تونس بين فيض المبادرات وصعوبات المرحلة القادمة
لا حديث في تونس هذه الايام إلا عن تعدّد المبادرات، وتأكيد جميع الأطراف على ضرورة إشعار المواطنين بأن البلاد في حاجة إلى استعادة الثقة في مسارها السياسي الانتقالي.
يأتي ذلك في ظرفية تتسم باستمرار الاشتباك بين الحكومة والمعارضة، واختلاف تقييم أداء الائتلاف الحاكم بعد ستة أشهر من ممارسة السلطة.
فإذا كان خصوم الترويكا يلحون على القول بأن الحكومة فشلت على أكثر من صعيد، فإن أصواتا عديدة ترى في ذلك إجحافا وعدم الأخذ بعين الاعتبار صعوبة الظروف التي خلفتها الثورة أو تلك المترتبة عن الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي تعصف بأهم شركاء تونس.
بعد تشويق إعلامي وسياسي دام أشهرا، تمخضت مبادرة الوزير الاول السابق الباجي قائد السبئي عن تشكيل حزب سياسي، هو حاليا مثار جدل بين مختلف الأوساط المهتمة بالشأن العام. إذ بالرغم من المكانة التي أصبح يحتلها السبسي في الحياة السياسية محليا ودوليا بعد النجاح النسبي الذي حققته حكومته في ضمان تحقيق التداول السلمي على السلطة، غير أن ذلك لم يحل دون أن تثير مبادرته جدلا كثيفا بسبب خشية عديد الأطراف من أن يتحول حزبه إلى بوابة يتمكن من خلالها كوادر الحزب الحاكم السابق المنحل من العودة الى الواجهة السياسية.
وعلى هذا الأساس بادر حزب المؤتمر من أجل الجمهورية المشارك في السلطة – وبدعم غير رسمي من قبل حركة النهضة – بعرض مشروع قانون على المجلس الوطني التأسيسي يتم بموجبه منع جميع من تحملوا مسؤولية في مختلف هياكل تسيير التجمع الدستوري الديمقراطي الذي أسسه الرئيس السابق بن علي. وهو المشروع الذي انقسمت حوله النخب والأحزاب بين من اعتبره ضرورة مرحلية لحماية الثورة من “عودة من أجروا في حق البلاد طيلة المرحلة السابقة”، وبين من رأوا في المشروع محاولة لاجتثاث خصوم سياسيين، وأن إجراء من هذا القبيل سيحول هؤلاء إلى ضحايا في نظر منظمات حقوق الإنسان العالمية.
وإذ ترفض حركة النهضة ما يروج حول خشيتها من منافسة محتملة لحزب السبسي لها في الانتخابات القادمة، إلا ان المتابعين للشأن السياسي لا يستبعدون إمكانية أن ينجح الحزب الجديد في استقطاب جزء لا بأس منه خصوم حركة النهضة، أو ممن لا يجدون أنفسهم في مشروعها السياسي والفكري. كما أن هذا الحزب الذي سيحمل اسم ( نداء تونس) يمكن أن يتحول إلى جبهة سياسية عريضة تضم عددا واسعا من الأحزاب والشخصيات المستقلة، وذلك في محاولة لتحقيق التوازن السياسي مع حركة النهضة وحلفائها خلال الانتخابات القادمة.
وبقطع النظر عن النتائج الانتخابية التي يمكن أن تسفر عنها، فالأكيد أنه في صورة حدوث مثل هذا التحالف العريض فإن الانتخابات البرلمانية والرئاسية المزمع تنظيمها في شهر مارس من السنة القادمة ستكون مختلفة كثيرا عن انتخابات 23 أكتوبر 2011، التي اتسمت بالتشرذم وضياع جزء كبير من الأصوات.
مبادرة ثانية من اتحاد الشغل
المبادرة الثانية لم تصدر عن طرف سياسي، وإن تميزت بطابعها السياسي. لقد طرح الاتحاد العام التونسي للشغل مبادرة تهدف إلى تأسيس حوار وطني حول كبرى القضايا الخلافية التي تشق الساحة التونسية حاليا، وتعرقل الانتقال السياسي في البلاد.
ينطلق الاتحاد من حالة “الاحتقان السياسي وغياب الحوار بين مكوّنات المجتمعين المدني والسياسي، وأمام غياب إطار للحوار والتوافق يساعد على تذليل الصعوبات وتقريب وجهات النظر والمساعدة على تأمين المرحلة الانتقالية الثانية”. وبناء عليه، اقترح جملة من المبادئ العامة التي يفترض أن تكون محل إجماع، وتتعلق بالتمسّك بمدنية الدولة واحترام حقوق الإنسان وضمان الحريات العامة والفردية، ونبذ العنف والتصدّي لظاهرة الإرهاب، وتحييد الإدارة والمساجد والمؤسسات الاقتصادية والتربوية والجامعية عن كل نشاط حزبي، واعتبار مؤسّسات الدولة وأجهزتها الضامن الوحيد والمسؤول على تطبيق القانون، وصياغة منوال تنموي جديد للحدّ من الفوارق الاجتماعية والجهوية.
