فيها الأمل العريض بالقلق الشديد.
تونس (رويترز) – ناشد الرئيس التونسي المؤقت فؤاد المبزع يوم الأربعاء 9 فبراير التونسيين المطالبين بتحسين ظروف المعيشة بعد الإطاحة برئيسهم السابق، بالتحلي بالصبر.
وتعرّض استقرار تونس الهش منذ فرّ الرئيس زين العابدين بن علي إلى السعودية قبل ما يزيد على ثلاثة أسابيع، لهزة جديدة في الأيام القليلة الماضية بسبب الاشتباكات العنيفة مع الشرطة وبفعل عشرات من الاحتجاجات من قبل أشخاص يطالبون بوظائف ورفع الأجور.
ووعد المبزع في أول ظهور علني منذ أسابيع عبر التلفزيون الرسمي، ببدء حوار وطني لمحاولة الاستجابة لمطالب المواطنين. وقال المبزع للتونسيين إنه يعلم أن جميع مطالبهم مشروعة، لكنها لابد وأن تكون منطقية. وطالبهم بالتحلي بالصبر وتفهُّـم الوضع الذي تمر به البلاد. وكان المبزع يشغل منصب رئيس البرلمان قبل توليه منصب الرئيس بعد رحيل بن علي. وأضاف أن الحكومة ستبدأ قريبا مفاوضات اجتماعية على نطاق وطني تضم كل القطاعات.
وقتِـل خمسة أشخاص منذ الجمعة الماضي في حوادث عنف في مدن إقليمية، حيث أجبر المحتجون العديد من المحافظين على ترك مناصبهم. واستدعت الحكومة جنود الاحتياط كي يمكن الاستعانة بهم في استعادة النظام. وبدا أنه كانت هناك فترة هدوء يوم الأربعاء، حيث لم ترد تقارير عن عنف أو احتجاجات واسعة النطاق.
وأثارت إطاحة التونسيين برئيسهم بعد 23 عاما من الحكم الاستبدادي، حركات احتجاج مشابهة في مناطق أخرى في المنطقة، من بينها مصر. ويراقب العالم الخارجي عن قرب تقدّم تونس المترنّـح نحو استعادة الاستقرار.
ولم يستطع الكثير من التونسيين التعبير عن مطالبهم بتحسين الظروف المعيشية إبان حكم بن علي، بسبب الخوف من الاعتقال أو الاعتداء عليهم من قبل الشرطة. وأطلقت الإطاحة ببن علي ووعود الحكومة الجديدة باحترام الحريات الديمقراطية، موجة من الاحتجاجات والإضرابات بشأن قضايا تراوحت بين تدني الأجور وسوء ظروف العمل والبطالة.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 10 فبراير 2011)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.