تونس: حملة انتخابية في غياب حوار وطني
تعدّدت المواقِـف من انطلاق الحملة الإنتخابية بتونس، حتى الذين انخرطوا فيها وقُـبِـلت ترشّـحاتهم، سواء للرئاسية أو البرلمانية فقد تفاوَت حماسُـهم بيْـن مَـن يأمل في تعزيز حُـضوره السياسي وتوسيع نصيبه في مجلس النواب، وبين مُقر بوجود صعوبات وعقبات تحول دون تنافس انتخابي "معقول".
ومن بين هؤلاء، أحمد إبراهيم (المرشح للإنتخابات الرئاسية) الذي قال لجمهوره بالحرف الواحد: “أتقدّم إليكم وأنا واعٍ مِـثلكم تمام الوعْـي بصعوبة الظروف التي تجري فيها الانتخابات وبانحِـسار مجال المنافسة الحرّة وبغياب تكافُـؤ الفُـرص بين المترشحين”، داعيا إياهم إلى الوقوف معه ضدّ من وصفهم بـ “قوى الشدّ إلى الوراء وسُـجناء عقلِـية الحزب الواحد، الذين يُـريدون إيهامكم، بأنه لا يوجد أمامكم إلا خيار واحد، ويسعوْن إلى أن يجعلوا من هذه الانتخابات، كسابقاتها، مجرّد تزكية وتبرير آلي لإبقاء الأمور كما هي عليه”.
أما الذين قرّروا مقاطعة الانتخابات، والذين تعزّزت صفوفهم بعد انسحاب الحزب الديمقراطي التقدّمي، فهم يحاوِلون الآن إقناع الرّأي العام بصحّـة مواقِـفهم وتحليلاتهم، لكن المؤكد أن جميع الفرقاء يُـدركون بأن العملية الانتخابية تَـسير بشكل طبيعي، وِفق السيناريو الذي وُضِـع لها.
حماسة خافتة
في خِـضمّ ذلك كله، لم يُـبدِ عموم التونسيين حماسة ظاهِـرة للحملة الانتخابية التي انطلقت يوم 11 اكتوبر، وبالأخص الشباب الذين، رغم الخطوة الجريئة التي اتّـخذت بتنزيل سِـنّ الانتخاب من 20 إلى 18 عاما، إلا أن انخِـراطهم لا يزال حتى الآن محدودا، باستثناء محاولات لافتة للنظر.
وإذا كان الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) قد نزل بقوّة كعادته، مُـستفيدا من كل أجهزة الدولة، وفي مقدمتها مختلف وسائل الإعلام، فإن منافِـسيه يحاولون تبليغ أصواتهم والتّـعريف بأنفسهم وبألوانهم الحِـزبية من خلال الحِـصص التلفزيونية والإذاعية أو بعقد اجتماعاتهم الإنتخابية في قاعات تنسجِـم مع أحجامهم وإمكاناتهم المحدودة، وهو ما يعمل الحزب الحاكم على تأكيده بوسائل متعدّدة.
لكن الملاحظ أن التّـغطية التي تقوم بها مُـختلف وسائل الإعلام للحملة الإنتخابية، لم تكشف عن وجود حِـوار وطني حول كُـبرى القضايا والتحديات التي ستواجهها البلاد خلال السنوات القادمة، وهو ما جعل أحد المراقبين يعلِّـق بقوله “كأن كل حزب يعيش حالة “مونولوغ”، يُـخاطب نفسه ويُـقنع جمهوره، في حين أن المناسبة تقتضِي الحوار، وربما الصِّـراع فيما بينهم، حتى”، وبدل أن يعمل كلٌّ بطريقته من أجل إقناع الرأي العام بحُـسن بِـضاعته، بدا المشهد وكأنه “سوق مُغلق بلا زبائن”.
ويضيف هذا المراقب “كأني بجميع الفرقاء مُـكتفون بأداء أدوارهم وينتظرون الجَـزاء المقرّر لهم”. وبقطع النظر عن مدى صحّـة هذا الإنطباع، فالمؤكّـد أن الحملة الدائرة، تكاد تكون خالِية من رهانات سياسية حاسمة.
أحزاب موزّعة
الأحزاب التونسية موزّعة على ثلاث مواقف من هذه الإنتخابات. تضُـم المجموعة الأولى، الأحزاب التي تتحرّك ضِـمن ما هو مسموح به، وهي مُـنسجمة مع نفسها واختياراتها التي التَـزمت بها منذ عام 1994، تتجنّـب أي تصعيد ضدّ السلطة، هدفها دعم المكاسِـب ولفت نظر الحُـكم لبعض النقائِـص، ويصفها خصومها بأنها “أحزاب المُـوالاة”، في حين يعتقِـد قادتها بأنهم ينتهجِـون الواقعية في مَـنهجهم السياسي.