أما المفات التي يقترح الاتحاد معالجتها بشكل جماعي وتوافقي، فهي تتعلق بملف جرحى الثورة وعائلات الشهداء بعيدا عن التجاذبات، وملف تكريس الشفافية في التشغيل، وتحديد تاريخ نهاية صياغة الدستور الجديد، والتوافق حول تركيبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة العليا المستقلة للإعلام، والهيئة الوقتية للقضاء، ولجنة تقصّي الحقائق حول الرشوة والفساد، وكذلك بالنسبة للجنة المصادرة. وأخيرا التوافق حول إرساء منظومة العدالة الانتقالية وضبط آلية للتعيينات الإدارية لضمان تكريس حياد الإدارة، وإصلاح المنظومة الأمنية. ولتحقيق ذلك كله، اقترح الاتحاد “إحداث مجلس وطني للحوار”.
يمكن القول بأن مبادرة الاتحاد قد لقيت ترحيبا من مختلف الأطراف، بما في ذلك حركة النهضة التي تحفظ أحد مسؤوليها في البداية، ووصفها بكونها “لعب في الوقت الضائع”، إلا أن الحركة سرعان ما صححت موقفها، وأعلنت عن تأييدها المبدئي للمبادرة، في انتظار مناقشة التفاصيل. وبالنظر لحجم الاتحاد العام التونسي للشغل، ومكانته الأساسية، فإن مبادرته يمكن أن تشكل مدخلا أساسيا لتنشيط الحوار الداخلي المقود حقيقة، والذي يمثل شرطا ضروريا للخروج من عنق الزجاجة.
حركية واسعة.. وبحث عن الوضوح
أخيرا، لم تبق الحكومة بعيدة عن هذا الجو من تعدد المبادرات، وإنما اجتهدت بدورها. وهي إذ لم تطرح على الفاعلين السياسيين والمجتمع المدني صيغة محددة باستثناء ما أعلن عنه رئيس الحكومة حول إنشاء ما سماه بمجلس حكماء، الذي لم ير النور إلى حد الآن لأسباب مجهولة، فإن الحكومة قد عمدت على كسر الجليد بينها وبين الجهات، وذلك بتنظيم عدد واسع ومكثف من الزيارات الميدانية من أجل استعراض مئات المشاريع التي تمت برمجتها ضمن الميزانية التكميلية التي تم التوافق حولها.
هكذا يتضح أن المشهد التونسي يتصف بحركية واسعة من جهة، وببحث عن وضوح الرؤية من جهة أخرى بعد أن التبست الأمور، وكادت أن تضيع المعالم في الطريق. وإذ تحاول بعض الأصوات والأطراف إضفاء طابع تشاؤمي يحول البلد إلى سواد مؤذن بمختلف أشكال الكوارث، رغم وجود نقاط مضيئة لا خلاف حولها، إلا أن ذلك يقابله خطاب رسمي مفعم بالثقة رغم التحديات الضخمة التي تنتظر تونس، وبالأخص على الصعيدين الأمني والاقتصادي. وهو ما دفع بوزير المالية إلى الدعوة إلى شد الأحزمة نظرا للصعوبات القاهرة التي ستحملها الأشهر القادمة، وبالأخص سنة 2013 التي ستكون قاسية على الجميع. فالتونسيون اليوم مدعوون إلى كثير من العقلانية والصبر والثقة. وهذه عملة قد يكون من الصعوبة بمكان العثور عليها معا هذه الأيام.
امل رئيس الوزراء التونسي حمادي الجبالي باجراء الانتخابات العامة “في اقرب وقت” و”ربما قبل” مارس 2013 كما اعلن حتى الان، وذلك في مقابلة الاحد مع اذاعة فرنسا الدولية وقناة “تي في 5” وصحيفة “لوموند”.
وقال رئيس الوزراء التونسي “آمل فعلا ان يكون الدستور الجديد جاهزا في اكتوبر”، مضيفا “نحتاج الى هذا الدستور”.
وبالنسبة الى الانتخابات، شدد الجبالي على وجوب اجرائها “في اقرب وقت. لقد اعلنا (موعدها) في مارس 2013 و(اذا حصلت) قبل ذلك فسيكون (الامر) افضل”.
وكان الجبالي صرح في اول حزيران/يونيو لفرانس برس ان الانتخابات ستجري “في 20 او 21 مارس” 2013.
وينبغي اجراء الانتخابات التشريعية المقبلة وربما الرئاسية بعد اقرار الدستور الجديد الذي يتولى اعداده المجلس التأسيسي المنبثق من انتخابات اكتوبر 2011.
وردا على سؤال حول تنامي حضور السلفيين في تونس، قال الجبالي ان “هؤلاء الناس لم يأتوا من كوكب اخر. انهم يعبرون عما يعتقده الشعب التونسي. لقد جاء الاسلاميون والاشتراكيون لانهم وجدوا فراغا عقيديا اضافة الى الاطار الاجتماعي والاقتصادي”.
ودعا رئيس الوزراء السلفيين الى التزام قواعد الديموقراطية وقال “لم يعد ثمة تمييز الان (…) انهم مخطئون لانهم يريدون فرض رأيهم بالعنف في وسط ديموقراطي وحر”.
(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ ف ب بتاريخ 24 يونيو 2012)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.