وبقطع النظر عن هذا السِّـجال المُـتواصل بين الطرفين، فالمؤكّـد أن هذا الصِّـنف الأول من الأحزاب هو المُـستفيد الرئيسي من هذه الإنتخابات، حيث سيتقاسَـم مرشحوها أغلبية المقاعد البرلمانية (المخصصة سلفا لها)، التي ستبلغ في هذه الدّورة 53 مقعدا من مجموع 241 مقعدا.
وتدلّ المؤشِّـرات على أن حركة الديمقراطيين الإشتراكيين قد تُـحافظ على المرتَـبة الأولى لجهة عدد المقاعد، ويليها حزب الوحدة الشعبية. أما العنصر المجهُـول الأساسي في هذه العملية، فهو حصّـة كل حزب من مُـجمل المقاعد المخصّـصة للمعارضة، والتي أصبحت تشكِّـل الآن رُبع مقاعد مجلس النواب.
الموقف الثاني تمثله حركة التجديد (أو بشكل أدقّ أطراف المُـبادرة الوطنية من أجل الديمقراطية للديمقراطية والتقدم)، إذ بالرغم من الصّـعوبات الإدارية والسياسية التي لا تزال تواجِـهها، فقد حافظت على تمسّـكها بمبدإ المشاركة، رافِـضة ما يُـسمّـى بخيار “الكرسي الشاغر”. ويعتقد مرشّـحها للرئاسية، بأن مشاركته من شأنها أن تُـساهم في “حلحلة الركود وتحريك السَّـواكن والعمل على إعطاء هذه الإنتخابات الرئاسية طابعها التعدّدي والتنافسي، الذي يُـتيح حقا إمكانية الاختيار الحُـر”.
انتخابات “فاقدة للنزاهة والمنافسة”..
وقد حاول هذا الطّـرف أن يُـعامل السلطة بندية، رغم الإختلال في موازين القوى، وبذلك يكون قد أبدى استعدادا للتّـضحية بما حقّـقه من مكاسِـب عددية في مجلس النواب، حيث لا يستبعد أن يخسِـر المقعديْـن اللذيْـن حصَـل عليهما في الإنتخابات السابقة أو يحتفظ بهما دون زيادة، حسب أفضل الإحتمالات، وذلك حسب مقرّبين من حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقا).
ولعلّ هذا الرفع من سقْـف الخطاب السياسي، هو الذي جعله يكسِـب تأييد حزب التكتّـل من أجل العمل والحريات، بعد أن تمّ رفض قبول مرشّـحه للانتخابات الرئاسية د. مصطفى بن جعفر. كما عبّـرت شخصيات عديدة عن دعمِـها السياسي للسيد أحمد بن إبراهيم، مِـثل الوجه الحقوقي والسياسي المعروف خميس الشماري.
أخيرا، اختارت بقِـية الأطراف السياسية موقِـف المقاطعة، اعتقادا منها بأن هذه الإنتخابات “فاقدة لشروط النزاهة والمنافسة الحقيقية”. وقد تعزّزت هذه الجبهة بعد أن أعلن الحزب الديمقراطي التقدمي عن انسحابه من المشاركة، على إثر إسقاط الإدارة لأغلب قائماته، خاصة في المُـدن الرئيسية والتي له فيها حُـضور عددي وسياسي. وبذلك، يكون قد قرّر إعادة سيناريو انتخابات 2004. أما الإسلاميون من أنصار حركة النّـهضة المحظورة، فقد سبق لهم أن أعلَـنوا منذ فترة بأنهم “غير معنيِّـين بهذه الإنتخابات”.
عزوف الشباب عن المشاركة
ورغم التحرّكات التي تُـحاول هذه الأطراف أو بعضها القيام بها من أجل إشعار التونسيين بصحّـة موقفهم، لكن تأثيرها، من المتوقّـع أن يكون محدودا جدّا. فالذين لن يذهبوا يوم الأحد 25 أكتوبر إلى مكاتب الاقتراع، لن يفعلوا ذلك استجابة منهم لنداءات المقاطعة، وإنما لأسباب أخرى مختلفة.
في غمرة هذه الحركية، التي انطلقت يوم الأحد الماضي، يخوض الشاب محمد الحبيب المستيري تجربة نادرة. عمره 29 عاما، يعمل إطارا بشركة خاصة، وجد نفسه على رأس قائمة مستقلّـة بوسط مدينة (زغوان) القريبة من العاصمة التونسية. أما عن الأسباب التي دفعته إلى خوْض هذه التجربة، فقد صرّح لـ swissinfo.ch بأنه “يشارك في هذا المشهد الإنتخابي، رغم نواقصه العديدة وصعوباته”، مؤكِّـدا أن “الشباب هم الفئة الأكثر عُـرضة للتّـهديدات من جرّاء التحوّلات الإجتماعية والإقتصادية، وهو ما يتجلّـى بوضوح في ازدياد نِـسب البطالة في صفوف حامِـلي الشهادات وطول فترة الإنتظار للحصول على عمل وهشاشته وتأخّـر سن الزواج وازدياد الهِـجرة السرية وهجرة الأدمغة”.
واعتبر المستيري أن “طفرة الشباب هدية ديموغرافية وفرصة ذهبية للبلاد، لتجديد مؤسّـساتها ونشْـر قِـيم الجُـرأة والاستقلالية والتواصل وتغيير الثقافة السياسية، بالانتقال من التّـلقين والإكراه، إلى الحوار والاختيار الحُـر وتغيير العِـقد الاجتماعي السياسي من الزبونية والأبَـوية، إلى المشاركة الحُـرة الواعِـية والمسؤولة”. كما يعتقد بأنه “لا يُـمكن اليوم مواجهة المشاكل المطروحة على البلاد، دون التطرّق إلى التمثيلية السياسية للشباب ومدى حضوره في دوائر صُـنع القرار وتأثيره في السياسات الموجهة إليه”.
ملامح ما بعد 2014
أما فيما يتعلّـق بما كشفته له التجربة ومدى توفّـر شروط المشاركة الفِـعلية في هذه اTنتخابات، يقول المستيري بأن القانون الإنتخابي “يحد من المشاركة، وخاصة مشاركة الشباب”. ويفسِّـر ضُـعف المشاركة الشبابية بأن هذه الإشكالية هي “جزء من إشكالية نظام الحُـكم ككل”، مضيفا “المنظومة الحالية للمشاركة، لا تَـروق للشباب، وهي مُـنفرة وفاقدة للرّوح الشبابية الاحتجاجية ومؤطرة بثقافة سُـلطوية. نحن بمشاركتنا، نريد أن نقطع مع العزوف واللامبالاة، ونقول إن شباب اليوم يستطيع أن يلعَـب دورا تاريخيا في بِـناء البلاد بتوجّـه ديمقراطي”.
عزوف الشباب عن الشأن العام وعن المشاركة في الانتخابات، ظاهرة متفشية، لا تزال الأحزاب – بما فيها الحزب الحاكم – عاجِـزة عن التخفيف من وطأتها على الحياة السياسية والمدنية. (عزيز) شاب آخر يمثل عيِّـنة واسعة لم يتجاوَز سنه 19 عاما، من أسْـرة تنتمي إلى الطّـبقة الوسطى، يجهل أسماء الأحزاب ورؤساءها، ولم يتردّد في القول بأن لا عِـلم له بأن الإنتخابات التشريعية والرئاسية ستجري يوم 25 أكتوبر القادم. وباستفساره عن سبب ذلك، أجاب “أكره السياسة ولا أصدِّق الجميع.. ما أعرفه أني قلِـق من احتِـمال عدم وجود عمل بعدَ تخرّجي من الجامعة، وأن أصدقاء لي بدؤوا يفكِّـرون في “الحرقان” (مُـصطلح يُـستعمل في دول شمال إفريقيا للحديث عن عملية الهجرة السرية إلى أوروبا).
مهما كانت التّـقييمات السياسية لهذه الإنتخابات، إلا أنها تبقى مهمّـة لأسباب عديدة. ولعلّ في مقدمتها أنها ستضَـع الجميع، بعد الإعلان عن نتائجها، أمام مرحلة جديدة ستؤثِّـر بشكل كبير على مُـستقبل البلاد عموما، ومستقبل النظام السياسي بشكل أخص. فالسنوات الخمس القادمة، ستشكِّـل ملامِـح الوضع الذي سيعقب سنة 2014.
صلاح الدين الجورشي – تونس – swissinfo.ch
المرشحون لخوض انتخابات الرئاسة في 25 أكتوبر 2009:
زين العابدين بن علي، رئيس التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم.
محمد بوشيحة، الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية (حزب معارض مؤيد للرئيس بن علي وممثل في البرلمان).
أحمد الإينوبلي، الأمين العام للاتحاد الديمقراطي الوحدوي (حزب معارض مؤيد للرئيس بن علي وممثل في البرلمان).
أحمد بن إبراهيم، الأمين العام لحزب التجديد (الشيوعي سابقا، حزب معارض وممثل في البرلمان).
نتائج الإنتخابات الرئاسية التي نظمت يوم 24 أكتوبر 2004
زين العابدين بن علي (مرشح التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الحاكم منذ عام 1956): 94،48% من الأصوات.
محمد بوشيحة (مرشح حزب الوحدة الشعبية، ممثل في البرلمان): 3،78% من الأصوات.
محمد علي الحلواني (مرشح حركة التجديد (الشيوعي سابقا)، ممثل في البرلمان): 0،95 في المائة من الأصوات .
منير الباجي (مرشح الحزب الاجتماعي التحرري، ممثل في البرلمان): 0،79% من الأصوات.
نتائج أول انتخابات رئاسية تعددية أجريت يوم 24 أكتوبر 1999
زين العابدين بن علي (مرشح التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الحاكم منذ عام 1956): 99،45% من الأصوات.
محمد بلحاج عمر (مرشح حزب الوحدة الشعبية، ممثل في البرلمان): 0،31% من الأصوات
عبد الرحمان التليلي (مرشح الإتحاد الديمقراطي الوحدوي، ممثل في البرلمان): 0،23% من الأصوات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.